مجلة الرسالة/العدد 42/القصص

مجلة الرسالة/العدد 42/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 04 - 1934



من أقاصيص العرب

وضاح الشاعر

بقلم احمد حسن الزيات

- 1 -

في اليمن الخضراء، وفي صنعاء ذات الظل والماء، نشأ وضاح أزهر اللون، أصهب الشعر، مليح القسمات، رقيق الأديم، ثم ترعرع بين خمائل الأودية ومروج السهول وأزاهير الربى فازداد رواء وجهارة.

وإذا كان الجمل يكتسب لون الصحراء. والسمك يستفيد مرونة الماء، والطاووس يستعير أفواف الروض؛ فان اليمانيين لم تصلهم بطبيعتهم ولا بيئتهم صلة، فهم سمر الوجوه ضئال الجسوم قصار القدود، وأرضهم مشرقة الأجواء مونقة المناظر خصبة التربة. لذلك رابهم وضاح بقدر ما راعهم، فقالوا إنه من أبناء الفرس الطارئين على اليمن في عهد ابن ذي يزن، ولكن الحكم سفه هذا الرأي وقضى بعربيته

لا يعنيك ولا يعنيني أن نكشف عن دخيلة هذا الشاب فنصف تاريخ أسرته وحقيقة ثروته وطبيعة عمله، إنما يعنينا من وضاح ذلك الفتى الطرير الذي أشقاه شعره وأبأسه شعوره وقتله جماله.

نريد أن ننقل عن لوح القدر هذه الصفحة الدامية التي كتبت لهذا البائس وجرت عليه في غير رفق ولا هوادة.

كان وضاح الجميل الشاعر كالبلبل يعرف في نفسه جمال الريش وجمال الصوت، فهو لا ينفك في حذر من الصائد، وخوف من القفص، فكان يغشى المواسم والأسواق وهو مقنع منتقب خيفة الحاسد وحذر المرأة!!

ولكن المرأة كانت تعترضه بكل سبيل، وتترقبه في كل مرصد، وتتراءى له في كل مكان: تحت النخيل، وفي الأسواق، وعلى الماء، وهو لا يزداد إلا تمنعاً وترفعاً ووحشة، لأنه محبوب ومن طباع المحبوب الادلال؛ ولأنه مطلوب ومن غرائز المطلوب الهرب، ولم يجد مع ذلك فيمن رأى من النساء روحا جذابة ولا قوة غلابة ولا جمالا أبرع من جماله، على أن وضاحاً خلق للحب وكتبت عليه فيه الشهادة! فعيناه على غير علمه ترتادان الحبيب، وقلبه من قلقه وانتظاره يضطرب في حنايا صدره، وعواطفه من اضطرامها وانبساطها تكاد تسيل، وكان يفر من ضوضاء صنعاء ومتاجرها وقوافلها، إلى سكون الصحراء الرهيب، وهدوء الطبيعة الموحش، فيضي سحابة نهاره جالساً في روضة، أو مستلقياً على غدير، أو نائماً في مغارة؛ كأنه نبي من أنبياء بني إسرائيل - ينتظر الرسالة.

- 2 -

ففي صباح يوم من أيام الربيع مشرق الأديم عنبري النسيم منضور الخمائل استهوته الطبيعة فأخذ يضرب في الأرض حتى متع النهار، وإذا هو على ماء من امواه (الخصيب) من قرى اليمن، وفي الخصيب شد الجمال إطنابه وشاد الحب معبده. والعرب يقولون لك: إذا بلغت ارض الخصيب فهرول!

فجلس وضاح ينضح ظمأه ويرفه عن نفسه إلى أن طاف به الكرى فنام.

تنبه وضاح ساعة الأصيل على صوت رخيم الحواشي، متسق النبرات في رنين الفضة. فنظر فرأى حورية من حواري الحقول قد حسرت عن ساقها وغمست رجلا في الغدير ووضعت رجلا على الحافة وهي منحنية على الماء، تجمع ثوبها بيد وتملأ سقاءها بيد. فرجف قلبه وبرق بصره وخيل إليه أن عينه لم تقع من قبل على فتاة، فنهض يملأ من هذا المنظر الرائع عينيه فلفتتها حركته. فرفعت بصرها إليه في سكون طرف وفتور لحظ. وكأنها همت بالنكوص لولا أن رأت منه ما رأى منها. فوقفت جامدة لا تتحرك، وشاخصة لا تطرف، بل أحست من نفسها الهفوان إليه حين تقابل النظران وتجاذب القلبان وتمشى إليها مشية الحباب في حياء ووناء ورقة. حياها فردت التحية، واستنسبها فانتسبت كندية، واستسماها فقالت (روضة)

ثم جرى بين المحبين حديث الشباب الحيي المضطرب الحائر. . ويكاد نصه يكون واحداً على اختلاف الألسنة والأزمنة فلا نثبته، وكيف يثبت كلام الناظر للناظر، وتدفق الخاطر في الخاطر، وعناق القلب للقلب، وامتزاج النفس بالنفس، ولحن اللسان للسان؟؟

كانت روضة كما تشتهي كل فتاة أن تكون، فهي كما صورها وضاح في شعره (كاعب وضيئة الطلعة لطيفة التكوين مصقولة الجبين يزينه شعر أثيت أشقر كذنب الكميت، زجاء الحاجبين كأنهما شقا بقلم، تقوساً على مثل عين الظبية، ساجية الطرف، ذلفاء الانف، عبلة الذراعين لا ترى فيهما عظما يحس ولا عرقا يجس، طفلة الكفين تعقد ان شئت منهما الأنامل، ممشوقة القد قد أفرغت في قالب الحسن.

وجد كل منهما في الآخر مشابه في زهرة الوجه وصهبة الشعر وهجنة النسب بالدم الفارسي. فتعارفا بلحظة، وتفاهما بلفظة، وتآلفا تألف الاخدان كأنما كانا على موعد!

طوت شمس الطفل الغاربة مطارفها العسجدية عن السهول والحقول فلم يبق منها الاهلاهل على رؤوس التلال وشعاف الجبال وأعراض النخيل، وأخذ الرعاة يروحون بالقطعان إلى الحظائر، وآن للراعية الحسناء كذلك أن تؤوب! فقامت روضة متنافلة، وودعته متخاذلة: وسارت وراء قطيعها تتهادى في مرطها المفوف ونطاقها المحبوك وخمارها الأسود كأنها آلهة الرعاة أو تمثال الحسن

تلاقيا مرة أخرى في سرة الوادي المعشب وقد عملت فيه يد الطبيعة فازَّرته بعميم النبت، وطرزته بألوان الزهر، وضمختة بعبير الخزامي وريا البشام وأرج الرند. فجلسا ساعة تحت دوحة يتساقطان عذب الحديث، ويتناشدان حلو الغزل، ويتساقيان كؤوس الهوى، ثم نهضا يسيران صاعدين تارة في مدارج السيل، وهابطين تارة إلى قرارة السهل، يجنيان الكمأة ويقطفان البهار ويلتقطان الجزع المفصل. فلما نفضت الشمس على الأفق الغربي تبر الأصيل توادعاً ثم تواعدا على اللقاء وتعاهدا على الوفاء بعد أن شق عليها رداءه وشقت عليه هي برقعها استدامة للحب وبقيا على الهوى!

- 3 -

ظل العاشقان في غفلة الزمان والإنسان يتلاقيان كل يوم على خلاء، حتى نم على هواهما شعر وضاح، فتنبئه الغافل وتحرش العاذل وتحذر الأهل، فحالوا بينها وبين لقائه وتوعدوه.

فكان وضاح يأتي كل يوم على عادته فيجلس في الأماكن التي إعتادها، ويرتاد الغياض التي ارتادها؛ ويستروح النعامي والخزامي فلا يجد قراراً في مكان، ولا جمالا في طبيعة، ولا روحاً في أرج، فيدنو من الحصيب يترصد غفلة القوم ويتنسم ريح روضة ويقول:

يهددوني كيما أخافهم ... هيهات أنى يهدد الأسد؟ حتى لقي ذات مساء عبدها الذي كان يرعى عليها رائحاً بالقطيع إلى مزاحه، فجعله رسالة إليها يطلب فيها أن توافيه على الكثيب متى غفت العين وهدأت القدم، فوافته في إحدى أترابها، فجلسا على الحصباء يتشاكيان حرقة الجوى وتحكم الهوى وتعقب الرقيب، وأخذت روضة تحكي لوضاح كيف استفاض الخبر وخاض فيه الناس، وكيف حجبها أخوتها وراقبوها بعين لا تغفل، وذكرت له والدمع يتقاطر من عينيها أنهم صمموا على رفض خطبته ومنع تزويجه، وقرروا تزويجها من موسر كثيف الظل جافي الخلقة، وحذرته أن يدنو من الحي فان قومها يأتمرون به.

غلى جوف وضاح وعصفت في رأسه الحمية، ونزت بقلبه الصبابة، وعقد نيته على معالجة الأمر بالحزم، ومواجهة الخطر بالصراحة، وقرر زيارتها في دارها بعد هذا الحوار البديع الذي خلده وضاح في هذه القصيدة:

قالت: ألا لا تلجن دارنا ... إن أبانا رجل غائر

قلت: فإني طالب غرة ... منه وسيفي صارم باتر

قالت: فان القصر من دوننا ... قلت: فإني فوقه ظاهر

قالت: فان البحر من دوننا ... قلت: فإني سابح ماهر

قالت: فحولي اخوة سبعة ... قلت فإني غالب قاهر

قالت: فليث رابض دوننا ... قلت فإني أسد عاقر

قالت: فان الله من فوقنا=قلت فربي راحم غافر

قالت: لقد أعييتنا حجة ... فأت إذا ما هجع السامر

واسقط علينا كسقوط الندى ... ليلة لا ناه ولا زاجر

وفي الليلة التالية كان وضاح في طريقة إلى الخصيب، وكان أخوة روضة وعمومتها يرصدون سبيله ويطلبون لقاءه، بعد أن عملوا من الرقيب اجتماع الكثيب، وكانت الحبيبة على علم بخروج القوم وقدوم المحب المخاطر فطرقت مضعجها الهموم، وتخالجت قلبها الوساوس، وأخذها عليه المقيم المعقد.

لم يطل انتظار الجماعة للفرد فتلاقوا وراء الوادي: ثم كان عتاب على الأشعار الجارحة، وسباب على الشهرة الفاضحة؛ وقتال انتهى بطعنة تلقاها المحب في موضع حبه. ثم خلا المكان إلا من جريح يئن، وفرس يحمحم؛ وتحامل على نفسه وضاح فضمد جرحه وركب جواده وقفل راجعاً إلى أهله.

قضى المسكين شهرين على فراش الألم يتضور من ضربان الجرح وهذيان الحمى وثوران الحب. ولكن الجرح كان قريب الغور فاندمل، والحمى كانت عارضة فأقلعت، والحب؟ هذا هو المرض المخامر والداء العياء، فليس له غير الله من آس ولا طبيب، لذلك نصحوا لوضاح أن يحج البيت فشد إليه رواحله. وسنلقاه هناك بعد قليل.

- 4 -

أذن مؤذن الحج للمرة الثمانين بعد الهجرة، فسالت فجاج الجزيرة بالقباب والهوادج، وشرقت دروب الحجاز ومسالكه بالناس رجالاً وعلى كل ضامر، واكتظت بطاح مكة ورباعها بالحجيج من الشام والعراق واليمن، ودوي الفضاء المشرق بأصوات التهليل والتلبية، وروي الثرى المكروب من دماء البدن والضحايا، وتعطر الجو القائظ بأنفاس الحسان الغيد، وفاضت أندية مكة النبيلة بالقصف والعزف والغزل، وخرج الشعراء من بني الأنصار والمهاجرين في مطارف الخز وبرود الوشى على النجائب المخضوبة، يتعرضون للغواني المحرمات، ويقطفون من فوق شفاهها اللعس ألفاظ الدعاء، قبل أن ترفع إلى السماء، وهناك على الربوة العالية ضرب الفسطاط الرفيع العماد، وفرشت الطنافس، ونصبت الأرائك، وصفت النمارق، ونضدت الوسائد، وقامت الجواري والولائد، وعلقت السدول والستائر، وبرزت من خلالها زوج الخليفة في زينتها وفتنتها ترسل النظر تارة إلى الأفق البعيد، وتارة تتصفح به الوجوه المختلفة والأزياء المتعددة، والناس يتحامون جانبها ويتهيبون ظلالها لهيبة الملك وشراسة الجند وجلال الخلافة. حتى الشعراء من شباب الهاشميين وخلفاء ابن أبي ربيعة لم يجرؤا أن يمدوا إلى جمالها الفاتن عيناً ولا لساناً، لأن الخليفة كتب (يتوعد الشعراء جميعاً أن ذكرها أحد منهم أو ذكر أحد ممن تبعها) ولكن الملكة تريد على رغم الملك أن تكون من عرائس الشعر، وأن تظهر في ديوان الشاعر، كما ظهرت في ديوان الملك. والشعر في الحجاز كان حينئذ للمرأة، يصف حالها ويعرض جمالها فتصل من طريقه إما إلى الزواج وإما إلى الشهرة. فتراءت الملكة للناس وسهلت للغزالين الحجاب.

وكان وضاح يومئذ مشغولا عن الشعر والشعراء بنفسه، فهو يطوف بالبيت ويتعلق بستور الكعبة، ويسأل الله انه يشعب قلبه بالسلوة. حتى إذا خرج الحجيج إلى عرفات وتطاولت الرقاب، وتطلعت العيون، وأومأت الأصابع إلى موكب الملكة الحاشد، جذبه جلال الحاجة النبيلة وجمال وصائفها فدنا من فلكها، فوجد كهنة الحب وشياطين الشعر يسايرون ركابها ويراقبون سناها. فمشى بجانب الشاعر كثير، ووقعت عين الملكة عليه فراعها جماله، وعلقتها حباله. فأشارت بطرف العين إلى جاريتها غاضرة فأثبتت معرفته.

فلما أفاض الناس من عرفات، وانحدروا إلى مرمى الجمرات، وقفت بجانبه فتاة فتانة ناهد، وأسرت إليه وهو يرجم الشيطان أن الملكة تريد لقاءه في مخيمها على (منى)

اضطرب وضاح لهذه الإرادة وخشي عاقبة هذه الدعوة، وتردد طويلا في الذهاب إلى هذا الموعد، لان هذا الحب الملكي اكبر من عواطفه، ولان قلبه الجريح لا يزال يقطر في لفائفه، ولأن خيال (روضة) يعتاده في جميع مواقفه، ولكنه عربي!! والعربي طماع طماح مخاطر. فلماذا لا يبذ الشعراء ويكبت الأعداء بالسبق إلى جمال الملكة ومال الخليفة؟؟

أمسى المساء، وكان هلال ذي الحجة قد توارى بضوئه الشاحب خلف الجبل، وأخذت الأضواء المنبعثة من بواقي المشاعل والمصابيح والكوانين تكافح ظلمة الغسق، والقي الناس أرواقهم على الرمال مجهودين بعد نهار قائظ احمرت حواشيه من دماء القرابين، وضرب الكرى على آذان العامة فلم يبق يقظان إلا ذوو الحس الرقيق ممن جرهم جمال الليل إلى جمال السمر، وإلا نفسان شاعرتان بسط الحب عليهما جناحه، وأزال ما بينهما من فروق، ورفع ما يفصلهما من حواجز، حتى التقى ابن آدم ببنت حواء وجهاً لوجه، وأقبلت الملكة على وضاح اليمن تناقله الحديث، وتساجله الشعر، وتنصب له شرك الفتنة في مطاوي اللفظ، وتسدد إلى قلبه سهم الغواية في مرامي اللحظ، وحسبنا أن نروي من هذا الحديث المشفق العذب هذا الحوار:

- وكيف حال روضة بعدك يا وضاح؟

- على شر حال وا أسفاه! زوجوها من موسر مجذوم فأعداها بالجذام!!

- وما حالك أنت من بعدها؟

- أما قبل هذه الليلة فكنت لا انتفع بنفسي ولا اشعر بوجودي - ومنذ الليلة؟

- منذ الليلة عرفت نعيم السماء بعد ما عرفت في الخصيب نعيم الأرض

- إذن ستحبني؟؟

- نعم ولو خيرت ما اخترت

- وستنسب بي في شعرك؟

- نعم ولو كره الخليفة

- أذن اصحبني إلى دمشق فامدح الخليفة. وسأرفدك لديه واقوي أمرك عنده

- 5 -

وعلى نهر بردى وفي القصر المشيد زكت شجرة الحب حتى عرشت على كل حائط؛ وسطعت فوحتها في كل انف، وتهدلت أغصانها المزهرة على سرير الخليفة، ودنت قطوفها المجرمة من فم المجنون وليلاه؛ فاكلت منها حواء وجرت إلى الخطيئة آدم! وآدم دائماً هو الذي يكفر عن الخطيئة!!

ظل وضاح ابن الطبيعة الطليقة سجيناً في الخليفة قصر لا يبصر سماء ولا أرضاً، ولا يرى غديراً ولا روضاً، ولا يسمع حركة ولا صوتا ,. ولا يشعر بمجرى الحياة إلا حينما تخرجه الملكة من مخبئة ساعة يغفل الرقيب وتغفو العين المريبة. فتطارحه أحاديث الغزل. وتسقيه من سلاف الهوى عللا بعد نهل. ثم ترده عند الخوف إلى مأمنه.

ومضت على تلك الحال حقبة من الدهر ورفت عليهما ظلال الأمن فيها. ولكن وجه الجريمة وقاح لابد من سفوره. وريحها ذفر مهما كتمته فلا مناص من ظهوره. والخطيئة لا يطهرها إلا عقوبة أو ضحية!

فأهدى إلى الخليفة ذات يوم جوهر نفيس فراقه حسنه. وأحب أن يطرف به الملكة. فبعث به إليها مع خادم له ومعه كلمة رقيقة. فمضى الغلام بالتحفة إلى مجلس الملكة فلم يجدها، وعلم أنها في بعض الغرف فدخلها عليها مفاجأة، وكانت قد أحست بخطاه دون الباب فبادرت إلى إخفاء وضاح فأدخلته في صندوق وأغلقته. وحينئذ دخل الغلام فرأى أواخر جسمه تغيب تحت الغطاء. فأدى إلى الملكة الرسالة ودفع إليها الجوهر، ثم قال لها بلهجة الخبيث الماكر: ألا تهبين لعبدك يا مولاتي حجرا من هذا الجوهر؟ فأجابته الملكة بلهجة العزيز الممتعض: (كلا يا بن اللخناء ولا كرامة)

ولعلها لو كانت تحسن قراءة الوجوه لحشت فمه بهذا الجوهر حتى لا ينطق. أو لعلها فهمت لحن قوله، ولكن نفسها الملكة الأبية أنفت الخشوع، لهذا العبد فآثرت نقمة زوجها على نغمة خادمه وهي مع ذلك قوية الثقة في شفاعة الجمال ووساطة الحب! ومهما تكن الدوافع إلى هذا الجواب فأن الخادم قد ارتد إلى سيده بجلية الأمر. ولكن الأمر نزل من خليفة معاوية في بال واسع. فأمر بالغلام فوجئت عنقه. ثم لبس نعليه ودخل على زوجه وهي جالسة تمشط في تلك الغرفة. فجلس على الصندوق وقد علم وصفه من الغلام، ثم قال بلهجته الهادئة الرزينة:

- ما أحب إليك هذا البيت من بين بيوتك. فلم تختارينه؟

- اختاره واجلس فيه لأنه يجمع حوائجي كلها فأتناولها منه كما أريد من قرب

ألا تهبين لي صندوقاً من هذه الصناديق؟

- كلها لك يا أمير المؤمنين!

- ما أريدها كلها. وإنما أريد واحداً منها

- خذ أيها شئت

- أريد هذه الذي جلست عليه

- خذ غيره فأن لي فيه أشياء احتاج إليها

- ما أريد غيره!.

- إذن خذ يا أمير المؤمنين

فأشار إلى الخدم فحملوه إلى مجلسه. ثم أمر العبيد فحفروا تحت بساطه بئراً بلغوا بها الماء. ثم دعا بالصندوق أو الناووس وقال له:

(انه بلغنا شيء. . إن كان حقاً فقد كفناك ودفناك ودفنا ذكرك وقطعنا أثرك إلى آخر الدهر. وان كان باطلا فقد دفنا الخشب، وما أهون ذلك!!)

ثم قذف به في البئر! وهيل التراب، وسويت الأرض، ورد البساط، وأخذ الخليفة مجلسه. واستمر الفلك يدور دورانه الأبدي المنتظم

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر!! الزيات