مجلة الرسالة/العدد 420/استقلال مصر

مجلة الرسالة/العدد 420/استقلال مصر

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 07 - 1941



من الجهة التاريخية

للأستاذ محمد توحيد السلحدار بك

روى مصريون أن زعيمين من ساستنا باحثا اللورد اللنبي وتدهيا له حتى ألان لمصر جناحه وتطوع لنصرة قضيتها. وزعم آخرون أن مصرياً غيرهما هو الذي حج اللورد حتى سلم بحق المصريين في الاستقلال، ووعد بان يقدم إلى حكومته اقتراحات إذا هي رفضتها استقال، وقد وفى بوعده الذي كان أشبه بحلم منه بالحقيقة الواقعة

وإذا كان في معرفة الحقيقة التاريخية فائدة فإنه يحسن بكل مصري وقف على شيء يتعلق باستقلال بلاده أن ينشر ما عرف، لكي تتضح تلك الحقيقة بأجمعها. ومن هذه القبيل ما يلي ذكره في سبيل المصلحة العامة

في أذيال الحرب الكبيرة الماضية - التي أتلفت الملايين من الأنفس والأموال وانتصر فيها الإنجليز وحلفاؤهم - اضطرت الجيوش البريطانية إلى الجلاء عن تفليس، وباطوم، وعشق آباد، وبخاري، وشمال إيران. ولما حلت الجنود الفرنسية في سورية محل القوات البريطانية لن تفي هذه القوات بحاجة الجيوش التي كان حشدها ضرورياً لقمع الثورات في تركيا،

وإيران، وكردستان والعراق، ولحماية المصالح البريطانية المتعلقة بمناطق البترول القوقازية والعراقية والإيرانية. وكان اللورد كتشنر يصرح بأنه لا يستطيع في أية حال أن يحمي بجيش الهند وحده منطقة في إيران أكبر من منطقة النفوذ التي عينها لإنجلترا الاتفاق الإنجليزي الروسي المعقود سنة 1907. أما المستر لويد جورج، رئيس الوزارة، فقد رأى أن اليونان تستطيع حراسة المصالح البريطانية في آسيا الصغرى، وأراد أن يكلف جيش الهند حفظ المصالح البريطانية الجديدة في الشرق. لذلك شكلت لجنة خاصة تحت رياسة اللورد اشر مهمتها أن تحل مسألة تعديل نظام الجيش الهندي وتكبيره، فأهملت هذه اللجنة قانوناً صدر سنة 1858 وفيه نص صريح على أن الجيش الهندي يجب أن يبقي في الهند، إذ ختمت أعمالها بقرار مضمونه أن هذا الجيش لم يبق في الإمكان اعتباره قوة محلية دائرة أعمالها محصورة داخل حدود الهند، بل يجب عده قسماً من جنود الإمبراطورية، مستعداً للخدمة في أية جهة من العالم

كانت الحرب العالمية قد وسعت دائرة أعمال ذلك الجيش فأكسبت سكان الهند - ولا سيما المسلمين الذين منهم صفوة الجنود الأهلية - حق إبداء رأيهم في تسوية السلم في الشرق. فلما نشر تقرير اللورد أشر، بعد أن أمضيت معاهدة سيفر، قامت في الهند ضجة غضب؛ ونشرت التيمس يومئذ في عددي 5 و6 من نوفمبر سنة 1920 كتاباً مطولاً من أغا خان نبه فيه أصدقاءه من البريطانيين إلى أن هذه السياسة لا تلائم العلاقات بين بريطانيا العظمى والهند، ونصح بالعدول عن احتلال مناطق البترول وبمساعدة القبائل العربية، مساعدة مالية، لتقوم هي في مقابل هذه المساعدة بحماية معامل البترول وأنابيبه. وقد وقع هذا الكتاب أحسن وقع لدى الرأي العام البريطاني، إذ كان في قلق من كثرة الخسارة في الرجال والمال للجيش القائم باحتلال كردستان والعراق وإيران، البالغ قرابة ألف جندي

هذا، وقد كانت المسألة العربية من جهة أخرى تستوقف نظر البريطانيين لأسباب منها: خلع الفرنسيين للملك فيصل، والحركة الوطنية في مصر، واستئناف المنافسة بين الحجاز ونجد. وقد تبين من تقريري اللجنة التي أرسلت إلى الهند ولجنة ملنر أنه يصعب تكبير الجيش الهندي بعيد الحرب، وأن من الحكمة أن تعدل حكومة لندن سياستها الشرقية. ثم لوحظ أن لكل من بريطانيا وأمريكا مصلحة في مسألة البترول، وأن الدولتين متجهتان إلى زيادة التسلح البحري - الذي يستلزم زيادة الإنفاق - وأن الحكومة البريطانية كانت قد وعدت العرب بمساعدتهم في طلب الاستقلال وصرَحت بموافقتها على مبادئ ولسن المشترطة للصلح

من أجل ذلك كله عقد بالقاهرة في آخر مارس سنة 1921 مؤتمر كبير تحت رياسة المستر ونستن تشرشل وزير المستعمرات يومئذ، حضره الكولونيل لورنس (وكان المستر تشرشل قد جعله وكيل وزارته لشؤون الشرق) وجميع البارزين في السياسة الشرقية الإنجليزية: المس جرترود بل، والمارشال اللنبي، والسير برسي كوكس، والسير هربرت صمويل، والسير جلبرت كلايتون، والكولونيل كورنواليس، وغيرهم، وكان الغرض من عقد هذا المؤتمر أن يحل مسألة إنقاص قوات الاحتلال في إيران، وكردستان، والعراق، ويحل مسألة مصر وبلاد العرب؛ وقد ختم أعماله بالقرارات التالي بيانها: 1 - التسليم بضرورة تعديل تام للسياسة الإمبراطورية في البلاد العربية والشرق الأوسط.

2 - إهمال مبدأ الضم والحمايات.

3 - الاعتراف باستقلال الشعوب الشرقية، ومعاقدتها بمعاهدات تحالف.

4 - أن يجلس على عرش مصر ملك

5 - وضع دستور الهند.

6 - إجلاس الأمير فيصل على عرش العراق، وتولية الأمير عبد الله إمارة شرق الأردن.

7 - إيجاد طريق إمبراطوري جديد يعبر الصحراء بين فلسطين والعراق ويصل بور سعيد وحيفا ببغداد والبصرة؛ وتنشأ في مواضع مختارة منه محطات للطيارات والسيارات المصفحة تضمن حماية جميع المصالح

أفكانت حجج أولئك الساسة المصرين - التي سلَم اللورد اللنبي بصحتها - هي سبب مؤتمر القاهرة أم سبقت قرارات المؤتمر تلك الحجج فهيأت البريطانيين لذلك التسليم الذي أشبه الأحلام عندنا؟ وهل كفى تصريح 28 فبراير سنة 1922 ومعاهدة سنة 1936 لتحقيق استقلالنا، ولضمان المصالح البريطانية كلها، أم ضحت بريطانيا بشيء لتوثيق الصداقة بينها وبيننا؟

لست أدري، بل لعلي زدت المسألة غموضاً من حيث حاولت المشاركة في إيضاحها فذكرت بعض ما أعرف، وقد يوفق غيري لبيان أدق وأكمل

وحسبنا الآن ما ظهر من أننا حقاً مستقلون للأسباب التي حملت الإنجليز على تعديل سياستهم الإمبراطورية، وعلى الاعتراف باستقلال الشعوب الشرقية، في مؤتمرهم الذي عقدوه في عاصمتنا وما زال أمره خافياً - فيما أظن - على الأكثرين منا، والله أعلم

محمد توحيد السلحدار