مجلة الرسالة/العدد 422/الحديث ذو شجون

مجلة الرسالة/العدد 422/الحديث ذو شجون

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 08 - 1941


للدكتور زكي مبارك

بعض ما علمتني الأيام - الشيخ عباس الجمل - فكاهة سياسية - كاريكاتور طريف - جناية الكتابة على الشعر والخطابة - كيف نعامل رجال الوعظ والارشاد.

بعض ما علمتني الأيام

تلقيت عن الأيام دروساً تفوق العدّ والإحصاء، وإن كنت قليل الانتفاع بتلك الدروس. . . وهل ينتفع جميع الناس بما يتعلمون؟ لو كان ذلك لصرتُ أحكم الحكماء، فلي من الدهر في كل يوم درسٌ جديد، مع الوعي الصحيح لما أسمع من دروس الزمان.

ولكني مع ذلك انتفعت بدرسٍ واحد، وأحب أن ينتفع به قرائي، فما هذا الدرس؟.

هو الخوف الشديد من أحاديث المجالس، فأنا لا أتكلم أبداً في الشؤون الدينية أو السياسية أو الاجتماعية حين أقابل الناس أو حين أزور الأندية في بعض الأحايين، لأني أعرف أن التزيد والتحريف صارا من عيوب بني آدم في هذه الأيام، ولا يجوز ائتمان مخلوقات هذا العصر على مكنون الأفكار والآراء، لأن حظهم من صدق الرواية صار غاية في الغثائة والهزال.

وذلك هو السر في إقلالي من غشيان الأندية والاتصال بالناس، حتى جاز اتهامي بالنقرة من بني آدم وإيثار العزلة والانفراد، مع أني في حقيقة الأمر رجلٌ ألوف، ولا أختار العزلة إلا طلباً للسلامة مع التزايد والافتراء.

فما العبرة من هذا الدرس؟ وما الذي أنصح به قرائي؟

أنا أرى أن نخاطب الناس عن طريق الجرائد والمجلات، أو عن طريق المؤلفات، فلا نعلن رأياً إلا وهو نص مكتوب بعجز عن تحريفه المفترون، وإلا فمن حق كل مخلوق أن يتزيد علينا كيف شاء.

إن النصوص المكتوبة لا تسلم من تحريف المغرضين، فكيف يسلم الكلام المرسل في أحد المجالس وفيها أوشاب لا تعيش إلا من الإفك والإرجاف؟.

إن التحريف الذي ابتُليتْ به آرائي المدوَّنة في مقالاتي ومؤلفاتي قد آذاني، فكيف يكون حالي لو أرسلت نفسي على سجيتها وحدثت الناس بما أراه في الأدب والحياة؟.

من الجريمة أن نحدّث الناس في شؤون يُخاف عليها من التحريف، ومن الجريمة أن يكون اللسان وحده أداة التعبير وهو لا يرسل غير لفظٍ وصفة القدماء بأنه عَرَضٌ سيَّال؟.

يجب أن يكون القلم أداة التعبير في دقائق الشؤون، لأنه يحدد أغراضنا تحديداً يمكن الاحتكامم إليه عند اشتجار الخلاف.

أَقِلّوا من أحاديث المجالس، يا قرائي، لتسلموا من أكاذيب المفترين، فما وثق أحد بالناس في غير حذر ولا احتراس إلا سقوه الصاب والعلقم، وأكرهوه على الوقوع في الخطيئة الدميمة وهي اليأس من الثقة بإخوان الزمان.

ما الموجب للثرثرة في الأندية والمجالس وعندنا من الجرائد والمجلات ما يتسع لنشر ما نريد من الأفكار والآراء؟.

إرحموا أنفسكم من أوزار التحريف لما يصدُر عنكم، واعرفوا جيداً أن المبادئ لا تخدَم بالقيل والقال بين أجواف الجُدران، وإنما تخدَم المبادئ بالقول الصريح الذي يعجز عن تحريفه أصحاب الأغراض المِراض.

ثم ماذا؟.

ثم أوصيكم بأن تكونوا رقباء على أنفسكم، فلا تقولوا في السر ما تعجزون عن نشره في العلانية، وما أوصيكم إلا بما أوصي به نفسي، فأنا لا أقول كلمة في مجلسٍ خاصْ إلا إذا عرفت أني أملك نشرها على الجمهور بلا تهيب ولا إشفاق، ولو شئت لقلت بدون أن يكذّبني أحد المكابرين. إن لساني في غاية من التلطف والترافق، وإن اشتهر قلمي بالشطط والجموح، وما كان ذلك كذلك إلا لأني أكره المواربة وأبغض الاستخفاء، وما حقد عليَّ حاقدٌ إلا بما قلت فيه بكلام منشور في الجرائد والمجلات يملك الرد عليه حين يشاء. أما إيذاء الناس في السر فلا أستطيعه أبداً لأن الله تباركت أسماؤه عصمني من رذيلة الاغتياب، فله الحمد وعليه الثناء.

الشيخ عباس الجمل

من أفظع الشواهد على أن أدباء مصر لا يعطف بعضهم على بعض، ولا يبكي أحدهم لكربة أخيه، ولا يسأل عنه حين يغيب، ولا يلتفت إليه إلا حين يسمع عَرَضاً أنه صار إلى بؤس أو نعيم. . . من افظع الشواهد على انعدام خلة الوفاء بين الأدباء المصريين أنهم لم يسمعوا أن الأستاذ عباس الجمل يعاني علة دامية - سينجو منها بإذن الله - وأنه كان يجب عليهم أن يواسوه في جميع الجرائد والمجلات بما يدفع عنه العلة والعناء؛ فقد يكون في الكلمة الطيبة ما يزوَّد الجسم بقوة المناعة ويقلّم أظفار الداء. ولكن أين من يفهم هذه المعاني؟!.

فجعُ الشيخ بغَرَق ابنه (طاهر) وهو يقارع أمواج البحرين في دمياط فما تحركت يراعة أديب لمواساته في ذلك الرزء الجليل!.

وبُتِرتْ ساق الشيخ عباس منذ أسابيع، فما بكى شاعر، لا تأثر كاتب لمصيبة الأديب الذي كانت مشيته في شوارع القاهرة أرشق من مشية الأسد المختال!.

عباس الجمل في أحزان وكروب منذ خمس سنين، فأين الكاتب الذي واساه؟ وأين الشاعر الذي جعل بلاءه بالزمان موضوعاً لنشيدٍ جميل يصوِّر بلاء الرجال بالزمان!!.

شفاك الله يا صديقي، وشفي من أجلك كل عليل!!.

فكاهة سياسية

كان الحزب السعدي دعا إلى إعلان الحرب على الطليان والألمان، وهي الدعوة التي استوجبت إلقاء أطول خطبة سياسية في العهد الجديد، وهي خطبة الدكتور أحمد ماهر باشا في مجلس النواب، فقد استغرقت ست ساعات، على نحو ما كانت تستغرق خطب سُبحان وهو يَهْدر بين السِّماطَين!.

ولكن أنصار الحزب السعدي ليسوا جميعاً أعضاء في مجلس النواب، فكان الخطيب يشرح لسائر الأنصار وجاهة القول بإعلان الحرب، فكان الخطيب المختار هو الشيخ عباس الجمل. . . وما كاد الشيخ يعتلي الخطابة، حتى عوَت صَفارة الإنذار فأجَّل خطبته إلى أسبوع مُقبل، ودار الأسبوع وجاء الشيخ يُلقي خطبته، فعوَت صَفارة الإنذار من جديد!.

وهنا قالت جريدة المصري: سترى كيف تُلاحقك الغارات يا شيخ عباس!.

فأجابت جريدة الدستور: إن صحّ هذا النذير، ففي مصر طابور خامس!.

كاريكاتور ظريف

نبغت الصحف المصرية في إبداع الصور الكاريكاتورية برغم ما يقع فيها أحياناً من سخافات؛ ومن أبدع ما رأيت صورة نشرتها مجلة (الشعلة) لميزان يحمله رجل معصوب العينين باسم (الرأي العام)، وقد رجحت كفة الوفديين على السعديين، فابتهج النحاس باشا وقال: مارأيك يا ماهر باشا؟.

فأجاب الدكتور ماهر: وما قيمة هذا الميزان وحامله رجلٌ من حزبك؟!.

وإذا كان الرأي العام من حزب الوفد فقد انحل الإشكال!.

في مصر اليوم أدبٌ سياسيّ، فأين من يقيِّد الأوابد من ذلك الأدب الطريف؟.

جناية الكتابة على الشعر والخطابة

هي سجعة ذكرتني بالحوار المعروف:

- أجمل السجع، ما خف على السمع.

- مثل ماذا؟.

- مثل هذا!.

ولكن كيف تجني الكتابة، على الشعر والخطابة؟.

تأمل هذا التمهيد:

إذا كان عند أحد جيرانك طفل أخرس فلا تسمح لأطفالك بأن يلعبوا مع ذلك الطفل، لأن طريقته في التفاهم ستروضهم على التعبير بالإشارات، وعندئذ يقل فيهم الشوق إلى التعبير بالكلام، فيحرمون أفضل النطق وهو أظهر الخصائص الإنسانية.

وإذا رأيت الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني يطيل القول في انصرافه عن قرض الشعر فلا تصدق أنه حرم الشاعرية، وإنما يرجع زهده في الشعر إلى أنه أكثر من التعبير عن أغراضه بالإشارة، ففترت رغبته في التعبير بالقصيد، والمواهب يجني بعضها على بعض.

وأقوى البراهين عندي على أن الشريف الرضي ليس المنشئ لكتاب (نهج البلاغة) هو إمعان الشريف في التعبير عن أغراضه بالشعر، فديوانه من حيث الكم يزيد عن ديوان المتنبي بألوف من الأبيات الجياد، وما أثر من الرسائل النثرية للشريف لا يشهد بأنه كان يشتهي التعبير عن ذات نفسه بالإنشاء.

وكما تجني الكتابة على الشاعر تجني على الخطيب: لأن أعظم أسباب الإجادة في احد هذه الفنون هو الشوق إلى التعبير بإحدى أدوات هذه الفنون، ومتى عبّر المفكر عن نفسه بالكتابة فقدَ الرغبة في التعبير بطريقة ثانية وثالثة فصار أزهد الناس في مقامات الخطباء والشعراء.

ماذا أريد أن أقول؟

أنا أريد الاعتذار عن نفسي، فقد عاب على قوم أن أنصرف عن الشعر والخطابة، وعدوني في هذين الفنين من المتخلفين، ولم أكن كذلك فيما سلف من الأيام، فلي ديوان شعر، وكنت في الثورة المصرية من أعلام الخطباء، ولم أزهد في هذين الفنين إلا بعد اشتغالي بالتدريس والكتابة والتأليف، فألِفْتُ التعبير بأسلوب يغاير أسلوب الشاعر وأسلوب الخطيب.

وإذن فما هذا التحدي الذي يواجهني به جماعة من أدباء الإسكندرية؟.

قال قائل منهم: إن الرجل الذي ودع بغداد بقصيدة بلغت 111 بيت هو الرجل الذي بخل على الإسكندرية الجريحة ببيت من الشعر أو بيتين!؟.

هو ذلك يا نَدامي (الثغر الجميل).

ولو أني فكرتُ في مواساة الإسكندرية بالشعر قبل أن أواسيها بالنثر لأطلت فيها القصيد، ولكني عبرت عن أحزاني بالإنشاء، فلم يبق لقرض الشعر محال. . . ألم أقل لكم: إن المواهب يجني بعضها على بعض؟.

وهل كان النثر الفني إلا شعراً تحرر من القوافي والأوزان؟.

قولوا ما شئتم، فلن تهمني الألقاب الأدبية، وإنما يهمني أن أصدق فيما يصدر عن قلمي، بغض النظر عن نوع الأداء.

كيف نعامل رجال الوعظ والارشاد

إلى الباحث المفضال (ا. ا) أوجه القول:

جاء في خطابك أن واعظ مركز. . . . . آنذاك بغير حق أمام أهل قريتك، وفي بيت الله بعد صلاة الجمعة، بألفاظ لا يليق صدورها عن الوعاظ.

وفهمت من خطابك أن النزاع نشأ من الخلاف حول مسألة لم تتفق فيها أقوال الفقهاء.

ومن حقي أن أوجه إليك هذه الأسئلة: هل ترى من الخير أن نطالب الوعاظ بالخوض في الدقائق الفقيهة أمام جماهير لا يصح تعريضها لمشكلات تلك الدقائق؟.

وهل ترى أن الوعاظ يعيَّنون لإرشاد من يكون في مثل علمك واطلاعك؟.

انظر في هذه الأسئلة جيداً لتعفيني من نشر الكلمة التي تريد أن أوجهها باسمك إلى علماء الأزهر الشريف، فما أحب أن أشجعك على مجادلة الوعاظ، وهم قومٌ لا تباح لهم مجادلة الناس، وإلا كثرت الشُّبه وانعدام الصفاء بين أهالي البلاد.

وأنا بعد هذا أوصي نفسي وأوصيك بالنظر في باب الرياء من كتاب الإحياء، فإني أخشى أن نقع في مهلكات، باسم الغيرة على الدين، وهوَى النفس له مسالك لا يفطن لها الرجال إلا في أندر الأحيان.

لَطَفَ الله بي وبك، وهداني وهداك.

زكي مبارك