مجلة الرسالة/العدد 423/بمناسبة الغارات الجوية على الإسكندرية:

مجلة الرسالة/العدد 423/بمناسبة الغارات الجوية على الإسكندرية:

مجلة الرسالة - العدد 423 المؤلف زكي مبارك
بمناسبة الغارات الجوية على الإسكندرية:
ملاحظات: بتاريخ: 11 - 08 - 1941


دار الوجد والمجد

للدكتور زكي مبارك

(لو عاش (شوقي) إلى أن شهد ما تعاني الإسكندرية من

كوارث وخطوب لواساها بأطايب الشعر البليغ. فإلى روحه في

دار الخلود أهدي هذا القصيدة)

زكي مبارك

بأهلِ إسكندريةَ بعضُ ما بي ... من الأحزانِ للثغر المصاب

أَدارَ هَوايَ ما قلبي بناسٍ ... هُيامي فوق أثباجِ العُباب

وهل يَنسى أخو كرمٍ وعهد ... رحيق الراحَ يُمزجُ بالرُّضاب؟

فإن تكن الكوارثُ آثماتٍ ... صببْن عليك أسواطَ العذاب

فلن ينسى لك التاريخُ عهداً ... ضحوكَ الوجه مرهوب الجناب

حَمَاكِ اللهُ يا دارَ التنادي ... إلى الهيجاءِ أو دارَ التصابي

ألم تمرح بساحتك الجوازي ... لوَاعبَ في حمى الأُسْد الغِضاب

ألم تُلقىْ مع الأقدار يوماً ... كتائب من لحاظ أو حراب؟

وكيف يطيبُ للدنيا وُجودٌ ... إذا هُدّدتِ ظلماً بالخراب؟

وأين تجولُ أفراسُ المعالي؟ ... وأين تصول أحلامُ الشباب؟

عروسَ البحر، والدنيا سفينٌ ... تروَّع بالقواصف والضباب

أعندَك أن دارَ المجِد تنجو ... على الأيام من كُرَب الصَّعاب؟

أعندَك أن في الدنيا رياضاً ... تصان من الأفاعي والذباب؟

عروسَ البحر، ما هذى الرزايا ... تصب على بنيك بلا حساب؟

أكنت جنيت، والدنيا مجالٌ ... لمفروض الثواب أو العقاب؟

جمالكِ فاتنٌ، والحسن ذنبٌ ... لأهل الحسن في شرع الذئ فما شكواكِ من ظلماَء طالت ... وتلك جناية المجِد اللباب؟

عروسَ البحر، يا مهوى فتوني ... ويا مَغْنى أمانيَّ العِذَاب

عُقلتُ بأرضك العزَّاء عاماً ... فكان أعز عام في شبابي

دخلتُك عانياً في أسر ليل ... أصمِّ القلب زنجيِّ الإهاب

فأقبلَ نورك الروحيْ يسرِي ... إلى أرواحنا من كلِّ باب

رأى العقْالُ أن نحيا أسارى ... حياةَ السيف في سُدَف القِراب

فلا ندري لوجه البحر لوناً ... سوى الموهومِ من لمع السراب

ولا نقْتات من زاد الأماني ... سوى المظنون من يوم المآب

فهل سمعَ الشقيّ بما أفاَءتْ ... علينا إسكندرية من ثواب؟

هَديرُ البحر كان يعجّ عمداً ... ليطربنا على بُعْد المثاب

وحَب الرمل صار لنا مهاداً ... مُطرَّزة بأزهارِ الروابي

فأمسى الاعتقال على اجتواه ... رخيَّ القيد مأنوس الرِّحاب

عروس البحر، حدَّتني شهودٌ ... بأن الشط صارَ إلى تباب

فلا غيْداءُ تخطرُ في حِماهُ ... كرقص البدر من خلف السحاب

ولا صَبٌّ خَتُورُ العهد يمشي ... على جَنباته مَشْىَ الحُباب

ولا صهبْاء يحْسُوها بنوهُ ... وقد قُبستْ من الذهب المذاب

إذا طافتْ بهم هاموا فخفُّوا ... لَمِقبول المجانة والدِّعاب

وأَمْسواْ والكواِكب في عُلاها ... لهم أسلابُ فتكٍ وانتهاب

سُلافٌ صانها (باكوسُ) عما ... يشوبُ الراحَ من إثمِ وعاب

ألمْ يثقل على حُكماءِ قومي ... وقد عاقَرتها وِزْرُ اغتيابي؟

أمير الشطِّ كنتُ فأين عهدي ... يرْعى الحسن في الشطِّ العُجاب

وأينَ رِمَالهُ مني وكانتْ ... مناسِكَ صَبْوتي في كلِّ (آب)

إليها كان حَجِّي واعتماري ... وفيها كان خَتْلي وآْختِلابي

فكيف أَذوقُ للصبَّوات طعماً ... وعن عَرَفاتها طال احتجابي؟

ندامَي البحرِ، سوف أعود يوماً ... لأُطفئ ما بقلبي من لؤاب نشيدي في التصوف كان لحناً ... نقلتُ صداه عن قصف العباب

سوايَ يرى الوجود إن اجتلاه ... سطوراً ثاوِياتِ في كتاب

ويجْلوه لوِجْدَاني ورُوحِي ... إذا ما شئتُ إظلالُ السحاب

وهل كانت حياة الناس إلا ... قلائد صاغها رَبُّ الرَّباب

عشقتُ البحرَ والصحراَء عشقاً ... بهِ طال اندفاعي وانجذابي

أُطِلْ على الفضاء فتزْدَهيني ... رِحابٌ غارقاتٌ في رِحاب

وأنظُر للوجودِ فلا أراهُ ... سوى خمر تعاقَر أو رُضاب

إخلائي هناكَ، حدِّثوني ... حديث (الثغر) وانتظروا إيابي

أَفوقَ رُبوعه غامتْ سماءٌ ... مؤَججةٌ بأقباسِ اللهُّاب

وما القومُ الذين عَدَوْا عليه ... كعدوان الذباب على الشراب؟

أكانوا جِنَّة صُمَّا فعاثوا ... به عَيْثَ الأراقم بالوِطاب

أكان (النسر) في التحليق أدْنى ... إلى الإسفاف من ذاك (الغراب)؟

وما الألمانُ إلا قومُ بَغْيٍ ... أثيمِ الجِدْ مذمومِ القِطاب

نِطاحٌ كله سفهٌ ولؤْمٌ ... ولو كَرِه المصانِع والمحابي

أحقٌ أن نادى (الثغر) أقوى ... وأقفر من أحاديث الصحاب؟

فلا (النشارُ) يسأل غير صاحٍ ... ولا (شيبوب) يحلم بالجواب؟

(وأبو شادي) أفاقَ، فَمن بَشيري ... برَجْعِ الأمْنِ للثغر المَهاب

وكيف يَعيشُ روُحٌ كان أُنسىَ ... وإنْ ألِفَ اْللجاجةَ في الغِضاب؟

أُكاتِمُ حبهُ قلبي وأَمضي ... فأُعلنُ بُغضه عند العتاب

هو الدنيا: وقد جُنتْ فصاغت ... رحيقَ هواه من شهد وصاب

بأهل إسكندرية بعضُ ما بي ... من الأحزان للثغر المُصاب

سمعتُ حديثَ نكبتهم فأمسى ... فؤادي في انصداعٍ وانشعاب

ملائك من أديم الخلد صيغوا ... لِيوْم الوْجِد أو يوم الغلاب

أعزّ البحرُ أنفسهم فعزوا ... فهم قوم اعتلاء واصطخاب

هُمُ الحراسُ للوطن المفدّى ... من العادينَ أشباه القُلاب فكيف تبددوا وأدال منهمْ ... مديل البأس من وكر العُقاب

تُساق إليهم الأقوات، هلاّ ... تساق إليهم عُددُ الحراب

أغيثوهمْ بِسَيْفٍ لا بزاد ... فهم خلف القساوة الصلاب

أمِدوهم، إذا شئتم، بجيش ... وَقاح الوجه منزوعِ النقاب

فما حَفظ الديارَ سوى حسامِ ... به ظَمأٌ إلى يوم الضِّراب

أجب (عبد القوي) وأنت شهم ... صريحٌ لا يُداورُ في الجواب

أأنت ترى (المخابئ) واقيات ... وهُنْ أذل من غار الضّباب؟

وما شرفُ الفتى وقد استنامتْ ... جوانحهُ إلى مثوى الهوابي

لنا ماضٍ نَسيناهُ فِضعْنا ... ضَياعَ التبر في جوف التراب

لقد كنّا، وكنا، ثم كنا ... أَداة الفتك من ظُفر وناب

ركزنا الرعبَ في مهج الضواري ... فكيف تروزنا مهجُ الذئاب؟

لوادينا القوىّ عَنتْ وُجوهٌ ... عززن بالانتساب والاكتساب

ألمْ ندفِنْ بِوادينا قُرُوماً ... أرادوا الشرب من أمواه (حابي)

فكيف نكولنًا عن ردع قوم ... لئام البغي منكودي الإصاب

هُمُ ظنوا الكناية زاد يوم ... كظن النمل في نسف الهضاب

فإن فازوا فسوف نكون منهم ... مكان البحر من لهب الضوابي

وسوف نظل نحن - كما فُطرنا - ... أباةَ الضّيمِ أحرار الرقاب

عركنا الدهر جيلاً بعد جيل ... وكابَدْنا الألوف من الصعاب

فما هُنْا على الأقدار يوماً ... ولا أمستْ بوارقنا نوابي

ألم نشرقْ على الشرق المعنّى ... فندافع عنه آصار الضباب؟

بنا وثقتْ شُعوب لم تواجهْ ... بروق الغرب إلا في ارتياب

بنا استهدت بصائرُ لم نرُضها ... خداعاً بالمواعيد الكِذاب

كدَأُبِكمُ وقد مرنَتْ نُهاكمْ ... على ستر الخيانةِ بالخلابِ

أكان العلمُ في عالي سناه ... ذريعةَ الاستراق والاستلاب

أروني. مِنَّه أسلفتُموها ... بلا نهبٍ يرادُ ولا اغتصاب طلائعً كان عْلمُكُم ليومٍ ... يهونُ بجنبهِ يومُ الحساب

ولم يكُ علمُنا إلا نظيراً ... لضوءِ الشمس يزهد في الثواب

أأنتمْ تُفتَنون بما ملكتمْ ... من العدد النذيرةِ بالخراب

ولا نُزهي بآراء صِحاح ... هي المنشود من فصل الخطاب

فإن تخْلد مآثِرنا وتسلم ... على التاريخ من شُبَه المعَاب

فذاك لأنها آثار قومٍ ... كرام الروح أطهارِ الإهاب

لنا الخلدُ الذي لن ترزقوهُ ... ولو أوتِيتمُ ملك السحاب

فخبُّوا في المطامع كف شئتمْ ... وخوضوا القاتمات من العقاب

ورُودوا الأرض في شرقٍ وغربِ ... بكبِر الليث أو زهوِ الغراب

وصولوا آثمين بنار حرْبٍ ... تحيلُ المزهرات إلى يَباب

فسوف تُروْنَ بعد مدىً قصيرٍ ... فرائسَ للمحاقِ وللذهاب

بأهل إسكندرية بعض ما بي ... من الأحزان للثغر المصاب

أَتِلكَ قيامةٌ قامتْ فدكّتْ ... حصون البأس من تلك الطوابي؟

فمن كهلٍ سديد الرأي يُمسي ... لوقعِ الهولِ مفقودَ الصواب

ومن رَشِأ تُصيِّرُهُ الرَّزايا ... وقِيذَ الشيب في شرخ الشباب

ومن عذراَء يلفظها حمِاها ... فنخرجُ للبلاءِ بلا نقاب

قوارع لم تقعْ إلا بأرضٍ ... يقارعُ أهلها وقدَ الحرابِ

فما آثامُ أهلِ (الثغر) حتى ... يُشنَّ عليهمُ ويلُ العذاب؟

مضت زُمرٌ إلى الأرياف منهم ... مُضى الأُسْد من غاب لغاب

فكيف استقبلوا - بعد ارتقاه - ... جشيبَ العيش في تلك الشعاب؟

أمِن بعد الحسايا ناعمات ... يكون بساطهم متن التراب؟

إلى جلواتهم في الصيف كانت ... تزفُّ أطايبُ الحسن اللُّباب

وفي داراتهم كان التنادي ... إلى الصبَّوات في الشط الرغاب

فكيف مضواْ حيارَى لم يثوبوا ... إلى زادٍ يعدُّ ولا ثياب؟

وكيف غدواْ بهذا الصيف صرعْى ... لمشئوم الشتاتِ والاغتراب؟ كذاك العيشُ بؤس بعد لين ... وشهدٌ يستقي من بعد صاب

ومن عشق السلافة في صفاها ... أحب لحبها رنق الصُّباب

عروسَ البحر، نسرف إن رأينا ... حياتك في المزاح وفي اِّللعاب

وكيف وفي معاهدك الخوالي ... تسابقت العقول إلى الوثاب؟

بكل محلة وبكل أرض ... مآثر منكِ طيبة النصاب

وما روما وأثينا إذا ما ... تبارى الفاخرون بالانتساب؟

منار العقل كنت بلا امتراء ... ونار القلب كنت بلا ارتياب

بكى التاريخ من عهد لعهد ... مصاب العلم في (دار الكتاب)

فهل كانت بدائعها لقوم ... أجانب عن مرابعك الرحابِ؟

بَناِك أسكندَرٌ فيما بَناهُ ... كذلك قِيلَ رَجماً بالمغاِب

ولو أَصغى أُلو الألباب يوماً ... لَهِمس الوحي في تلك الرَّوابي

لآمَنَ فِتيةٌ منهم برأْي ... يَخالُك صادقاً (بِكر العُباب)

وهل (فِينوسُ) عندَ مُرِّبيها ... سوى (راقودَ) في أحلام (حابي)؟

لِ (كيمي) أنت يا دار التنادي ... إلى الهيجاءِ أو دارَ التصابي

لِ (كيِمي) أنت من أيام نوح ... توارثك أينم عن خير آب

مَضى عهدُ القياصر في انزعاج ... بأرضِ إسكندرية وانقلاب

بلادٌ لم تكن إلا مُجالاً ... لِمشبُوب الصِّيال والاحتراب

بجمّر الثورة الحمراءِ يُغذَى ... بَنوها لا بزاد أو شراب

وجاَء الفتحُ فانقادوا لقومٍ ... مساكنهم بصهوات العراب

هوَ الإسلامُ طَهّرهم فأضحواْ ... كماءِ المزْن في شُعَب اللِّصاب

فهل يَدري المؤرخُ كيف صاروا ... طلائعَ للجهادِ وللغلاِب؟

عليهمْ عول الإسلامُ فيما ... أرادَ من المغاربة الصِّلاب

فأموا الغربَ يحرسهم تقاهم ... وقد مشت الملائك في الركاب

وحلوا عادلين به كراماً ... حلول الغيث بالبقع الجداب

فلما أنْ هوت شمس المعالي ... بأندلسٍ ولاذتْ بالحجاب تقاطر أهلها يبغون حصناً ... يقيهم شر أيام التباب

إلى جفن الحمى بالثغر عادوا ... كما عاد الجراز إلى القراب

أتاريخاً يحبِّره قصيدي ... لماضي (الثغر) في عهد الشباب؟

وما الشمس المضيئة إن حكتها ... لرائيها خيوط من لعاب؟

عليك إسكندرية أَجّ حزني ... فطار تجلدي وهوى صوابي

إذا فكرت فيك غلت دمائي ... وآذن جمر حقدي بالتهاب

ألا سيف أجرده وأمضي ... لأدفع عنك عادية الذئاب؟

ألا جيش قوي البطش ضار ... يضيق عداك أكواب العذاب؟

سأصمت كارهاً، والصمت حيناً ... يعدّ من البراعة في الجواب

زكي مبارك