مجلة الرسالة/العدد 424/الحروب الصليبية
مجلة الرسالة/العدد 424/الحروب الصليبية
ماهيتها، تطورها، نتائجها
للأستاذ ر. التميمي
كان مركز البابوية ومقامها قد أنحط كثيراً في أثناء القرن العاشر واصبح موضوع نزاع الأحزاب في رومة؛ واعتلى عرشها أناس لا خلق لهم كانوا سبباً في تشويه سمعتها الدينية فسقطت أهميتها في نظر المسيحيين. وحينما اعتلى عرش الإمبراطورية هنري الثالث اهتم بأمر البابوية وعزم على النهوض بها فعين لها رجالاً من ذوي الكفاءة والمقدرة؛ وهكذا بدأ الباباوات يستعيدون مكانتهم التي كانوا قد أضاعوها خلال القرن العاشر واخذوا يعملون على إصلاح المساوئ وإعادة المجد البابوي
وأشهر من قام بهذه المهمة الصعبة هو هيلد براند الذي ارتقى عرش البابوية باسم غريغوري السابع، فقد نظم شؤون الكنيسة تنظيماً محكماً وقضى على الفوضى فيها وجمع السلطة الدينية في يده وحكم على رجال الدين كبيرهم وصغيرهم أن يخضعوا له دون اخذ ورد. هكذا مهد السبيل لخليفته أربان الثاني الذي رأى بعين البصيرة أن الظروف أضحت مواتية ليقوم بأكبر عمل يعلى به مجد النصرانية وهو إشهار الحروب الصليبية على المسلمين وتخليص الأراضي المقدسة من أيدهم. ولقد اتفق أن هاجمت الجيوش السلجوقية الإمبراطورية البيزنطية وهددتها في عقر دارها فهرع الإمبراطور ألكس يطلب النجدة من البابا أربان الثاني؛ فلما تلقى هذا تلك الاستغاثة رآها فرصة سانحة لبسط سلطان الكنيسة الكاثوليكية على سائر أنحاء العالم النصراني في الشرق والغرب فلبى النداء وقرر السير في ترتيب حملة صليبية كبرى
لقد كان أربان الثاني في قراره هذا يستند على ما كان للكنيسة من قوة ونفوذ في الأوساط المسيحية، إذ أن النصارى يومئذ كانوا لشدة جهلهم يقترفون آثاماً كبيرة ويحملون أنفسهم أوزاراً كثيرة، ولم يكن أمامهم لرفع تلك الأوزار إلا القيام بالأعمال الصالحة كالحج والصوم وتعذيب الجسم والتقشف في الملبس والمأكل، وكان الحج أهم هذه الأعمال وأكثرها ثواباً. أما القتال في سبيل تخليص بلاد ذلك الحج فهو في نظرهم أهم عمل يقوم به إنسان لأنه يرضي به ضميره ويقدم أعظم تضحية للعالم النصراني الذي ينتمي إليه لقد انتبه البابا أربان الثاني إلى هذه الحالة النفسية فتشجع في إشهار الحرب وزاد في نشاطه وجود طائفة من الأمراء، ولا سيما النرمنديين منهم سمعوا بكنوز الشرق وسلطان ملوكه وأمرائه العظيم فطمعوا فيهما، وتمنوا لو أُتيحت لهم الظروف ليكونوا سادة في ذلك الشرق الساحر مثل أولئك الذين ينعمون بأموال وافرة وجاه عظيم وسلطان مطلق
وصادف أن قحطاً شديداً اجتاح القسم الغربي من قارة أوربا وسبب مجاعة وفقراً وموتاً ولا سيما في فرنسا حيث أهلك الحرث والنسل ومات مئات الألوف من الناس وخربت القرى وأقفرت المزارع فبات بسبب ذلك كله معظم سواد الشعب في أشد حالات البؤس والشقاء، فلما نادى منادى الحرب الصليبية أقبل أولئك الجياع إقبالاً هائلاً عليها أملاً في العثور على أقواتهم اليومية، وهم بعملهم هذا يمتثلون أوامر الكنيسة التي كانوا يخشون بأسها وعقابها من جهة، ويحاربون في سبيل تخليص الأرض المقدسة من أيدي المسلمين من جهة أخرى
والحقيقة إن هذه الحروب لم تكن إلا مظهراً من مظاهر التعصب الديني قامت به البابوية في القرون الوسطى ضد العالم الإسلامي. ولقد أثارها البابوات وقذفوا بفرسان الغرب وأُمرائه إلى ساحات القتال في الشرق ليحققوا منافع مادية لصالح الكنيسة ولقد اشترك فيها الملك والأمير والفارس والراجل والنبيل والوضيع والناسك والسارق والراهب والقاتل والتقي والفاجر وكل منهم كان يرمي إلى غاية في نفسه؛ فهذا يريد ملكاً أو إمارة، وذاك يسعى لاكتساب مغنم، وذلك للاغتراف من كنوز الشرق الثمينة. أما السواد الأعظم فقد كان على جهله المطبق لا يريد من وراء تضحياته إلا رضا الكنيسة وتأمين حياة أخروية سعيدة
وهكذا تحركت تلك الجماهير الغفيرة من الغرب إلى الشرق، فكانت حينما تصل إلى البلاد الإسلامية تنقض عليها انقضاض الحيوانات المفترسة فتقتل الناس وتهدم القرى وتحرق ما تجده أمامها من أشجار وزرع ونباتات، وهي بعملها هذا تعتقد أنها تؤدي أقدس واجب تتحمله، وكان الرهبان يشجعون فيهم هذه العقيدة ويستزيدونهم قتلاً ونهباً وتنكيلاً بالمسلمين وزحفت الحملة الأولى بخيلها ورجلها وشبابها وصبيانها ونسائها وحيوانها قاصدة فلسطين مؤتمة بطيور الإوز ومواشي الماعز، وهي عادة حافظ عليها الجرمان من حياتهم الوثنية حين كانوا يقدسون كثيراً من الحيوانات بينها الإوز والماعز، ويتبركون بها؛ فلما زحفوا نحو الشرق مشوا وراءها يلتمسون منها النجاح والظفر، وحينما اجتازت الحملة آسيا الصغرى تعرضت لأشد أنواع المحنة والفاقة والعطش، وكان السلاجقة ينقضون عليهم ويحصدون منهم الألوف حتى لم يبق من تلك الجماهير الزاحفة إلا عدد صغير أمكنه الوصول إلى الديار السورية بعد أن كان عددهم يربو على نصف المليون
وحين وصلت الحملة الأولى كان سوء الحظ ملازماً لسوريا بسبب حكامها السلاجقة وهم من السذاجة بمكان، وكان يحارب بعضهم بعضاً فلم يلتفتوا إلى الخطر الصليبي الذي دهم البلاد. وقد أدت هذه الغفلة التي لا تفتقر إلى ضعف الجبهة الإسلامية ضعفاً لا يمكن وصفه إلا إذا تذكرنا تلك الهزيمة الشنعاء التي منى بها كربوغا صاحب الموصل أمام مدينة إنطاكية، فلقد كان يقود جيشاً عظيماً فيه أكثر من مائتي ألف محارب بعددهم وأقواتهم الكاملة، ومع ذلك فقد أنهزم أمام هياكل بشربة صليبية مزقتهم الفاقة وأهلكهم الجوع وحصدتهم الأمراض السارية، فسجل كربوغا بحماقته صفحة في التاريخ كلها خزي وعار
ولقد كان لهذه الهزيمة نتائج خطيرة جداً؛ فالصليبي الذي أنهكه التعب وأهلكه الجوع أخذ يتقوى بسرعة عجيبة ويستصغر من شأن المسلم الذي دبت فيه عوامل الضعف والخور فولى مدبراً ولم يعقب تاركاً البلاد لأشد أنواع الاعتساف والظلم
هكذا استصغر الصليبيون شأن المسلمين واحتقروا قوتهم المفككة وهزءوا بجبهتهم المتصدعة، فاخذوا المتصدعة، فاخذوا يتنقلون من مدينة إلى أخرى، ولا جيش يقف في وجههم، إلا صوتاً ضعيفاً أرتفع من الخليفة الفاطمي بمصر يكلفهم الكف عن اكتساح المدن السورية، ويعرض عليهم صلحاً شريفاً إلا أن هذا الصوت تبدد بين قعقعة السيوف وهدير الجماهير المسيحية المتحمسة. وهكذا وصلت حملة الأمراء الأولى إلى فلسطين وملكت بيت المقدس. وحين دخلوا المدينة أراقوا دماء المسلمين أنهارا، ولجأ اليهود إلى معبدهم فأحرقوه، فماتوا وسط اللهيب. وفي خلال ثلاثة أيام قتلوا سبعين ألف مسلم، ولم يرعوا للشيوخ وقار سنهم، ولا للأطفال حرمة صغرهم، ولا للنساء ضعفهن؛ وهكذا برهنوا على همجية مستنكرة وقلوب متحجرة، لا تجد لها مثيلاً إلا عند أجدادهم القبائل المتبربرة أيام اكتساحهم الإمبراطورية الرومانية
وبعد الحملة الثانية التي انتهت بفشل ليس بعده فشل، رأى منظمو الحملات الصليبية المتاعب والأخطار الجسمية التي لاقاها الصليبيون في أسفارهم البرية السابقة، فعدلوا عنها واستبدلوا بها أسفاراً بحرية أفادت الموانئ الطليانية فوائد جمة، لأن بحارتها أخذوا ينقلون على مراكبهم الجماهير لقاء أُجرة طيبة
لقد كانت وطأة الفرسان الصليبيين شديدة بسبب أسلحتهم ودروعهم وتروسهم وبسبب تمرنهم الطويل على أنواع القتال والمبارزة، فإذا ما خاض أولئك الفرسان حرباً أو موقعة فترت همتهم وضعفت شوكتهم واخذوا يشكون من حرارة الطقس ومن شدة بأس المحاربين المسلمين. وكانوا ينتهزون أول فرصة ليعودوا إلى بلادهم تاركين الفكرة الصليبية بين يدي أولئك الأمراء ذوي المطامع ورجال الدين الذين انتدبهم البابا لينفذوا أوامره ويشتركوا في وضع الخطط الصليبية والإقطاعية مختلفة
لقد ملك الصليبيون شواطئ سورية مع بيت المقدس والبلاد الفلسطينية ومقاطعة الكرك عبر الأردن وأنشئوا فيها مملكة بالقدس وإمارات ثلاثاً لاتينية إقطاعية في كل من طرابلس وإنطاكية والرها؛ ثم رحل معظم المحاربين إلى ديارهم ولم يبق منهم ألا آلاف قليلة مسلحة أخذت على عاتقها أمر الدفاع عن تلك الإمارات؛ وهؤلاء المدافعون هم أولئك الفرسان الذين ارتبطت منافعهم ومصالحهم بمستقبل البلاد الجديدة اللاتينية. وفي تلك الآونة ألف فريق من الرهبان الفرسان وهيئات دينية عسكرية وظيفتها خدمة الفرنج من الوجهة الصحية وتقديم المساعدات الحربية للدفاع عنهم وعن ممتلكاتهم وهذه الهيئات هي الهيكليون أو الداوية والاسبتاليون والتيوتونيون.
ومما تقدم يفهم أنه كان من السهل جداً على أي أمير مسلم يعرف واجباته ويقدر حرج موقف خصومه أن ينقض بجيش مدرب على أولئك الغرباء وأن يقذف بهم إلى لجج اليم ويخلص البلاد من أحكامهم الجائرة وقوانينهم القاسية؛ إلا أن شيئاً من هذا لم يحصل إلا بعد مضي نحو نصف قرن على امتلاك اللاتين للشطوط السورية.
وأول من تنبه إلى موقف الفرنج الضعيف هو عماد الدين زنكي صاحب الموصل حينئذ، فلقد شهر عليهم حرباً شعواء ظل لهيبها مستعراً نحو خمسين سنة، خاض غمارها هو نفسه مع جيشه المدرب بضع سنين، ثم مات مقتولاً، فخلفه في الجهاد ابنه نور الدين محمود ومن بعده صلاح الدين الأيوبي وانتهت هذه الحرب بظفر صلاح الدين الكبير وامتلاكه بيت المقدس.
لقد قام صلاح الدين بالمهمة التي تلقاها من سيده وأستاذه نور الدين محمود فأداها على أحسن وجه بعد أن انقض على الجيش الفرنجي في معركة حطين (صيف سنة 1187) وسحقه سحقاً، ثم استرد البلاد من أيديهم الواحدة تلو الأخرى، واسترد بيت المقدس، فدخلها صلحاً وعامل الفرنج بمنتهى التسامح والشفقة والرحمة، فكان مثالاً ممتازاً للحاكم العادل والقائد الظافر المتصف بالشهامة والمروءة؛ وكأنه بتسامحه ومروءته وشهامته يريد أن يلقي درساً في الأخلاق العالية والشفقة والرحمة على أولئك السفاكين والقتلة الذين ذبحوا سبعين ألف مسلم ذبح الخراف حين احتلوا المدينة المقدسة
ولقد كان في نيته وفي مكنته أن يطهر البلاد منهم نهائياً، لو لم تغتله المنية قبل الأوان، فترك مهمة التطهير النهائي إلى خلفائه من بعده
على أن الجهاد الذي أستأنفه خلفاء صلاح الدين ظل قائماً نحو عصر كامل آخر، وذلك لأن ذلك الجهاد لم يكن متصل الحلقات بل كانت تنتابه فترات يتقاتل ويتطاحن خلالها الأمراء والسلاطين المسلمون.
فقد تخاصم الملك العادل مع أولاد أخيه صلاح الدين وتقاتل سائر الأمراء الأيوبين، فكان لنزاعهم الأثر السيئ في نفوس المسلمين، إذ ضعفت همتهم وانحطت شوكتهم وقلَّت قيمتهم، وهذا ما مكن الفرنج من إطالة الإقامة والحكم في إمارتهم اللاتينية الهزيلة. على أن التقاتل هذا لم يكن يقتصر على الحكام المسلمين، بل تناول أيضاً أمراء الفرنج في إمارتهم، فكان يشتد بين الفرنسيس والإنكليز والألمان، وبين البنادقة وتجار جنوة، وبين رهبان طائفتي الداوية والإسبتالية. وفي ببعض الأحيان كان ينقلب ذلك الخلاف إلى حرب طاحنة تذهب فيها الأرواح الصليبية بلا حساب
والفرنج الذين كانوا يأتون حديثاً إلى الأرض المقدسة كانوا يختلفون مع إخوانهم القدماء من اللاتين المقيمين في هذه البلاد وذلك بسبب الفروق البارزة في عادات وتقاليد كل من الفريقين. فالمشارقة منهم مضى عليهم اكثر من عصر وهم يعيشون في ديار الشرق ويقلدون الشرقيين في مأكلهم ومشربهم ومسكنهم؛ وصاروا ينظرون إلى مسلمي سوريا نظرة الجار إلى جاره، فيتعاقدون معهم، ويبادلونهم السلع، ويراعون حقوقهم وعهودهم، وذلك بخلاف حملات الفرسان التي كانت تدهم البلاد بخيلها ورجلها وتعصبه الذميم وقوتها المتناهية، فقد كان رجالها يجهلون الإسلام والمسلمين ولا يعرفون عنهم إلا أموراً وآراء خاطئة ومشوهة؛ فإذا ما دهموا بلداً لهم وقرية انقضوا عليها انقضاض الباشق على فريسته، وهكذا كان الخلاف يشتد بين فريقي اللاتين القدماء والجدد، وكان يرمي بعضهم بعضاً بأشنع التهم؛ فقد كان الغربيون يقولون مثلاً إن المشارقة خونة لا عهد لهم ولا ذمة، يصادقون المسلمين أعداء النصرانية ويتعاقدون معهم؛ أما المشارقة وهم الذين صقلت طباعهم وتهذبت أخلاقهم وهدأت ثورة تعصب الذميم عندهم بفضل مجاورتهم للشرقيين، فقد كانوا يرون في فرسان الحملات المتتابعة شراسة في الطبع وغلظة في الخلق مع قوة متزايدة وجشع في سفك الدماء وميل غريزي للنهب والسلب، فكانوا لذلك يحتقرونهم ويخشون بأسهم
ولقد بحث الفارس المسلم والأديب المعاصر أسامة بن منقذ الكناني الشيزري في مذكراته (كتاب الاعتبار) عن اختباراته الشخصية في عادات الإفرنج الصليبيين فقال ليس عند الإفرنج شيء من النخوة والغيرة، وهم يعالجون مرضاهم بطرق ابتدائية، ويحاكمون المذنبين منهم بأساليب غبية عجيبة، وكل من هو قريب العهد بالبلاد الإفرنج يكون أجفى أخلاقاً من الذين تبلدوا وعاشروا المسلمين. ثم يذكر أنه نفذ صاحباً له إلى إنطاكية في شغل، وكان بها الرئيس تادرس بن الصفي - وهو يقصد يئودوروس صوفيانوس - وكان بينهما صداقة، فقال هذا لصاحب أُسامة الموفد إلى إنطاكية يوما: (قد دعاني صديق لي من الإفرنج: تجئ معي حتى ترى زيهم)، فمضى المسلم إلى دار فارس من الفرسان العتق الذين خرجوا في أول خروج الإفرنج، وقد اعتفى من الديوان والخدمة، وله بانطاكية ملك يعيش منه، فأحضر مائدة حسنة وطعاماً في غاية النظافة والجودة ورأى المسلم موقفاً عن الأكل فقال له:
(كل طيب النفس فأنا ما آكل من طعام الإفرنج ولي طباخات مصريات ما آكل إلا من طبيخهن ولا يدخل داري لحم خنزير)
فأكل المسلم وهو محترز ثم انصرف
(فلسطين)
ر. التميمي