مجلة الرسالة/العدد 424/كيف يكتب التاريخ

مجلة الرسالة/العدد 424/كيف يكتب التاريخ

مجلة الرسالة - العدد 424
كيف يكتب التاريخ
ملاحظات: بتاريخ: 18 - 08 - 1941



للدكتور حسن عثمان

مدرس التاريخ الحديث بكلية الآداب

- 2 -

العلوم المساعدة

المقبل على دراسة التاريخ وكتابته ينبغي أن يعلم من أو الأمر أنه مقبل على عمل شاق يتطلب الجهد والتضحية والصبر الطويل، وأنه تلزمه دراسة عميقة وتحصيل جدي. وأنواع المعرفة الإنسانية متداخلة متشابكة فيما بينها؛ ولا يمكن أن يدرس علم معين مستقلاً بذاته عن باقي العلوم الأخرى. فمثلاً لا يستطيع الإنسان أن يفهم القرآن بدون أن يعرف اللغة العربية وعلم القراآت والفقه. . . وكذلك دراسة التاريخ متصلة بأنواع مختلفة من المعرفة الإنسانية. وكاتب التاريخ ينبغ أن يكون واسع الثقافة عارفاً بالعلوم المتصلة مباشرة بدراسة وكتابة التاريخ. ويمكن أن تسمى أنواع المعرفة اللازمة للمؤرخ بالعلوم المساعدة؛ وهي تختلف باختلاف العصر الذي يرغب الكتابة عنه؛ فالعلوم المساعدة اللازمة لمن يكتب في تاريخ اليونان القديم تختلف عن العلوم المساعدة الضرورية لمن يكتب في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية

ومعرفة اللغات من أهم العلوم المساعدة الضرورية للراغب في كتابة التاريخ. فلابد أولاً من معرفة اللغة الأصلية للعصر التاريخي المرغوب الكتابة عنه، لأن التراجم التي تكفي للثقافة العامة لا تكفي المؤرخ للتغلغل في تاريخ ذلك العصر، فالراغب في الكتابة عن تاريخ اليونان القديم لابد له من معرفة اللغة اليونانية القديمة. ومن يرغب الكتابة عن تاريخ العصور الوسطى في الغرب يلزمه معرفة اللغة اللاتينية التي كانت سائدة في تلك العصور. والراغب في الكتابة عن تاريخ إيطاليا من الضروري له أن يعرف اللغة الإيطالية. وأهمية اللغات لا تكون بدرجة واحدة بالنسبة للعصور التاريخية المختلفة. فمثلاً الراغب في الكتابة عن الثورة الفرنسية ليس من الضروري أن يعرف اللاتينية، ومن الأفضل أن يصرف جهده لتعلم لغة أوربية حديثة؛ ولكن اللاتينية ضرورية لمن يرغ دراسة تاريخ الكنيسة حتى في العصر الحديث. وعلى كل فإنه كلما تعددت اللغات القديمة أو الحديثة التي يلم بها الباحث في التاريخ اتسع أمامه أفق البحث والاستقصاء. فأي باحث في التاريخ ينبغي أن يعرف اللغات الأصلية، قديمة أو حديثة، المتعلقة بالعصر الذي يدرسه كالهيرغليفية واليونانية واللاتينية والعبرية والعربية والفارسية والتركية لكي يستطيع أن يرجع بنفسه إلى الأصول التاريخية الأولى؛ وكذلك ينبغي أن يعرف اللغات الأوربية الحديثة الشائعة الاستعمال وهي الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية، وإن قصر في معرفة بعضها ينبغي أن يسد هذا النقص، وذلك لكي يقرأ المؤلفات التي تصدر بهذه اللغات عن العصر الذي يدرسه. وقد تبدو مسألة تعلم اللغات عسيرة، وقد تجعل أشجع الناس يتردد في الإقدام عليها؛ ولكنها دراسة لابد منها لمن يرغب جدياً في كتابة التاريخ، ويحسن أن يبدأ الراغب في كتابة التاريخ دراسة اللغات الضرورية أثناء وجوده بالمعاهد النظامية؛ ولكن لا داعي لأن يدرس عدة لغات في وقت واحد. وليس هناك ما يمنع الباحث من دراسة أية لغة جديدة في أي وقت من حياته؛ ودراسة سنتين في إحدى اللغات الجديدة على الباحث كافية كأساس مبدئي، يستمر بعدها في المزيد. ويا حبذا لو أمكنه قضاء بعض الزمن في بلد تلك اللغة الجديدة

ومن العلوم المساعدة الأساسية لكتابة التاريخ علم قراءة الخطوط وقراءة أنواع الخطوط تدرس بعناية في جامعات الغرب. وتوجد أنواع مختلفة من الخطوط الغربية والشرقية تبقي كالطلاسم حتى يتعلمها الباحث ويتدرب على قراءتها. ودراسة هذه الخطوط توفر عليه الوقت وتجنبه الوقوع في الخطأ فيما لو ترك المسألة لمجرد التعلم بالتمرين؛ وأحياناً توجد وثائق كتبها سفراء وقناصل الدول إلى حكوماتهم بالشفرة، وذلك لإخفاء معلوماتها عمن يحتمل أن تقع في يده من الاعداء؛ فينبغي تعلم فك هذه الشفرة بواسطة المفتاح الخاص بها إن وجد في دار الأرشيف التي يعمل فيها دارس التاريخ. ويوجد بالأرشيف الواحد أكثر من مفتاح واحد على حسب الحالة، ومفاتيح الأرشيف تختلف من بلد إلى آخر. فمفاتيح أرشيف الفاتيكان تخالف نظيرها في فلورنسا أو فينا أو باريس أو مدريد. وعلم قراءة الخطوط ضروري جداً لدراسة فروع مختلفة من التاريخ مثل تاريخ مصر القديم، وتاريخ اليونان والرومان، وتاريخ العصور الوسطى، والتاريخ الحديث، حتى أوائل القرن السابع عشر، بالنسبة لدور الأرشيف في أوربا، وبعد ذلك العهد تصبح الخطوط واضحة مقروءة. والخط العربي مثلاً كتب بأشكال مختلفة، فمنه: الطومار والنسخي والرقعة، وقراءتها تحتاج إلى تعلم وتمرين؛ ولقد وضع بعض القدماء والمحدثين في الشرق والغرب بحوثاً في قراءة الخطوط العربية. وفي الشرق الأدنى العثماني كتبت الوثائق التركية بعدة خطوط مثل الخط الديواني وخط القيرمة، وقراءتهما تحتاج إلى تعليم خاص. ومجموعات وثائق دار المحفوظات المصرية بالقلعة تحتوي آلاف الوثائق عن تاريخ مصر المالي والإداري في العهد العثماني وفي عهد محمد علي وخلفائه. وكلها مكتوب باللغة التركية وبخط القيرمة؛ وكذلك توجد مجموعات من الوثائق بهذا الخط في سورية وتركيا. وستظل معلوماتنا عن هذه القرون الطويلة قاصرة وناقصة وقابلة للتعديل حتى يتعلم الباحثون قراءة خط القيرمة، ويتمكنوا من دراسة هذه الكنوز التاريخية على مدى عدة أجيال

ويتصل بدراسة الخطوط علم الدبلومات فيتعلم الباحث لغة ومصطلحات وثائق العصر الذي يدرسه، وأنواع الورق والحبر الخاص بها، لكي يستطيع أن يعرف صحة الوثيقة أو بطلانها. ويلزم الباحث أن يعرف بعض نواحي علم الكيمياء لكي يستعين بذلك على فحص هذه الوثائق بنفسه إذا اقتضى آلام؛ ثم يأتي علم النومات أي علم النقود والمسكوكات. فالعملة والأنواط التي تحمل صور الملوك أو ذكرى حوادث تاريخية معينة، عليها سنو ضربها تفيد في دراسة التاريخ، فنعرف منها حقائق عن حكم الملوك وعن مدى انتشار التجارة وعن تاريخ الفنون

والجغرافيا من العلوم المساعدة الضرورية لدراسة وكتابة التاريخ؛ والارتباط وثيق بين التاريخ والجغرافيا. فالأرض هي المسرح الذي حدثت عليه وقائع التاريخ، والظواهر الجغرافية المختلفة لها أكبر الأثر في الإنسان والتاريخ. فالسهول والجبال والصحاري والوديان والأنهار والبحار والمناخ وأنواع الرياح والثروة الطبيعية والموقع الجغرافي تؤثر كلها على تكوين الإنسان وعلى نوع حياته وعلى نوع الحضارة وعلى حوادث التاريخ. فلدرس تاريخ مصر مثلاً لابد من معرفة أثر ظروفها الجغرافية في التاريخ المصري. فموقع مصر بين الشرق والغرب قد جعلها تجمع ثروة طائلة لمرور التجارة العالمية بأراضيها في العصور الوسطى؛ وموقعها الجغرافي جعلها تقف أمام أوربا أثناء الحروب الصليبية. وظروف الجزر البريطانية الجغرافية قد منعت أوربا عن التدخل في شؤونها. وفي الوقت نفسه جعلتها تسيطر على البحار وتتدخل في الشؤون الأوربية في أوقات مختلفة. وأحيانا تتدخل العوامل الجغرافية تدخلاً حاسماً في تغيير مجرى التاريخ. فالعواصف والأنواء قد ساعدت الأسطول الإنجليزي على التغلب على الأرمادا الإسبانية في 1588. وشتاء الروسيا كان من العوامل التي أدت إلى فشل حملة نابليون في 1812. فلابد من الإحاطة بكل هذه الظروف لفهم التاريخ. والتاريخ والجغرافيا متلازمان ولا يمكن استغناء الواحد منهما عن الآخر

والأدب من العلوم المساعدة لفهم وكتابة التاريخ. فدراسة الأدب بصفة عامة توسع عقل الإنسان وتجعله أقدر على الفهم. ولابد للراغب في كتابة التاريخ من أن يتذوق الشعر لكي يفهم ملكة الخلق والابتكار. ويلزمه أن يقرأ القصص الأدبي لكي يتعلم فن عرض الموضوع وإبراز الحوادث المهمة وبحث الشخصيات، ووضع التفاصيل في المكان الملائم وإثارة انتباه القارئ، ويحسن أيضاً دراسة بعض كتب النقد الأدبي لأن هذا يساعد على نقد التاريخ. ودراسة الآثار العقلية لأمة ما أمر ضروري جداً لفهم تاريخ هذه الأمة. فمعرفة الأدب اليوناني ضرورية لكتابة تاريخ اليونان؛ والإلمام بالأدب الإيطالي لازم لكتابة تاريخ إيطاليا؛ ودرس الأدب الإنجليزي مهم لفهم تاريخ إنجلترا

ويتصل بدراسة الأدب الفنون المرتبطة بالشعب أو بالعصر الذي يرغب الباحث الكتابة عنه، مثل فنون النحت والتصوير والعمارة والموسيقى. فمن يرغب في دراسة تاريخ اليونان القديم لابد له من أن يدرس تطور الفن اليوناني القديم. ومن يرغب الكتابة عن تاريخ النهضة في إيطاليا يلزمه أن يدرس تطور الفن الإيطالي في عصر النهضة. ويمكن جمع ثقافة فنية عامة بدراسة الصور والرسوم في بعض المؤلفات العامة. ويا حبذا لو أمكن الباحث أن يدرس أهم آثار الفن اليوناني أو الإيطالي في متاحف اليونان وإيطاليا، ويعيش بعض الزمن في ذلك الجو الفني الخالص بين روائع فنون التصوير والنحت والموسيقى. ولا ريب فان الفنون خلاصة العواطف الإنسانية، تعبر أصدق تعبير عن روح العصر، والتأثر بها يجعل الباحث أقدر على فهم التاريخ وكتابته

ومن المسائل الأساسية لمن يرغب في كتابة التاريخ أن يعلم ما عرفه العالم عن التاريخ قبل أن يكتب التاريخ. فينبغي أن يقرأ بعض أثار كبار المؤرخين السابقين مثل: هيرودوت وتوسيديد وليفي وماكيافيللي وفيكو وجبون وفولتير. . . وأن يقرأ بعض المؤلفات الحديثة عن التاريخ عامة، وعن العصر الذي يرغب في الكتابة عنه خاصة. فيلم بثقافة تاريخية عامة، كما يعرف الطرق التي اتبعها الأقدمون والمحدثون في بحث وكتابة التاريخ

ومن المفيد أيضاً أن يلم الباحث في التاريخ بطائفة أخرى من العلوم المساعدة. فيلزمه أن يعرف شيئاً عن المنطق وتقسيم العلوم لكي يفهم موضع التاريخ من بقية العلوم الأخرى، كما ينبغي أن يدرس فلسفة التاريخ فيعرف أراء بعض الكتاب مثل: برجسون وكروتشي. وهو محتاج أيضاً لأن يعرف مسائل عامة عن علم النفس وعلم الاجتماع والاقتصاد والمالية والقانون والنظريات السياسية، والرياضة والفلك في بعض الأحيان، لأنه قد تعرض للباحث كل أو بعض هذه المسائل، فلابد من أن يكون ملماً بها، وإذا لم يكن يعرف بعض هذه النواحي، فيمكنه تحصيلها بسهولة

وأخيراً من الضروري جداً ألا يبقى الباحث في التاريخ في بلد واحد وفي دائرة محصورة؛ بل يلزمه السفر والارتحال إلى بلدان مختلفة، لا من أجل البحث التاريخي في ذاته فقط، بل لكي يرى أفاقاً جديدة، ويكسب خبرة بالناس وبالأوساط المختلفة. ومن الضروري أن يقضي زمناً في البلد الذي يدرس تاريخه. والأفضل أن يبدأ الباحث سفره بعد أن ينهي تعليمه الجامعي في بلده الأصلي، وبعد أن يقطع شوطاً في الدرس، وبعد أن يتعين له العصر الذي يرغب الكتابة عنه؛ فيسافر وقد تزود بأسلحة نافعة وبدأ طريق البحث العلمي، فيمضي في الدرس والكشف عن الحقائق التاريخية، ويزور الأماكن المختلفة، ويدرس ويتأمل؛ والنفس العالية لا تشعر بأنها غريبة في أي مكان

وهذا كله ملخص عن العلوم المساعدة وعن الأعداد اللازم لمن يتصدى لكتابة التاريخ. وليس المقصود بذلك التوسع في كل هذه النواحي لذاتها؛ فان هذا غير مستطاع. وإنما يكفي المعرفة العامة بقراءة بعض الكتب. وقد تزيد المعرفة في نواحي معينة من هذه العلوم المساعدة، على حسب طبيعة العصر الذي يرغب الباحث في دراسته والكتابة عنه. وقد يبدو من العسير جمع هذه الثقافة العامة؛ ولكن تخصيص حوالي ست سنوات أو سبع، تفعل عجائب، وتكفي للوصول إلى مستوى مناسب، يزداد بالتدريج. وروح العلم الصحيح لا تعرف العقبات؛ والإخلاص والصبر يصلان بالباحث إلى الغرض في أغلب الأحيان.

(يتلى)

حسن عثمان