مجلة الرسالة/العدد 428/كيف يكتب التاريخ

مجلة الرسالة/العدد 428/كيف يكتب التاريخ

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 09 - 1941



للدكتور حسن عثمان

مدرس التاريخ الحديث بكلية الآداب

- 4 -

جمع المراجع والأصول التاريخية

الخطوة التالية بعد اختيار موضوع البحث التاريخي هي عملية جمع المادة التاريخية عن ذلك الموضوع سواء من المراجع العامة والخاصة أو من المصادر والأصول المطبوعة والمخطوطة، مع جمع ودراسة الآثار والمخلفات التي تتعلق بذلك الموضوع. والمراجع العامة والخاصة تفيد في إعطاء فكرة عامة عن العصر الذي يكون موضوع البحث جزءاً منه. وعدم الاستفادة بما كتبه السابقون يعتبر مضيعة للوقت وإخلالاً بشروط البحث العلمي؛ فينبغي على كل جيل من المؤرخين أن يعرف ما كتبه السابقون، وأن يبدأ حيث انتهوا، وأن يعمل مؤرخ اليوم لكي يمهد لمؤرخ الغد. والمراجع العامة والخاصة تساعد أيضاً في كشف بعض الأصول التاريخية المجهولة وتفتح آفاقاً جديدة للبحث. والباحث الذي يكتب في ناحية من تاريخ مصر في القرن الثامن عشر مثلاً ينبغي أن يدرس بعض المراجع التي تناولت تاريخ مصر منذ أقدم العصور، كما يدرس بعناية المراجع التي تبحث في تاريخها أثناء القرن الثامن عشر، ويطالع ما كتبه الرحالون الذين زاروا مصر من الشرق ومن الغرب، ويدرس ما دونوه من المعلومات والمشاهدات، وذلك لكي يفهم تاريخ العهد المعين الذي يرغب في الكتابة عنه

وكيف يمكن للباحث أن يعرف كل المراجع العامة والخاصة والأصول المطبوعة عن الناحية التي يرغب في دراستها؟ الإحاطة بذلك ليست أمرا سهلاً. ويمكن الباحث في أول الأمر أن يستعين بالاطلاع على بعض المقالات في دوائر المعارف فيعرف بعض المراجع والأصول التي تهمه. ثم يرجع إلى كتب الببليوغرافيات (المراجع) التي تتناول موضوع دراسته. ولقد أصدر الغربيون أنواعاً مختلفة من الببليوغرافيات، فمنها الببليوغرافيات العامة ومنها الخاص بقطر أو بعصر أو بشخصية معينة؛ وبعضها يكتفي بذكر المراجع والمصادر وأماكن وسني طبعها وعدد صفحاتها؛ بينما البعض الآخر يعطي مذكرات وصفية موجزة عن تلك المراجع والأصول المطبوعة. إنما هذا لا يكفي، لأن كتب المراجع لا تكون وافية في كل الأحوال، وهي في الغالب لا تذكر شيئاً عن المقالات التي تنشر في المجلات التاريخية وهي كثيرة ومتنوعة؛ فمن الضروري إذاً مراجعة فهارس هذه المجلات للإلمام بما كتب فيها عن الموضوع المعين. وكذلك يلزم الباحث أن يراجع فهارس دور الكتب المطبوعة غير المطبوعة. ويجمع الباحث من كل هذه النواحي أسماء المراجع والأصول التي تعنيه؛ ويحسن أن يستعين بعمل فهرس أبجدي على جذاذات من الكرتون ويضع عليها ملاحظاته، وإذا اقتضى الأمر أن يكتب ملاحظات مطولة فليدونها على أوراق خاصة. ثم يبدأ في قراءة الكتب التي يصل إليها ويأخذ منها مذكرات باللغة الأصلية في المواضع الهامة على الأقل، مع وضع أرقام الصفحات؛ ويرجى قراءة الباقي لحين الوصول إليه بتصويره بالفوتوستات أو بالسفر إلى مكان وجوده

ثم تأتي الأصول التاريخية التي لا توجد في أغلب الأحوال كتب ببليوغرافية تدل عليها. ومن هذا النوع نجد الوثائق والرسوم والصور ومخلفات الإنسان. . . والوثائق عبارة عن القوانين والأوامر والمنح والأحكام والفتاوى والعقود والمراسلات والمعاهدات والمذكرات والتقارير. وهي تحفظ في الأصل عند الملوك والأمراء وفي المحاكم والأديرة أو عند الأشخاص العاديين. وليس من الضروري وجود وثائق وافية عن كل حوادث التاريخ؛ فالكثير منها تنطمس آثاره وتزول دلالاته لأنها تتعرض في ظروف مختلفة للتلف والضياع مثل ظروف الثورات أو الحرائق أو الرغبة في التخلص منها وإتلافها عمداً عندما تكون في حوزة من لا يفهم قيمتها التاريخية، أو من يهمه منع تداول معلوماتها بين الناس. وبذلك يضيع الكثير منها بالنسبة للتاريخ؛ وكأن الأفكار والحوادث التي كانت تحملها في طياتها وثناياها لم تكن في الوجود. وعلى ذلك فإن المؤرخ كثيراً ما يجد فجوات في التاريخ لا يستطيع أن يملأها. وستبقى حلقات كثيرة من التاريخ مجهولة إلى الأبد؛ وليس هناك ما يمكن أن يعوض عن ضياع هذه الوثائق؛ وحيث لا توجد وثائق لا يوجد تاريخ. وينطبق ذلك على كل آثار الإنسان

وعملية البحث والكشف عن الوثائق هي أهم عملية أساسية لكتابة التاريخ. وكشف كمية من الوثائق الهامة عن الموضوع المعين هو الذي يحدد إمكان الاستمرار في بحثه أو العدول عنه إلى غيره. والباحث الذي يكتب التاريخ وقد فاته الوصول إلى مجموعة من الوثائق الأساسية لا يكون لبحثه قيمة علمية مهما كانت كفاءته وقدرته على العمل. والباحثون الأولون في التاريخ قد لاقوا صعوبات جمة في سبيل الوصول إلى الوثائق التاريخية؛ وإذا كانت الحوادث التي قصدوا أن يكتبوا عنها قريبة العهد من العصر الذي عاشوا فيه، فإنهم كانوا يرجعون إلى أقوال بعض الأشخاص الذين شهدوا الحوادث ويوازنون بينها ويستخلصون منها ما يمكن الوصول إليه من الحقائق التاريخية. على أن هذه الطريقة لا تكون سليمة دائما نظرا لتعرض الروايات الشفوية للتغيير والتعديل، والأفكار والآراء والأقوال الشفوية إذا ما دونت أصبحت مسجلة ووقف تغييرها إلى الحد الذي وصلت إليه. فالوثائق ضرورية جداً للعهد القريب من المؤرخ فضلاً عن العهد البعيد عن الزمن الذي عاش فيه. والوثائق في أغلب الأحيان تنتقل بالتدريج من حوزة الأشخاص إلى الأماكن العامة وتحفظ في دور الأرشيف ودور الكتب وفي المتاحف والكنائس

والكثير من الوثائق المحفوظة في الأماكن العامة قد وضع عنها كاتالوجات وفهارس مختلفة؛ إلا إنها في أحوال كثيرة أيضاً لا تزال غي وافية، وأغلبها يكتفي بوضع أرقام مجلدات الوثائق مع بيان الشهور والسنوات التي تتناولها، بدون أن تصف محتوياتها، وهي بين قديم وحديث ومخطوط ومطبوع. كما أنه توجد وثائق في مصر وفي الخارج لم تنظم ولم توضع عنها الفهارس الأولية بعد، وهذه بالنسبة للباحثين تعتبر في حكم المجهولة، ولا يمكن الاستفادة منها قبل تقسيمها وترتيبها ترتيباً أولياً على الأقل، وهذا كله يبين صعوبة البحث عن الوثائق. إلا أن التقدم مستمر في هذا الباب. ولقد وضعت كتالوجات وصفية لبعض نواح من الوثائق في دور الأرشيف بالغرب؛ واهتمت الحكومات الغربية بإرسال بعثات خاصة إلى الخارج لكي تبحث في دور الأرشيف الأجنبية عن الوثائق التي تهم تاريخ بلادها وعندما فتح أرشيف الفاتيكان للباحثين أنشأت كثير من الدول معاهد خاصة في روما لكي يشتغل أعضاؤها بجمع ونسخ ووضع فهارس عن الوثائق التي تهمها في الفاتيكان، فهكذا فعلت إنجلترا وفرنسا وألمانيا وأسبانيا وبلجيكا والدانمرك. . .

وكيف يمكن للباحث المبتدئ أن يشق طريقه في هذا البحر العجاج؟ لا ريب في أن طريق البحث وعر شاق؛ ولا بد من الصبر والجلد، ويستطيع الباحث أن يتصفح فهارس وكاتلوجات الوثائق التي يظن أنها تحوي شيئاً يعنيه، وبعض هذه الفهارس مطبوع وأغلبها مخطوط. ومن حسن حظ الباحث أن تكون بعض الوثائق اللازمة له قد حصرت ونظمت ووضعت عنها الفهارس. ولكن ستبقى أمامه دائما مناطق مجهولة لا بد من الإقدام على كشفها بنفسه. والباحث عن الوثائق يشبه المنقب عن الآثار الذي يظل سنوات عديدة يبحث في مناطق مختلفة حتى يعثر في النهاية على ما يرضيه ويرضي العالم. ولنأخذ بعض الأمثلة العملية عن جمع الوثائق والأصول التاريخية.

فالباحث في دار المحفوظات المصرية بالقلعة عن تاريخ محمد علي قائد الجند الألباني، بعد رحيل رجال الحملة الفرنسية عن مصر قبيل ولايته حكم مصر، سيجد مادة قد وضعت عنها السجلات الأولية فيستعين بها في فحص بعض دفاتر مرتبات العساكر الألبانيين ابتداء من 1217هـ، وسيجدها مكتوبة بخط القيرمة؛ فلابد من الاستعانة على قراءتها بمن يعرف ذلك الخط، حتى يتعلم البحث قراءته بنفسه. وسيعثر الباحث في هذه الدفاتر على أسم (محمد علي أغاسر جشمهء عساكر أرنؤود) وسيعلم بعض أشياء عن مرتباته وعن تكاليف عساكره. ثم يفحص أيضاً دفاتر (كشيدهء ديوان مصر)؛ ويجد أنها تحتوي على صور فرمانات سلطانية وأوامر باشوية بعضها يخص محمد علي أغا. ثم يبحث بعض الأوراق التركية التي لم يتم وضع سجلات لها، وهي عبارة عن بعض أوامر باشوية أو تذاكر ديوانية خاصة بمرتبات جند محمد علي

وقد يسافر الباحث في ناحية من تاريخ الشام إلى سوريا لمقابلة بعض العارفين بتاريخ البلاد وبدور الكتب بها كالدكتور أسعد رستم فيجده قد أنتقل إلى المصيف، فيتبعه إلى ظهور الشوير ويتحدث إليه طويلاً ويأخذ منه ما يريد. وقد يحاول الاتصال بالأستاذ إسكندر المعلوف فينتقل إليه في زحلة ويستفيد بخبرته ومعلوماته. ثم يقصد دمشق فيجد الأستاذ كرد علي قد غادرها إلى شمال سوريا، وفي انتظاره يجتمع بالأستاذ عبد القادر المغربي وبالأستاذ حسني الكسم فيتحدث إليهما وتنفتح أمامه سبل لم يكن يعرفها من قبل، وبذلك يمكنه الوصول إلى مجموعة من المخطوطات الأساسية التي لم تدرس من قبل

والبحث في أرشيف الحكومة التاريخي في فلورنسا عن تاريخ المصادمات البحرية بين الأسطول العثمانية وبين السفن التسكانية في القرن السابع عشر مثلاً، يجد في الفهارس والكاتالوجات المطبوعة والمخطوطة بدار الأرشيف بعض ما يفيد في فحص مجلدات خاصة؛ ولكن هذا لا يكفي، بل عليه أن يدرس عشرات من المجلدات في سنوات معينة وفي نواح مختلفة؛ فيفحص مثلاً المجلدات التي تحوي مراسلات ممثلي فلورنسا في الدولة العثمانية، ومذكرات التجار الفلورنسيين، وتقارير رجال سان ستيفانو الواردة إلى حكومة فلورنسا، والتي تحوي أخباراً عن حوادث ذلك الاصطدام. وكذلك يفحص المجلدات التي تضم صور المراسلات الصادرة من حكومة فلورنسا إلى ممثليها في الشرق الأدنى، وإلى التجار الفلورنسيين، وإلى رؤساء وقواد نظام سان ستيفانو. وللغرض نفسه ينبغي أن يفحص أيضاً عشرات من المجلدات عن المراسلات الواردة من صقلية والبندقية وجنوا مثلاً إلى حكومة فلورنسا، والتي تتضمن أخباراً عن هذه المصادمات؛ ثم المجلدات التي تحوي صور المراسلات الصادرة من فلورنسا إلى كل تلك الجهات؛ وينتج عن ذلك المجهود جمع مادة أصلية مهمة لم تكن معروفة من قبل عن موضوع البحث

ولا ينبغي على الباحث أن يقتصر في جمع الوثائق البحث الذي يدرسه على أرشيف واحد فقط؛ فمن الضروري البحث عن وثائق أخرى - إن وجدت - في أمكنة متعددة، ونتناول نفس الموضوع، فيتجه الباحث إلى أرشيف الحكومة التاريخي في فيينا لأنه يرى أن علاقات السلم والحرب كانت قوية دائماً بين الدولة العثمانية وإمبراطورية النمسا، وأنه لا بد من أن أخبار الاصطدام البحري بين السفن العثمانية والسفن التسكانية قد وصلت إلى ممثلي النمسا في القسطنطينية، وانهم قد أرسلوها بدورهم إلى حكومة فيينا. ويكتب الباحث إلى مدير أرشيف فيينا فيرسل إليه المعلومات التي يعرفها؛ وملخصها إن المادة الموجودة عن ذلك الموضوع قليلة جدا وعديمة الأهمية. إنما ذلك لا يعني أن هذه المعلومات صحيحة، ولا يقتنع الباحث برد مدير الأرشيف. ويسافر بنفسه إلى فيينا، ويجد إن الكتالوجات الموجودة لا تفيد شيئاً؛ ولكن ذلك لا يمنعه من البحث؛ يعمل بعض الزمن وينتهي به الأمر إلى كشف طائفة ممتعة من الوثائق الألمانية والإيطالية عن الموضوع الذي يدرسه، فيحملها إلى مدير الأرشيف ويرجوه أن يدرجها في كاتالوجاته. ونلاحظ إن الباحث ينسخ بنفسه جزءاً من الوثائق التي يعثر عليها ويمكنه اختصاراً للوقت أن يشرك معه بعض الأخصائيين في نسخ جزء من الوثائق، كما يمكنه أن يصور بالفوتوستات جزءاً آخر على حساب الحالة. ولا يكتفي الباحث بكل ذلك، بل يمضي بالبحث والكشف عن الوثائق في أماكن أخرى مثل باريس ومدريد ولندن. . . ويدرس الباحث المادة التي جمعها ويقارن بين مجموعات الوثائق التي كشفها ويوازن بين معلوماتها وبين ما وصل إليه من المراجع والأصول المطبوعة، ويستخلص الحقائق التاريخية التي يمكنها الوصول إليها، كما سنرى ذلك في المقالات التالية. وهذه كلها أمثلة عملية تعطى فكرة عامة عن كيفية البحث عن الوثائق والأصول التي تظل مجهولة للعلم حتى يكشف عنها. وإلى آخر لحظة يظل الباحث يتوقع كشف أصول جديدة توضح أو تغير ما وصل إليه من الحقائق مما قد يضطره إلى تعديل معلوماته إذا لم يكن قد طبع بحثه بعد، أو إلى تغييره إذا ما أعاد طبعه

ويتصل بالوثائق الرسوم والصور وهي مهمة من ناحية تاريخية. والأثر الذي يحدثه الشكل يسجله الفنان على الورق أو على المرمر، والصف الكتابي مفيد في بيان عادات وخلق نابليون مثلاً؛ لكن رسم الفنان إياه أو صنع تمثال له يعطينا فكرة مجسمة تضاف إلى ما نعرفه من أوصافه بطريق الكتابة. والرسوم والصور وثائق مهمة لأنها تحفظ لنا أبداً آثارا وأشكالا ومناظر وأزياء مختلفة قد تغيرت معالمها أو زالت من الوجود، ولا تستطيع أن تعبر عنها بوضوح الكتابة الوصفية. ونزداد أهمية التصوير بعد تقدم استعمال الفوتوغرافيا في الوقت الحاضر، فهي تسجل مشاهد عديدة للإنسان ولآثار الحضارة والعمران

ومن الأصول المهمة أيضاً نجد آثار الإنسان ومخلفاته وتقاليده، كما عرفنا ذلك في مقال سابق. وأعمال الحفر والتنقيب تكشف عن مخلفات العصور القديمة؛ والبحث في بعض الأماكن يؤدي إلى العثور على آثار الإنسان في العصور الحديثة. ويجب على الباحث أن يشاهد ويدرس بنفسه آثار العصر الذي يكتب عنه. وينبغي أن يزور المباني القائمة التي كان رجال العصر يعيشون فيها، والحدائق التي كانوا يروحون عن خواطرهم في أرجاءها، وأن يتعرف طرق المعيشة والأزياء وأدوات الحرب وآلات الموسيقى. . . وفي الغالب تحول المباني إلى متاحف وتجمع فيها بعض آثار الإنسان. ولا ريب فإنه من الضروري للمؤرخ أن يعيش فترة خلال هذه الذكريات التي أدت من الماضي إلى الحاضر، وأن تشيع في نفسه هذه الرؤى وتلك الخلجات التي أحاطت برجال العصر الذي يدرسه (يتلى)

حسن عثمان