مجلة الرسالة/العدد 429/شخصيات تاريخية:

مجلة الرسالة/العدد 429/شخصيات تاريخية:

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 09 - 1941



ثيموستوكل

للأستاذ محمد الشحات أيوب

كانت بلاد اليونان في أوائل القرن الخامس قبل الميلاد، محاطة بدول فتية ناهضة كدولة الفرس في الشرق التي قضت على الإمبراطوريات الكبرى القديمة في مصر وكلدونيا وسوريا وليديا، وكدولة القرطاجنيين التي نهضت في شمال أفريقيا، وأخذت تبسط سلطانها على البلاد المجاورة لها في الجزء الغربي من البحر الأبيض المتوسط، وكدولة روما الناشئة التي ثارت في وجه الأثرسكيين، وأخذت تكون لنفسها سلطاناً واسعاً في شبه جزيرة إيطاليا. وقد اتفق الفرس والقرطاجنيون، واتفق القرطاجنيون والأثرسكيون، على وضع حد لاستعمار اليونان بعد هذه الحركة التي كان من نتائجها انتشارهم في معظم أجزاء البحر الأبيض المتوسط.

لذلك كان لا بد من أن ترتطم قوة الفرس بقوة اليونان في الشرق، وقوة القرطاجنيين والأثرسكيين مع اليونان في الغرب. وقد أراد الفرس الانتشار غرباً، فوجدوا أمامهم اليونان ستتبين في غرب آسيا الصغرى، فأخضعوهم لسلطانهم، ولكن هؤلاء اليونان ثاروا على أسيادهم الفرس، وطلبوا المعونة والمساعدة من إخوانهم يونان القارة الأوربية، فلم يلب نداءهم إلا دولتان هما: أثينا وإرسيزى اللتان وجهتا حملة لتخليص إخوانهم من نير الفرس. من اجل هذا حقد الفرس على هاتين الدولتين، وصمموا على معاقبتهما والانتقام منهما؛ فكانت ثورة اليونان في غرب آسيا الصغرى بدء عهد نزاع خطير، يعرف باسم الحروب الميدية بين قوتين لا يستهان بهما وهما: قوة الفرس وقوة اليونان.

وقد استمر النزاع مدة طويلة بين هاتين القوتين. ونحن لا يعنينا اليوم من هذا النزاع إلا تلك الحروب التي نشبت في أول القرن الخامس قبل الميلاد، ولا يهمنا منها إلا تلك الشخصية العظيمة، شخصية (ثيموستوكل) التي لعبت دوراً مهماً جداً في ترجيح كفة اليونان على كفة الفرس.

ولكي نتمثل أهمية الدور الذي لعبه ثيموستوكل، يجب أن نعلم أن اليونان لم يكونوا متفقين فيما بينهم وبين أنفسهم على الخطة التي يجب عليهم أن يتبعوها. كانوا فريقين: فريقاً منهم مع الفرس يساعدهم ويشد أزرهم، وفريقاً آخر في صف الوطن يعمل للدفاع عنه وللتمكين من استقلاله، وهم بعد ذلك لم يكونوا دولة متحدة قوية تقف صفاً واحداً أمام دولة الفرس، بل كانوا دولاً صغيرة تتنافس فيما بينها وتحقد كل منها على الأخرى، ثم إلى جانب هذا وذاك كانت كل دولة على صغرها منقسمة على نفسها في الداخل وتتنازعها الأهواء والأحزاب، فكان النزاع قوياً جداً بين الأرستقراطيين والديموقراطيين في أثينا وشديداً جداً بين الملكيين والأينور الخمسة في إسبرطة؛ وكذلك كانت الحال في أرجوس وكورنث وتساليا وغيرها، فجاء ثيموستوكل واستطاع أن يوحد بين هذه الأشتات المتناقضة وكون منها جبهة قوية وقفت أمام الفرس وصدتهم عن أرض اليونان، بل وأحرزت عليهم انتصاراً عظيماً هو انتصار موقعة (سلامين). فالشخص الذي يستطيع أن يجعل بلاده تحرز هذا النصر الحاسم وهي على هذا النحو من الانقسام والفرقة لا شك يعد من أكبر الشخصيات في التاريخ.

وقعت الحرب الميدية الأولى في عام 490 ق. م ووجه الفرس حملتهم الأولى ضد أثينا وبلاد اليونان في هذه السنة، فتصدت لهم القوة الأثينية وعلى رأسها مليتاد يساعده بعض القواد مثل طالليماكوس وتيموستوكل وأرستيد، وتمكنت هذه القوة من صدهم وإلحاق الهزيمة بهم في موقعة ماراتون الكبرى، فارتد أسطول الفرس بعد ذلك عائدا إلى بلاده. انتصرت أثينا في هذا الدور الأول وكانت الشخصية الغالبة هي شخصية مليتاد؛ أما تيموستوكل فلم يكن له شأن كبير حينئذ، إنما كان يقوم بدور ثانوي في هذه المعركة، إذ وضع هو وأرستيد على رأس الوسط في الجيش، أما كبار القواد مثل مليتاد فقد وضعوا على رأس الجناحين لأن خطة الجيش اليوناني كانت ترمي إلى القيام بحركة تطويق لحصر جيش الأعداء.

هزم الفرس في هذه الموقعة؛ ولكن (دارا) ملكهم لم يكن بالشخص الذي يرضى عن الهزيمة، وإنما أخذ يعد العدة للانتقام، ثم مات دون أن يحقق هذا الغرض، وخلفه ابنه أجررنسيس تاركاً لهذا الابن عبئاً ثقيلاً ومهمة خطيرة، ولم يصب أجررنسيس هذا من النجاح ما أصاب أبوه من قبل، ولم ينجح في النيل من اليونان والانتقام منهم بالرغم مما عرف عه من مضاء العزيمة وقوة الإرادة وحدة الذكاء ونشاط الشباب. هزم كما هزم أبوه من قبل، وأنتصر عليه اليونان لأنهم أوتوا من الحظ السعيد ما أوجد لهم شخصية عبقرية هي شخصية تيموستوكل التي عرفت كيف تتبصر للأمر، وتضع الخطط الحربية الماهرة استعداداً لهذا العراك العنيف. وكانت هذه الهزيمة سبباً لازدراء اليونان به، واحتقارهم له؛ فتحدث عنه (أشيل) في تراجيديته الرائعة (الفرس) وصوره كما صوره غير من كبار كتاب اليونانيين في صورة بشعة: صوره كأنه رجل مجنون أصيب في عقله. أراد أن يتسامى إلى صف الآلهة فاعتقد نفسه منهم، فتكبر وطغى، فحقدت عليه وتربصت به، وجعلته يضل السبيل، ويرتكب من المآثم والغلطات ما كان من الأسباب التي أدت إلى هزيمته

وكان الحزب المسيطر على شؤون الحكم في أثينا في ذلك الوقت هو الحزب الديمقراطي، وهو الحزب الذي استطاع أن يقودها إلى النصر. وكان على رأس هذا الحزب زعيمه تيموستوكل الذي إليه يرجع الفضل الأكبر في إحراز النصر في موقعة (سلامين)، لذلك كان هذا النصر من الأسباب التي قوت من شأن الديمقراطية الأثينية وجعلتها ترتكز على أساس متين حتى بلغت أوجها في عهد بركليس

لم يكن تيموستوكل من الأشراف ولا من الأرستقراط، بل ولم

يكن من الطبقات الوسطى، وكانت العادة في القديم إلا يولى

الشخص مهام دولة إلا إذا كان من أبناء البيوتات الكبيرة.

لذلك كان من أعجب الأمور أن يستطيع شخص كتيموستوكل

أن يصل إلى أعلى المناصب في الدولة وهو فرد من أفراد

الشعب، فلم يتعود الناس من قبل أن يتزعم الحزب الديمقراطي

شخص من أبناء الشعب، وإنما كانت العادة أن يتزعمه أفراد من الأرستقراط الذين كانوا يميلون إلى الشعب ويودون

إنصافه ورفع الظلم عن كاهله؛ بل كان تيموستوكل أكثر من

هذا، كان من أصل اجنبي، ونحن نعرف إن الشعوب القديمة

كانت تنظر نظرة خاصة إلى الأجانب لاعتبارات أساسها

الدين، كما وضح ذلك خير توضيح المؤرخ الفرنسي الشهير

(فيستل دي كولا في كتابه عن (المدينة القديمة لذلك كانوا

في مركز الخاص من الوجهة القانونية، فلم يكن يسمح لهم

بالتدخل في شؤون البلاد الداخلية إلا إذا اكتسبوا حقوق المدينة

وهي ما نعرفها اليوم (حقوق التجنس بالجنسية الأهلية). كان

أبو تيموستوكل من هذا النوع: كان أجنبياً ولكنه أكتسب صفة

المواطن بما خوله له دستور كليستين من حقوق، وكانت أمه

أجنبية أيضاً، ولكنه تمكن، بالرغم من ذلك، من أن يعتلي أكبر

المناصب في الدولة، وهو صغير السن، كمنصب الأركون في

عام 493492 ق. م. وسنه لا تزيد على ثلاثين عاماً ومنصب

الاستراتيج في عام 490489 وقد بلغ من العمر ثلاثة وثلاثين

عاماً، لأنه أوتي من المواهب والصفات ما جعله يصل إلى

الحكم في سهولة ويسر؛ إذ كان ذكياً إلى أقصى درجة من درجات الذكاء، وكان سريع الحكم في ثقة واطمئنان، وكان

خطيباً بارعاً ذاق اللسان فصيحاً، وكانت موهبته من هذه

الناحية موهبة طبيعية لم تأت عن طريق الدراسة ولا عن

التجربة، إنما أتاه الله حظاً عظيماً من الفصاحة والبلاغة جعله

يسيطر على مواطنيه، فيملك عليهم مشاعرهم ويوجههم أنى

شاء، فأسلسوا له القياد، وجعلوه يتربع على مكان الزعامة

فيهم. وقد تمكن من هذه الزعامة وأستأثر بها، حتى أنقذ بلاده

من خطر داهم كاد يقضي عليهم، فأحرز لها نصراً حاسماً

نقلها من دولة صغرى إلى دولة كبرى لها إمبراطورية

ضخمة، وتتحكم في موارد البلاد المجاورة وتشرف على جزء

كبير من شرق البحر الأبيض المتوسط. فتكبر وتغطرس،

وطغى وتجبر؛ ولكنه كان رجلا لا كالرجال، وعبقرياً لا

كالعبقريين. تضطرنا عبقريته إلى التغاضي عن كثير من

عيوبه، لان هذه العبقرية من النوع الذي يجعلنا ننحني أمامه

إجلالاً واحتراماً. وهو كغيره من الشخصيات العظيمة التي

أحدثت انقلاباً هائلا في تاريخ بلادهم مثار نزاع بين كثير من

المؤرخين ولا سيما القدماء منهم مثل أبي التاريخ هيرودوت، والمؤرخ الأول توسيديد: قسا الأول عليه قسوة شديدة، فأصدر

عليه حكما في شيء كثير من البعد عن جادة الحق، أما الثاني

فكان أقرب إلى الاعتدال: وقف إلى صفه ودافع عنه دون

تحفظ ولا احتياط

نظر تيموستوكل إلى بلاده فوجدها عبارة عن شبه جزيرة

تحيط بها المياه من جميع الجهات إلا جهة واحدة، ووجد

الخطر عليها عظيم إذا ما أتى العدو إليها يغزوها عن طريق

البحر فينزل إلى البر - كما فعل الفرس - قوات هائلة، لا

يستطيع الأثينيون لها رداً ولا صداً، إلا إذا كانت لديهم قوات

بحرية تستطيع أن تنازلهم فتبعدهم عن أرض الوطن، فأخذ

يعلن بين الأثينيين أن مستقبل أثينا على البحار. وقد خالف

الكثيرون في ذلك؛ ولكن التجارب والحوادث التي وقعت فيما

بعد أيدت رأيه وصدقت نظريته. رأى كثير من أبناء جلدته أن

موقعة ماراتون هي آخر المواقع بين الفرس واليونان، وأنهم

ما داموا قد انتصروا فيها، وما دام العدو قد ابتعد عن بلادهم

فلن يعود إليهم أبداً. لذلك وثقوا واطمأنوا؛ أما هو فكان يرى

غير هذا الرأي، كان يرى أن ماراتون ما هي إلا خطوة من خطوات النزاع بين الفريقين، وأن الفرس لا شك راجعون من

جديد للانتقام لأنفسهم من الهزيمة الساحقة التي لحقتهم من

قبل، وذلك لوقوفه على بعض أخلاقهم ولمعرفته ببعض

عاداتهم. من أجل هذا رأى أن يمكن لأثينا على البحر بأن

يؤسس لها أسطولا بحرياً ضخماً يجعل لها السيادة البحرية من

دون منازع. ورأى أيضاً أن يعمل على تحويل الشعب الأثيني

من شعب حربي بري، إلى شعب حربي بحري، من شعب

مشاة وفرسان، إلى شعب ملاحين وبحارة، ولكن هذا وحده لا

يكفي، فلابد إلى جانب هذا من اختيار المواني المنيعة التي

تصلح لإرساء الأسطول، والمواقع الطبيعية التي إن حصنت

صلحت مراكز مهمة للدفاع عن البلاد. فعدل عن ميناء فالير

المكشوف لتعرضه للرياح والأعاصير، ولعدم صلاحيته من

الناحية الطبيعية، إلى ميناء بيريه وحوله خلجان طبيعية منيعة

كخليج (نريا) وخليج (موينخيا)؛ وهذه الخلجان تصلح هي

الأخرى لان تكون مواني جيدة. فأخذ يحصن هذا الميناء

الجديد، وساعده على القيام بهذه الأعمال أعمال التحصين -

أن كان يتولى مركزاً من مراكز القيادة - وهو مركز الأستراتيج في عام 490489

ذاعت آراء (تيموستوكل) وانتشرت بين الاثينيين، فانضم إليه كثير منهم يؤيدونه ويساعدونه على تكوين هذا الأسطول البحري الضخم الذي يحلم بتأسيسه، بعد أن سمعوا ما سمعوا عن استعداد الفرس العظيم، وقرب قيامهم بالهجوم على وطنهم، وبعد أن رأوا من هذا النزاع الذي يهدد بلادهم بالخطر بين أثينا وأرجينا، وفي هذا النزاع لم تستطع أثينا إحراز النصر آلا بعد صعوبة كبيرة، بعد أن أعارتها كورنت عشرين سفينة من أسطولها، فأثر الخطر الفارسي والخطر الأرجيني عليهم. وقد زاد عدد المؤيدين لنظرية (ثيموستوكل) زيادة هائلة بعد ما وجد الأثينيون أن وطنهم أصبح في حاجة شديدة إلى المواد الغذائية التي قلت بنسبة عظيمة بعد أقفال الأسواق الاقتصادية في الخارج في البلاد المعادية لبلادهم، كبلاد البيوسيين والشاليين، أو في بلاد خضعت للفرس مثل بلاد شبه جزيرة اكليسيديك والبحر الأسود ومصر. فلم يكن بعد ذلك أمام أثينا أسواق اقتصادية واحدة تستطيع أن تتمون منها وهي سوق الغرب في صقلية وبلاد اليونان الكبرى؛ وأثينا لا تستطيع أن تستورد من هذه البلاد القمح والمواد الغذائية الأخرى إلا إذا كان لديها أسطول عظيم يحمل لها ما هي في حاجة إليه

ثم إن تيموستوكل أثر على مواطنيه بحجة أخيرة وهي من أقوى الحجج تأثيرا على ذهنية الشعب - إن صح إن للشعب ذهنية - فبين لهم إن الأسطول المزمع إنشاؤه سيكون مورداً لإعالة فقراء الأمة من الذين لا يجدون عملا ما، وهم أصحاب الطبقة الرابعة من الشعب المسماة طبقة (التيت فمن هذه الطبقة سيجند الملاحون والبحارة الذين من دونهم لا يستطيع الأسطول أن يقوم بمهمته على الوجه الأكمل

أقنعت أغلبية الشعب بهذه الحجج المختلفة؛ ولكنهم تساءلوا: من أين لنا بالمال الذي يساعدنا في بناء هذا الأسطول، ونحن نعرف أن الأسطول يحتاج إلى مال كثير؟ لم يقفوا كثيرا عند هذا السؤال، إذ ساعدهم الحظ في ذلك الوقت فوجدوا المال اللازم، وجدوه في مناجم (لوريون) بالعثور في عام 483 - 482 على عرق ثالث من عروق الفضة قائم بين طبقتين من الطبقات الأرضية، كطبقة (الشيست) وطبقة (الككلير)، وكان هذا مصدر ثروة كبيرة، وعلى الأخص بعد أن نضب معين العرقين السابقين. وهنا اختلفت آراء الشعب بصدد هذا المصدر الجديد من مصادر الثروة، فانقسمت الأمة قسمين قسم على رأسه أرشيد الزعيم المعروف يريد توزيع هذا الإيراد - وهو إيراد منتظم - بين المواطنين جميعا (ويتراوح هذا الإيراد بين 50، 100تالانت) فإذا وزع على هذا النحو نال كل فرد ما يقرب من 20 دراخمة (والتالانت فيها 6000 دراخمة). وقسم آخر على رأسه ثيموستوكل يرى أن تعير الدولة لكل مائة من كبار الأغنياء (تالانت واحدة) على أن تكلف كل وحدة من هذه الوحدات المئوية ببناء سفينة، حتى إذا اجتمعت هذه السفن بعد بنائها كانت نواة طيبة للأسطول الأثيني. طالت المناقشات بين الفريقين وزاد النزاع حدة بينهما، ولكن تيموستوكل وأنصاره تغلبوا في آخر الأمر، ونفى الشعب الزعيم المعارض أرشيد، وظفر ثيموستوكل وأتباعه بما أرادوه لوطنهم من هذا الأسطول الذي كان السبب الأكبر في إحراز النصر في أكبر معركة بحرية في القرن الخامس على الإطلاق وهي معركة (سلامين). وعلى هذا النحو حدث هذا الانقلاب الهائل الذي حول أثينا من دولة برية إلى دولة بحرية لها أسطول قوي ضخم كان هو السبب الرئيسي في بناء مجدها وعظمتها في القرن الخامس قبل الميلاد، فأصبحت أثينا بذلك دولة بحرية قادرة على الدفاع عن أرضها وعن أرض اليونان جميعاً ضد قوات كبيرة تفوقها في العدد والعدة وهي قوات الفرس. وقد كان ثيموستوكل في هذا رجلا عظيماً، إذ استطاع أن يحدث هذا الانقلاب وأن يكون هذا الأسطول الذي جمع ما يقرب من مائتي سفينة والذي كان العامل الأساسي في بناء الإمبراطورية الأثينية البحرية

أخذت أثينا بعد ذلك تستعد للمعركة القادمة وهي واثقة ومطمئنة إلى أسطولها القوي، ولكنها تشعر تمام الشعور إنها لا تستطيع وحدها مناهضة الفرس، بل كانت على يقين من ضرورة الحصول على تأييد إسبرطة والدول اليونانية الأخرى. وكانت إسبرطة أنانية، بلغت أنانيتها حداً عظيماً جداً عرف في التاريخ القديم، فهي لا تهتم إلا بشؤونها وبشؤون جزيرة البيلويونيز الخاصة لسلطانها المتمكنة لأمرها، ولكنها فهمت أخيراً أن من مصلحتها الاتفاق مع أثينا والمدن اليونانية الأخرى التي تريد الدفاع عن اليونان لوضع خطة دفاعية مشتركة، لأنها أحست أن في انتصار الفرس ترجيحاً لكفة أعدائها كدولة أرجوس التي تناوئها العداء في شبه جزيرة البيلوبونيز، وإضعافاً لسلطانها ونفوذها هي؛ لذلك دعت إلى عقد مؤتمر يوناني عام، هو مؤتمر الجامعة اليونانية الأول، اشترك فيه عدد من اليونان، وامتنع عن الاشتراك فيه عدد آخر كان يؤيد الفرس، ولزم عدد ثالث جانب الحياد وفي هذا المؤتمر العام الذي عقد بجوار مدينة كورنث نرى ثيموستوكل يلعب دوراً بارزاً مهماً هو دور الصلح والتوفيق بين اليونان، وتحقيق الوحدة بينهم جميعاً ضد العدو المشترك، فسعى سعياً حقيقياً للقضاء على أسباب الخلاف بينهم، وعلى الأخص بين أثينا وأرجينا؛ ثم إنه أظهر في هذا المؤتمر أيضاً بعداً في النظر وترفعاً عن المطامع الشخصية، فقبل أن يكون قواد الأسطول والجيش من رجال إسبرطة، وأن يمثل هو في الأسطول مكاناً ثانوياً مع إن المنطق كان يقضي بأن تكون قيادة الأسطول لأثينا، لأنها أصبحت أقوى الدول اليونانية في البحر، ولكنه تغاضى عن ذلك ورضى أن يعمل تحت إمرة أمير البحر الإسبرطي (إيربياد) بل وأيده كل التأييد، مع أن (ايربياد) هذا كان دونه في شؤون البحر، ثم بذل له من النصح والإرشاد في موقعة سلامين الكبرى ما يحملنا على أن نقارن بين موقفه هذا وبين موقف سيف الإسلام خالد بن الوليد الذي رضى أن يجاهد في سبيل الإسلام تحت قيادة أبي عبيده بن الجراح مع أنه يفوقه في الفنون الحربية، ومع أنه كان يتولى شؤون القيادة قبله على نفس الجيش الذي كان يحارب في صفوفه. وقد رضى كل من ماند وثيموستوكل بهذا الأنهما لا ينظران إلى مصالحهما الشخصية بل ينظران نظرة كلها جلال وجمال. هي النظرة إلى المصلحة العامة ووضعها في المكان الأول من اهتمامهم ورعايتهم. ثيموستوكل من الرجال الذين يفضلون وطنهم على أشخاصهم ويتعالون بمطامع بلادهم على مطامعهم الشخصية، لذلك كانوا أبطالا حقاً. من أجل هذا السبب استطاعوا وأن يكونوا عند حسن ظن مواطنيهم بهم، فكونوا لا نفسهم مجداً لا زال باقياً على الحياة، واسماً لا يزال صداه يرن في آذاننا حتى اليوم

هذا في الخارج؛ أما في الداخل فقد رضى أن يستدعى منافسه ومعارضه أرشيد من المنفى، بل وأن يشركه معه في الحكم، فاتفق الاثنان معاً في ذلك الوقت العصيب الذي تعرضت فيه بلادهم لخطر الغزو الأمين. فبرهن ثيموستوكل بذلك أيضاً على أنه قادر على دفن الأحقاد الشخصية في سبيل رفع كلمة الوطن وعلى هذا النحو استطاع ثيموستوكل أن يحقق الوحدة داخل وطنه بالاتفاق مع خصومه ومعارضيه، وأن يحقق الوحدة في الخارج بالاتفاق بين بلاده والبلاد المنافسة لها وعلى رأسها إسبرطة، وأن يعد العدة للنزاع المقبل ببناء أسطول قوي لا يستطيع اليونان إحراز النصر بدونه، فكان أن أعد البلاد على خير وجه لاستقبال قوى الفرس. واليونان مطمئنون إلى عدالة قضيتهم وواثقون إلى قوادهم وزعمائهم، وهم يعملون آخر الأمر ويحاربون متحدين متراصين كالبنيان يشد بعضه بعضاً في سبيل الدفاع عن الوطن المقدس

كان هذا هو الدور الإعدادي الذي أظهر فيه ثيموستوكل مواهب العبقرية في الزعامة والتنظيم والإدارة. أما عن دور التنفيذ وهو الدور الحاسم الذي أحرز فيه اليونان جميعاً النصر المبين فله مجال آخر سنحدثك عنه في العدد القادم إن شاء الله

محمد الشحات أيوب