مجلة الرسالة/العدد 43/العلوم

مجلة الرسالة/العدد 43/العلوم

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 04 - 1934



ويسألونك عن الأهلة

للدكتور أحمد زكي

- 2 -

ملعوب القمر

نظر الإنسان من قديم إلى القمر، فوجد بعض سطحه نيِّرا كثير النور، وبعضه قاتما قليل القتومة، فتخيل عنه الأخيلة.

وجاء التلسكوب فنظر إليه منه فزاد تفصيل ما كان يراه أجمالا، فرأى مناطق الأنوار قد اتسعت، ومناطق الظلال قد امتدت، وتداخل النور في الظل، وتداخل الظل في النور، وتمثلت في ذهنه صورة الكرة الأرضية ببحارها الواسعة وقارَّاتها المديدة، وعرف البحر يدخل في الأرض، وعرف الأرض تدخل في البحر؛ وعلم أن الأرض تكون بها الجبال العالية الرواسي فتظهر في الشمس للرائي البعيد واضحة وضاءة، وتكون بها الوديان المنخفضة المستورة فتظهر في الشمس للرائي البعيد قاتمة معتمة، فطبق الإنسان علمه الأرضي على ما أرتاه في القمر من ظلال وأنوار، ورسم الرسامون خرائط لوجه القمر كثيرة دقيقة، فأما المناطق التي برزت بنصاعتها فأعطوها أسماء فلاسفة معروفين، أو فلكين مشهورين، لأنهم خالوها جبالا شواهق خالة فتخلد أسماءهم، وأما المناطق التي امتازت بحلوكتها فحسبوها بحار أو محيطات فأسموها البحر الحبيس والمحيط العاصف.

وغير ذلك من أسماء تسلس في السمع وتجوز في الإفهام وزاد الإتقان في صناعة التلسكوبات فاحتد بها بصر الإنسان ودقة ملاحظاته، واستخدم التصوير الشمسي في التقاط ما يرى من صور، فعلم من أمر القمر ما لم يكن يعلم، ومع ذلك احتفظ علم الفلك بالأسماء الرنانة التي وضعت قديما أعلاما على مناطق القمر.

ويظهر إن الإنسان عز عليه فقدان هذا الحلم العزيز، فلما قام صوت يجدده ويحييه منذ مائة عام وجد له آذانا تصغي وقلوبا تؤمن. ذلك إن العالم الفلكي المعروف الدكتور جون هرشل ذهب في بعثة إلى جنوب أفريقيا لدراسة النجوم في وسط السماء الجنوبي كما درسها في نصفها الشمالي، ولما وصلها أنطلق قلم بعض الكتاب يصف ما وجدت البعثة من العجائب وما كشفته في القمر من غرائب، وذلك على صفحات جريدة بالولايات المتحدة ذات مكانة رفيعة وحرمة معروفة أسمها (شمس نيويورك) ذكر الكاتب كيف اهتدى الدكتور (هرشل) بعد مناقشة علمية طويلة بينه وبين العالم الفيزيائي السير دافيد إلى صنع تلسكوب جديد يستخدم فيه الضوء الصناعي في توضيح الصورة البؤرية للمرئيات، وأفاض في تفصيل تلك المناقشة وذكر فيها كثيرا من نظريات الضوء وقواعده ومعقداته، وقدَّر العالمان نفقه هذا المخترع الجديد فكانت سبعين ألفا من الجنيهات، فبعثا إلى صاحب الجلالة الملك وليم الرابع بجملة الأمر، وكان جلالته يهتم بالبحار أكثر من اهتمامه بالأقمار، فسأل هل يفيد هذا المنظار الجديد الملاحة؟ فكان الجواب نعم، فأمضى لهما حوالة بيضاء يرقمان فيها المال الذي يريدان. وصنع المنظار وجاء دور الرؤية فكانت رؤيا. نظر (هرشل) إلى القمر لأول مرة فماذا رأى؟ (أخذ أول الأمر يتفقد أراضي القمر وآفاقه أحمالا فرأى من ذلك عجبا؛ رأى بلورات لامعة تشع منها ألوان مختلفة جميلة كالتي تشع من الجواهر والأحجار الكريمة، إلا إنها ذات جرم هائل، فهي أشبه شيء بأعمدة (الاستالا كتيت) البديعة التي تتدلى من سقوف الغيران. ورأى رواسب الذهب تغمر السفوح والقيعان) ثم دار بمنطاده فوقع على غابة قمرية (بها أشجار عظيمة اختلفت أجناسها ولمعت أوراقها وتلونت أزهارها، وطالت بعض فروعها العالية وتدلّت حتى نالت الأرض. ونمت هذه الغابة إلى جانب بحر ذي ضياء سحري كأنما سكنته الحور. . .) وأخيرا وقع على حيوانات القمر فرأى (قطيعا من ذوات الأربع سمراء اللون أشبه شيء بثيران البيسون، يتميز بغشاء من اللحم نما كالمظلة على العينين وامتد حتى اتصل بالأذنين، هو لا شك وقاية من صنع الطبيعة أرادت بها حفظ أبصارها من ضوء يشتد على هذا الجانب من القمر حتى يبهر العين ويؤذيها. واتضح بعد نظرات عديدة أخرى أن حيوانات القمر كلها تشترك في حمل هذا الحجاب الساتر) ثم دار (هرشل) بمنظاره هنا وهنا، وبعد لأي (رأى جماعة من الطير تهبط إلى جانب غابة صغيرة، ولما مست أرجلها الأرض اختفت أجنحتها واستقام عودها ومشت مشية الإنسان) وذات يوم استيقظت البعثة على صوت هاتف يهتف: النار النار. فهرعوا إلى ناحية الصوت فوجدوا أنهم كانوا في الليل غفلوا عن أن يوجهوا المنظار غير وجهة المشرق، فلما طلعت الشمس أصابت عدساته فتركزت على ما وراءها فأحرقته وأحرقت المرصد بما فيه، وأدهى من ذلك وأنكى إنها أساحت زجاج المنظار نفسه وأتلفت مراياه فخيم على المعسكر يأس شديد)

هذه كلها بالطبع قصة من خلق كاتبها، أطالها ومدد فيها واستعار لها لغة العلم، وقواعد العلم، ونقاش العلم، فسبكها وحبكها وأطلعها على الناس من فوق منبر معروف، فجرت الشائعة فيهم بالتصديق. ولم تلبث أن جرت فيهم بعد حين شائعة أخرى بالتكذيب. وأسماها التاريخ (ملعوب القمر

وكلن لهذا الملعوب معان كثيرة، وكان له عبر كثيرة، وكانت له مغاز كثيرة، أقلها أن الناس أسرع ما يكونون إلى تصديق الخيال الكاذب الملون منهم إلى الإيمان بالحقيقة العاطلة القاسية.

أما الحقيقة، فليست أدرى أهي عاطلة أم قاسية، فهي أن القمر بلقع أجرد، لا ماء فيه ولا نبات ولا حياة.

يتبع

أحمد زكي