مجلة الرسالة/العدد 43/بديع الزمان الهمذاني
مجلة الرسالة/العدد 43/بديع الزمان الهمذاني
4 - بديع الزمان الهمذاني
للدكتور عبد الوهاب عزام
عاش أبو الفضل أحمد بن الحسين الهمذاني أربعين عاماً أمضى شطرها نائياً عن بلده وعشيرته في طلب المجد والغنى، فبلغ ما أراد. نبه ذكره واتصل بمعظم الأمراء والوزراء في الشرق: شمس المعالي قابوس بن وشمكير، وخلف بن أحمد، وبني قريفون، وبني ميكال والسلطان محمود، والصاحب بن عباد، والفضل بن أحمد، وأبي نصر من وزراء الدولة الغزنوية. وعرف كثيراً من رؤساء نيسابور، وطوس، وسرخس، ونسا، وبلخ، وهراة. وصار مطمح أصحاب الحاجات يتوسلون به إلى أولى السلطان والجاه، يتبين ذلك في كثير من رسائله. وقد قال في رسالة الشيخ أبي النصر في أمر بعض الفقهاء: (وهؤلاء الصدور، يرون الشمس من قبل أن تدور.) يعني أن الناس يرونه قادراً على تيسير حاجاتهم. وكان له عناية بالأمور العامة يبذل فيها من عقله وجاهه. كتب إلى الوزير الفضل بن أحمد مع وفد من هراة ذهبوا إليه يلتمسون تخفيف الخراج عن أهل مدينتهم، وكتب إلى رئيس هراة في أموال رأى جبايتها حراما، وكتب إلى وزير السلطان محمود في قتل رجل أسمه أبو عثمان: (والله لئن سكن السلطان العظيم وتغافل، وتسامح الشيخ الجليل وتساهل، أن الله بالانتصاف لملى، وأن الله على الانتقام لقوي، والمحنة أدام الله عز الشيخ الجليل في ذهاب ذلك العالم المسلم، دون المحنة في بقاء هذا الظالم المظلم، ولئن ساغ لهذا الفاسق ما فعل ليرخص نجم المسلم، وليراق دم العالم، وليصيرن كل سكين منشور ولاية، ثم ليتسعن الخرق على الراقع، وليس دم المسلم بيسير عند ربه، ولزوال الدنيا على الله أهون من صبه، أليس الله تعالى يقول: من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا: وأنا أعيذ بالله هذه الدولة من أن توصم بتعطيل الحدود، أو توسم بإهدار الدماء، وعسى الله أن يوفق الشيخ الجليل لتدارك هذا الأمر، أن ذلك على الله يسير.
ويقول في الرسالة نفسها: (ورد على خادم الشيخ الجليل كتاب من أقصى خراسان والعراق بحديث تسيار فلان وصاحبه فلان وذكروا معرفتهما بأحوال الثغور، وممارستهما لما يعرض بها من الخطوب، وأن أعين المرابطين والغزاة طامحة إلى نصره، من السلطان العظيم أعز الله نصره وقد بعثوا بهما وفدا وقدرا أنهما يجدانني بالحضرة فأكون لهما لسانا، وتنجزا إلى كتابا ليعلماني، ولو أمكنني النهوض لاحتسبته لهما وإذا لم ينهض قدمي، فقد أستثاب قلمي، والشيخ الجليل يرى عالي رأيه في تفريبهما لنصرة الله والاصغاء المثوبة إن شاء الله تعالى.
وفي هذا ما يبين عن مكانته بين الناس واهتمامه هو بأمورهم.
ونجده أحيانا يكتب للإصلاح بين فريقين متحاربين. وقد مكنته هذه الهمة العظيمة من دفع المفسدين عن نيسابور، وكان إذ ذاك في مستهل صيته ومبدأ نباهته، يقول في رسالته إلى أبيه بعد إن وصف ما كان بخراسان من هرج ومرج: لا ولا شيء إلا السلاح والصياح وكل شيء إلا السكون والصلاح، وأنا إذ ذاك حاضر نيسابور وداري بين القبة الرافضة وكل يوم تهديد، ورعب جديد، فقلت:
ولكن أخو الحزم الذي ليس نازلا ... به الخطب إلا وهو للقصد مبصر
فلقيت صدور نيسابور وقلت حتام هذا البلاء والعلاج قريب ليأخذ، وهلا نفر من طائفة الغزاة؛ إلى هؤلاء الغواة، وآزارهم أهل الصلاح وأنا من دعا إلى هذا الأمر وأجاب إليه وبذل فيه وأنفق عليه، ففعلوا وما كان سواد ليلة حتى علت كلمة الحق وباد أهل الفساد، إن جرح الجور، قريب الغور، وإن نار الحلفاء سريعة الانطفاء، وأن كيد الشيطان ضعيف، ثم أسمع الآن بهمذان من خراب واضطراب، وبأموالها من ذهاب وانتهاب، وبأسواقها من فساد وكساد، وبأسعارها من غلاء، وبأهلها من جلاء، أفليس فيهم رجل رشيد يجمع كلمة أهل الصلاح؟ عجبا من تعاون المفسدين على أخذ ما ليس لهم، وتخاذل المسلمين عن منع مالهم.
أخلاق الهمذاني
أظهر أخلاق أبي الفضل بديع الزمان، الأنفة والعظمة، ومن أجل ذلك يكثر في رسائله عتاب الأمراء والرؤساء على التفريط في جنبه أو إنزاله دون منزلته. كتب إلى أبي جعفر بن ميكال حين آنس منه التقصير في الحفاوة به: (وأعرفه إني ما أطوي مسافة مزار إلا متجشما، ولا أطأ عتبة دار إلا متبرما، ولست كمن يبسط يده مستجديا، أو ينقل قدمه مستغذيا فإن كان الأمير الرئيس أطال الله بقاءه يسرح طرفه في طامح أو طامع، فليعد للفراسة نظرا.
فما الفقر من أرض العشيرة ساقنا ... إليك ولكنا بقرباك تبجح
وكتب إلى الأمير خلف بن أحمد وهو الذي اصطفاه بأحسن مدائحه: (كتابي أطال الله بقاءك وقد كنت نذرت إلا أخاطب حضرته ثم روى لي القاضي حديثاً طرق إلى نقض ما نذرت طريقا وسمعت منشداً ينشد:
لحي الله صعلوكاً مناه وهمه ... من العيش أن يلقى لبوسا ومطمعا
فقلت أنا معنى هذا البيت، لأني قاعد في البيت، آكل طيب الطعام وألبس لين الثياب، ويفاض على نزل، ولا يفوض إلى شغل، ويملأ لي وطب، ولا يدفع بي خطب. وهذا والله عيش العجائز والزمن العاجز. . . . ولعل جرما تصور، أو رأيا تغير، أو اعتقادا أخلف، أو ظنا اختلف. فأن لم يكن شيء مما سردت وأوردت فالغلط في صدر القصة كان، وفي عجزها بان. وإن كان كذا فبالله ما أرضى، ولو صارت السماء أرضا، ولا أريد، ولو انقطع الوريد. وأني لأستحي من الله أن أرى لي المثل الأدنى، وفي القوس منزع أبا، وإن لم أكن بالعراق أمير البصرة، وببخارى زعيم الحضرة، فما أزعجني عن همذان فقر إلى جوع وعرى، ولا ساقني إلى سجستان طمع في شبع ورى، وإنما نحوم حول المراد،
ولو أن ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليل من المال.
لا يكثر الأمير على من خلعه وصلاته. فوالله لو علمت أن قصارى أمدي سجستان أليها، وضياعها أقتنيها، وغلمانها أشتريها، وأموالها اتسع فيها، ولا مطمع في زيادة بعد لآثرت الزهد على الطلب.)
وكتب إلى عامل البريد: ولكنك طفقت لا تهاب سلطان العلم، فأعلمناك أن سلطان العلم لا يهابك. ولو اتصلت بالسماء أسبابك) وكتب إلى الوزير أبي نصر بن بريدة وقد قدم رجلا عليه: قدم اليوم على فلانا ولست أنكر سنه وفضله، ولا أجحد بيته وأصله، ولكن لم تجر العادة بتقدمه لا في الأيام الخالية، ولا في هذه الأيام العالية، وشديد على الإنسان ما لم يعود) إلى أن يقول: (أنا لا ألبس الشيخ الجليل على هذه الخصلة، ولا أحتمله على هذه الفعلة.
فأما أن تكون أخي بحق ... فأعرف منك غثي من سميني
وإلا فاطرحني واتخذني ... عدوا أتقيك وتتقيني
لا أعدم كريما، ولا يعدم نديما. ولي مع هذا الماء حالان لا واسطة بينهما، إن صفوا بأشربه، أو كدرا فلا أقربه، والسلام.
وكان البديع ذا همة عالية، ومروءة عظيمة، يعطف على الناس ويرثى لهم، ويصغي لأصحاب الحاجات، ويشفع فيهم. وقد مر بعض ذلك. ومما يدل على نبالة نفسه وسمو همته ما كتبه حين هنأه بعض الناس بمرض الخوارزمي، وما يظهر في رثائه الخوارزمي من حزن صادق.
ويؤخذ من رسائله أنه كان جوادا: كتب إليه صديق يؤذنه بقدومه إليه ويسأله أن يستأجر له داراً فأبى إلا أن ينزله معه في داره، وكتب إلى صديق له مات أبوه فحذره من أن يقتر على نفسه ويحرم نفسه المتعة بماله كما حذره أن ينفقه في اللهو واللعب. ومن رسالته إلى الأمير أبي الحارث محمد مولى أمير المؤمنين: (وأما الدرهم والدينار فدفعهما ونزعهما من يدي سواء. لا أشكر واهبهما ولا أشكو سالبهما. إن لي في القناعة وقتا وفي الصناعة بختا)
يشهد لهذا ما أرسله إلى أبيه من المال وما أرسله إلى أقاربه وأصدقائه من الهدايا.
وبديع الزمان على حسن معاشرته، وحلوة حديثه، وما ينزع إليه من الفكاهة في كتابه، كان في طبعه الانقباض، والنفرة من الناس والتشاؤم، يظهر هذا حين يصف الزمان أو يرثى الموتى أو يهجو رجال عصره من القضاة والكتاب، وأصحاب الأعمال. وحسبك من رسالته التي أجاب بها شيخه أبن فارس حين كتب إليه يذم الزمان: (نعم أطال الله بقاء الشيخ الأمام، أنه الحما المسنون، وإن ظنت الظنون. وأن الناس ينسبون لآدم. وإن كان العهد قد تقادم، وارتبكت الأضداد، واختلط الميلاد، والشيخ الأمام يقول: فسد الزمان أفلا يقول متى كان صالحاً؟ إلى أن يقول: وما فسد الناس، وإنما أطرد القياس، ولا أظلمت الأيام، وإنما امتد الظلام. وهل يفسد الشيء إلا عن صلاح، ويمسي المرء إلا عن صباح؟)
ويقول في الديوان:
كذاك الناس خداع ... إلى جانب خداع
يعيثون مع الذئب ... ويبكون مع الراعي
ولعل من هذا المزاج المنقبض كانت شدته في الهجاء، وإفحاشه في الذم أحياناً، وميله إلى العرلة، ولذلك كان أحسن شعره ونثره ما كتب في الرثاء أو التعزية أو الوعظ.
ويؤخذ من رسائله أنه كان عزوفاً عن اللهو، يعاف الخمر، ويتجنب المحرمات. وفي رسالته التي كتبها لأبي الطيب سهل بن محمد يقول عن نفسه والخوارزمي: (ونحن في كل حال، على طرفي محال، هو خوارزمي ولست من خوارزم. وهو شاعر ولعن الله النظم؛ وخمري ولا أشرب الخمر، ونائي ولا أسمع الزمر، وعودي ولا أسمع النقر، ونردي ولا ألعب القمر.
ويؤخذ من رسائله كذلك أنه كان متألها يلتزم السنن جهده.
وقد بلغ من الورع أنه كتب وصية يأمر فيها بأتباع السنة في تجهيزه ودفنه، وينهى عن البكاء عليه، وهي مثبتة مع رسائله.
ونجد في رسائله مع هذا أنه يجيز الكذب أن كان في الكذب خير يقول. في رسالة إلى بعض وزراء الغزنوية. (زعم أدام الله تمكينه أني أخلف المواعيد، وأرد العذر البعيد. ومتى ادعيت أن قولي يكتب في المصاحف أو يتلى في المحاريب؟ ومتى تبرأت من الأحاديث. والله أني لأكذب الكذبة أظنها لحسنها صدقا)
وفي رسالة أخرى: (وقد زورت على الشيخ تزويرا آمل أن ينفعه الله به في الدارين، وغدا أعرفه الحديث)
يتبع
عبد الوهاب عزام