مجلة الرسالة/العدد 432/كيف يكتب التاريخ

مجلة الرسالة/العدد 432/كيف يكتب التاريخ

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 10 - 1941



للدكتور حسن عثمان

مدرس التاريخ الحديث بكلية الآداب

- 5 -

نقد الأصول

أهمية النقد، التزييف والانتحال واثبات صحة الأصول

قد عرفنا أن التاريخ يدرس بواسطة الأصول كالوثائق وآثار ومخلفات الإنسان من الزمن الماضي. وحوادث التاريخ يمكن أن تعرف عن طريقين: عن طريق مباشر بملاحظة ومشاهدة الحوادث أثناء وقوعها، أو عن طريق غير مباشر بدراسة الآثار المتنوعة التي خلفتها هذه الحوادث. فالمعلومات عن حادث زلزال مثلاً يمكن معرفتها بطريق مباشر من بعض شاهدي العيان، أو بطريق غير مباشر بملاحظة آثار التدمير التي خلفتها الهزة الأرضية، أو بقراء وصف كتابي سجله أحد الناس عنها سواء بطريق المشاهدة أو بطريق الرواية. وهذا ينطبق تماماً على حوادث التاريخ. والحوادث والأوصاف التي يسجلها الرحالة المعاصر مثلاً تمتاز بإعطائها دقائق وتفاصيل، وبتصويرها روح العصر، وذلك ما لا يتاح للكاتب المتأخر. ولكنا نلاحظ أن وجود الكاتب في العصر الذي يسجل حوادثه ليس معناه أنه يمكنه الإحاطة بجميع نواحيه وإجادة الكتابة عنه. وذلك لعدة عوامل، لاحتمال تحيزه للتيارات المتنوعة التي تسيطر على الفكر الإنساني، أو لتأثره في كتابته باتباع المصلحة لوصول إلى أغراض شخصية أو لتجنب الاضطهاد في بعض الأحيان؛ وكذلك لعدم إمكان حصوله على جميع الأصول التاريخية، بالرغم من عيشه في العصر الذي يدرسه، والتي تظل خافية وممنوعة من التداول سنوات عديدة سواء لدوافع سياسية، أو للرغبة في عدم إذاعة الأسرار الخاصة في حياة بعض الناس. فالأفضل دائماً أن يكون المؤرخ بعيداً عن العصر الذي يكتب عنه لكي تظهر الأصول والأسرار والخفايا بعد أن تتبلور حوادث التاريخ خلال الزمن الغابر.

فحوادث التاريخ تعرف بصفة أساسية عن طريق غير مباشر بدراسة آثار الإنسان المختلفة التي تحفظ من الضياع. والمؤرخ في أغلب الأحوال لا يرى الحوادث نفسها، وإنما يرى ويدرس آثارها. فآثار ومخلفات الإنسان المتنوعة هي نقطة البدء، والحقيقة التاريخية هي الهدف الذي يتوخى المؤرخ الوصول إليه. وبين نقطة البدء والهدف يوجد طريق معقد متشابك تعتوره الأخطاء والمصاعب والعقبات العديدة، والتي قد تبعد الباحث عن الهدف وعن الحقيقة التاريخية. والمؤرخ لا يجد غير هذا الطريق للوصول إلى غرضه. ودراسة وتحليل الأصول التاريخية في هذه المرحلة من أهم أدوار طريقة البحث، وهي عبارة عن ميدان نقد الأصول التاريخية.

وكما عرفنا نجد أن آثار الإنسان قد تكون أبنية وتماثيل ومصنوعات مادية ملموسة، أو قد تكون آثاراً كتابية سجلهاالإنسان عن الحوادث. فالنوع الأول أسهل في الدراسة لأنه توجد علاقة واضحة بين الآثار الماثلة أمام المؤرخ، والتي يلمسها بحواسه، وبين أسباب وجودها وارتباط ذلك بحوادث التاريخ. ولكن الكتابات التي يدونها الإنسان عن حوادث تاريخية معينة هي أثر عقلي سيكولوجي وليست الحادث التاريخي في ذاته؛ فهي لا تزيد عن أنها رمز وتعبير عن أثر تلك الحوادث في ذهن الإنسان. فالآثار الكتابية تنحصر قيمتها في أنها عمليات سيكولوجية معقدة وصعبة التفسير، لأن الإنسان نفسه على وجه العموم معقد مركب متضارب وصعب الفهم، فلا ريب في أن تكون حوادثه والتعبير عنها على ذلك الغرار. وللوصول من الأصل التاريخي المكتوب إلى الحوادث ينبغي تعقب سلسلة العوامل التي أدت إلى كتابته؛ فلا بد من أن يحي المؤرخ في خياله سلسلة الحوادث التي قام بها كاتب الأصل التاريخي منذ أن شاهد وجمع معلوماته عن تلك الوقائع المعينة حتى دونها في الأصل المكتوب والماثل أمام المؤرخ، لكي يصل إلى الحوادث الأصلية. ويلاحظ المؤرخ قبل البدء في نقد الأصل التاريخي وخاصة إذا كان مخطوطاً هل هو نفس الحالة التي وجد عليها من قبل؟ ألم يبل ويتآكل وتضيع بعض أجزائه؟ لكي يرممه ويجعله أقوى على البقاء والحفظ.

وتوجد عدة أدوار ومراحل للنقد. فالنقد الخارجي أو الظاهري يتعلق بعدة أمور مثل إثبات صحة الأصل والخطأ والمؤلف؛ والنقد الداخلي أو الباطني ويبحث الحالات العقلية التي مر خلالها كاتب الأصل التاريخي، فيحاول أن يعرف ما الذي قصده الكاتب؟ وهل كان يعتقد في صحة ما سجله؟ وهل توفرت المبررات التي جعلته يعتقد صحة ما كتبه؟. . . وأساس النقد والحذر والشك في معلومات الأصل التاريخي، ثم دراسته وفهمه واستخلاص الحقائق من ثناياه. والناس يتكلمون عن ضرورة النقد ولكن من الناحية النظرية فقط؛ وهم في الغالب لا يميلون إلى تطبيقه عملياً. والإنسان في أحوال كثيرة ينقد الغير ولكن لا يجب أن يذكره الغير إلا بالمديح والثناء! والإنسان في أحوال كثير أيضاً أميل إلى الكسل والإهمال. والإنسان في حياته اليومية قد يكون أميل إلى تصديق ما يصادف هوى في نفسه، وأبعد إلى تكذيب ما يصطدم بعواطفه ورغباته.

والإنسان في حياته اليومية أيضاً لا يستطيع أن يقبل أقوال جميع الناس بنفس الثقة وبنفس التقدير، لأن الناس جميعاً لهم قيم وأغراض وأهواء مختلفة. وأصحاب النفوس الزائفة يكذبون وينافقون ويغررون للوصول إلى الأغراض والمطامع. أو ليس ذلك أدعى إلى الخداع والعبد عن الحقيقة السافرة؟ فإذا كان هذا هو حال فيما يتعلق بالحاضر فما بالنا بحوادث الأمس، والأمس البعيد؟ ولقد استخدم المؤرخون في الزمن الماضي الأصول التاريخية بدون نقد أو حذر فوضعوا تعميمات خاطئة. وإنه لأسهل على الإنسان أن يصدق بغير مناقشة وأن يوافق بدون نقد وأن يجمع الوثائق والأصول التاريخية بغير تقدير أوزن دقيق ولكن لا يستطاع الوصول إلى الحقيقة التاريخية بدون نقد الأصول كل على حدة وبدون الموازنة بينها وتحديد العلاقة بين المعلومات الواردة في كل منها، ويستغرق ذلك زمناً طويلاً ولكن البحث العلمي التاريخي لا يمكن أن يكتب بدون ذلك. وليس هناك ما يضطر الباحث لأن يعمل فوق طاقته، بل عليه أن يقصر عمله على النقطة التاريخية المحددة التي يستطيع أن يأتي في بحثها بعمل أصلي جديد مبتكر بالنسبة للعلم كله. والباحث في التاريخ كالباحث في أي فرع من أنواع المعرفة، إذا عرف بإخلاص قيمة البحث العلمي الصحيح الذي يستوفي شروط الزمان والمكان لن يرضى بغيره بديلاً مهما كانت الظروف.

وأول مرحلة من مراحل نقد الأصول التاريخية هي إثبات صحة أو بطلان تلك الأصول. فإذا كان المصدر أو الأصل كله أو جزء منه مزيفاً أو منتحلاً فإنه لا يمكن الاعتماد عليه. وصحيح أن تزييف الأصول والوثائق اليوم أصعب منه في الزمن الماضي، ولكن دوافع التزييف والدس لا تزال قائمة كالمطامع والأهواء والكسب وحب الشهرة. والانتحال والتزييف يوجدان في كل أنواع الأصول والمصادر. فالآثار المادية تزيف من أجل الكسب في أحوال كثيرة. ومن الأمثلة على ذلك ما حدث من وجود مجموعة من الأواني والأدوات الفخارية في أورشليم في 1872؛ وقد دل على وجودها سليم العربي الذي كان يعمل في خدمة بعض المنقبين عن الآثار في تلك الأنحاء، واشترى بعضها متحف برلين، ولكن البحث العلمي أثبت أن هذه الآثار مزيفة. وفي الغالب كان سليم العربي نفسه هو صانعها بقصد الكسب. ومن الأمثلة على الكتابات المزيفة مجموعة من الخطابات والتواريخ والأشعار طبعت في إيطاليا بين سنتي 1863 و 1865 على اعتبار أنها قد كتبت عن جزيرة سردينيا في الفترة بين القرن الثامن والقرن الخامس عشر للميلاد.

ولقد أثار ظهور هذه المجموعة دهشة كبيرة في الأوساط العلمية، لأنه كان مجهولاً وجود حضارة في سردينيا من هذا النوع في ذلك العهد. وبعد نشر هذا الكتاب، وضعت الأصول الخطية في كتبة كالياري في سردينيا، وحدثت مناقشات طويلة عن هذه الآثار، فعرضت الأصول الخطية على أكاديمية العلوم في برلين لدرسها، ففحص بعض العلماء الخطوط التي كتبت بها هذه الأصول، وبحث البعض الآخر اللغة والأدب، كما ناقش آخرون المعلومات التاريخية، ووجدوا أن كل ما جاء بها لا ينطبق ولا يشابه ما عرف عن خطوط وكتابات وأدب وتاريخ سردينيا في تلك القرون، وقرر العلماء أن هذه الآثار الكتابية مزيفة.

ومن هذا النوع أيضاً نجد ملحق مذكرات (بايي) عمدة باريس وأول رئيس للجمعية الوطنية في حوادث الثورة الفرنسية وأسمه: ونشر لأول مرة في (1804) على أنه من وضع أحد أعضاء الجمعية التأسيسية في باريس بدون تحديد الإسم؛ وعندما أعيد طبع مذكرات (بايي) في (1822) اعتبر هذا الملحق من تأليف (بايي) نفسه. إلا أن الدكتور فلنج أستاذ التاريخ الأوربي بجامعة نبراسكا في أمريكا استطاع أن يكشف مع بعض تلاميذه في الجامعة عن حقيقة هذا الملحق؛ ووجدوا بالمقارنة الوافية أن فقراته شديدة القرب في اللغة والأسلوب والمعلومات مما ورد في بعض الجرائد التي كانت تصدر في باريس في (1789)، مع تغيير ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم في بعض الأحيان، لكي يتفق ذلك مع مذكرات (بايي) الأصلية. ولو أن جامع هذا الجزء قد أشار إلى المواضع التي استقى منها مادته، لكان ذلك عملاً نافعاً لمن لا يستطيع الوصول إلى إعداد تلك الصحف النادرة. وهذا الجزء يعتبر مثالاً لكيفية الانتحال، وتحذيراً للباحثين بعدم قبول أي مصدر بثقة عمياء.

والملكة (ماري أنطوانيت) من الشخصيات التاريخية التي دست عليها رسائل لم تكتبها، وهذا مما يجعل عمل المؤرخ صعباً. ولقد نشرت مجموعات من رسائلها تحتوي على الصحيح والمزيف منها؛ ولجأ المزيفون إلى الاقتباس من رسائلها الصحيحة وتقاليدها من حيث الخط والأسلوب. ولقد نشرت مجموعة من هذه الرسائل في باريس في (1858)، وتحتوي على رسالة لم تنشر من قبل بتاريخ 20 يونيو 1789، تبين أن ماري أنطوانيت اعتقدت أن أسلم سياسة ينبغي أن يتبعها لويس السادس عشر، هي الانضمام إلى الشعب. فهل هذه الرسالة صحيحة أم مزيفة؟ ولم يمكن العثور على أصلها المخطوط، وهذا مما يجعل البحث صعباً. وبالدراسة المقارنة نجد أن ماري أنطوانيت كانت ميولها ضد الشعب، وهذا يميل بالباحث إلى الشك في صحة هذه الرسالة. إلا أنه من الجائز أن ماري أنطوانيت كان لها هذا الرأي المخالف لما عرف عنها، إنقاذاً للموقف؛ وهكذا لا يصل المؤرخ أحياناً إلى رأي قاطع في صحة بعض الأصول التاريخية.

وأخيراً نعرض لمثال درسه الدكتور أسد رستم. فإنه عندما ثارت مشكلة البراق بين المسلمين واليهود، وقدمت اللجنة الدولية لدرسها، ظهرت وثيقة في مصلحة المسلمين. ولكن اليهود عارضوا في صحة هذه الوثيقة، فعرضت على الدكتور رستم لفحصها من الوجهة الفنية التاريخية، فوجدها أنها عبارة عن رسالة صادرة من محمد شريف باشا حكمدار بر الشام في عهد الحكومة المصرية إلى السيد أحمد أغا دزدار متسلم القدس بتاريخ 24 ربيع أول 1256هـ (27 أيار 1840) يخبره فيها بصدور إرادة شريفة خديوية من محمد على باشا بمنع اليهود من تبليط البراق مع إعطائهم حق الزيارة (على الوجه القديم). وفحص الدكتور رستم هذه الوثيقة بوسائل النقد الظاهري والباطني، فوجد أن الوثيقة مكتوبة على ورق صكوكي قديم تركيبه الكيماوي وأليافه من نوع أوراق الحكومة المصرية في مصر والشام في ذلك العهد؛ والمداد الذي دونت به هو مداد استانبولي. وأثبت التحليل الكيماوي والفحص بالمجهر أنه مزيج من الكاربون التجاري والصمغ والماء؛ وأثبت المجهر أيضاً من أثر القلم على الورق أنها كتبت بقلم قصبي مما كان شائع الاستعمال في ذلك العصر.

وكان الخط هو السائد في دواوين مصر والشام. وفاتحة الرسالة: (افتخار الاماجد الكرام ذوي الاحترام. . .) وخاتمتها: (لكي بوصوله تبادروا الإجراء العمل بمقتضاها. . .) تتفق مع أسلوب عهد محمد علي. ثم عدم مراعاة قواعد اللغة العربية ووجود ألفاظ أعجمية الشيء الذي كان منتشراً في مصر والشام في النصف الأول من القرن التاسع عشر. ثم تذرع الدكتور رستم بأدلة أخرى، فتأكد من محفوظات عابدين أن شريف باشا كان حاكما عاماً على الشام من أوائل 1248هـ إلى أواخر 1256هـ. وعرف من سجلات المحكمة الشرعية بالقدس أن أحمد أغا دزدار كان قائماً بأعمال المتسلمية في القدس في ربيع الأول سنة 1256هـ. وتثبت أيضاً من أن محمد باشا كان يسيطر على جميع حكام مقاطعات الشام ومن بينهم متسلم القدس أحمد أغا دزدار، ومن أنه كان يتلقى الأوامر من محمد علي باشا وإبراهيم باشا لكي يبلغها للجهات المختصة. ووجد الدكتور رستم أيضاً أن محتويات هذه الوثيقة تتفق مع المعلومات المعروفة عن علاقة اليهود بالبراق وموقف المسلمين منهم من ناحية إباحة اليهود زيارته وتساهل حكومة محمد علي الذي جعلهم يتطلعون للحصول على الإذن بتبليط البراق. وانتهى بحث الدكتور أسد رستم بإثبات صحة هذه الوثيقة من الوجهة الفنية التاريخية سواء من ناحية الورق والحبر والقلم وعادات المراسلة واللغة والأسلوب، أو من ناحية شخص المرسل والمرسل إليه، أو من ناحية مطابقة واتفاق معلوماتها مع الظروف التاريخية.

وهذه أمثلة عملية تبين أهمية وطريقة نقد الأصول التاريخية من ناحية إثبات صحتها وأصالتها وخلوها من الدس والتزوير والانتحال؛ وبغير ذلك لا يستطيع المؤرخ أن يعمل لأنه إذا بنى أبحاثه على الأصول المزودة خرج بنتائج بعيدة عن الحقيقة ومخالفة للواقع التاريخي. وسوف نبحث في المقالات التالية نقد الأصول من نواح أخرى

(يتلى)

حسن عثمان