مجلة الرسالة/العدد 432/من أحاديث القهوة

مجلة الرسالة/العدد 432/من أحاديث القهوة

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 10 - 1941


- 3 -

حبسني عن ندامى (الكافورة) عوادٍ من الشغل والمرض فلم أعد إلى الأنس بهم إلا بعد حين. وهذا الحين على قصره كان كافياً أن يجعل الحال ويبدل الجو غير الجو

هذه طلائع الخريف الباكر قد هيمنت على الأفق: فالرياح السوافي تنوح على عذبات الشجر الوريق فيرتعد فرقاً من نذير الجفاف والموت، والغنائم الرقاق تتجمع غبراً كخَمل النعام، أو تتفرق بيضاً كمندوف القطن، فيتعاقب من تجمعها وتفرقها الظلام والنور والظل والحرور على صفحة النهر ووجه الأرض

وطلائع الخريف تبكر في الريف فتحدث في نظام الطبيعة قليلاً من الفوضى. ذلك أن الفيضان يشارف غايته المقدورة في أوائل سبتمبر، فيترع النيل كل القنوات، ويغمر أكثر الحقول، ويكون من جراء هذا الري الطافح أن يفتر الحر، ويطرب الهواء، وينقد بخار الماء سحباً في السماء، وأندية على الأرض، فلا تجد أواخر الصيف مناصاً من الرحيل. وفي رحيل الصيف على هذه الحال اضطراب في حياة الناس والزرع. فالقطن يعوقه احتجاب الشمس عن اكتمال النضج فيفسد لوزه، والإنسان يُعجله تغير الجو عن اتخاذ الحيطة فيميل اعتداله.

سكنت الريح بعد هبة حمقاء هصرت غصون الشجر، وكشفت أغطية المناضد، وقلبت وجوه الحُدَّاث والجُلاَّس فقطعوا سلاسل الحديث، واسترجعوا رسل النظر. وكان إخواننا المصطفون قد نابهم من ثورة الريح ما ناب الناس؛ فانزوى كل امرئ عن أخيه وانطوى على نفسه. فلما سكت عن الريح الغضب عادوا يستقبلون أنفاس الموج، ويستروحون أنسام الزروع، ويستمعون إلى الأستاذ نجيب، وكان يتحدث عن مشكلات التموين ومخزيات الإدارة. والأستاذ نجيب مدرس بكلية الآداب، قضى أسابيع من عطلته عند أهله في سمنود. وكان له بجانب ذهنه معدة كمعدة الأحياء لا تفتأ تطلب القوت. والقوت اليوم بفضل الطاغية (هتلر) لم يعد كما كان مبذول المنال يأتيك على اغتماض وأنت وادع؛ إنما أصبح عزيز الدرك لا تناله إلا ببطاقة أو صداقة أو شفاعة. فكان يلقى كتابه من يده، ثم يخرج ومعه بطاقة التوزيع يسأل عن القمح فلا يجاب، ويبحث عن البترول فلا يجد.

نظام البطاقات محكم دقيق يضمن لكل بطاقة رصيدها، ولكل مستهلك نصيبه؛ فمن أين جاء الحرمان والخير موجود، وكيف سيطرت الفوضى والنظام قائم؟ كان الأمين الذي جعلته الحكومة على خزائن التموين قد قضى أن يكون مع بطاقة التوزيع تصريح منه لا يظفر به إلا ذو المال أو الجمال أو القربى؛ وصديقنا الأستاذ لم يؤته الحظ شفاعة من هذه الشفاعات المجابة، فبقى من جمهرة الفقراء يحتشدون كل يوم على باب الأمين يسألون فيه غير مجيب، ويسترحمون منه غير راحم. قال الأستاذ وقد نبض من الغيظ نابضه، فارتجفت شفتاه وتهدج صوته:

كان مئات من ذوي الضعف والمسكنة يتركون بيوتهم صفراً من القوت والوقود ويظلون النهار كله على باب هذا (الحاكم) قياماً وقعوداً وبأيديهم القفف والأكياس، وفي جيوبهم البطاقات والنقود، يسألونه التصريح مرة بالدعاء ومرة بالبكاء، فلا يجيبهم غير الجنود بعصيهم الملهبة، وكلماتهم الغليظة؛ حتى إذا أمسى المساء انصرف المجدودون بتصاريحهم إلى تاجر بعينه يكتالون بالسعر المقرر، وانقلب المكدودون بأوعيتهم إلى التاجر نفسه يكتالون بالسعر المكرر. ومن عرق البائسين ودموع اليتامى تنتفخ جيوب وتكتظ كروش؛ وبأمثال هذا الموظف وذلك التاجر تدول دول وتسقط عروش!

قلت: وما يدريك يا نجيب، لعل الحال في بلدك هي الحال في كل بلد! لقد فجر التاجر وهودتهم الطامع، فاحتكروا السلع، واختزنوا الأرزاق، وعموا عن طريق الحق، وصمتوا عن نداء الضمير، ولم تزعْهم خشية الله ولا سطوة الحكومة؛ لأن الله يمهل، ولأن الإنسان يهمل. والقانون من غير تنفيذ ورق مطبوع، والتنفيذ من غير خلق ظلم مسلح.

إن في مخازن الأغنياء ومخابئ التجار من الأقوات ما لو عرض للبيع المشروع لأعاد إلى الناس عيشهم الأول؛ ولكن الفقدان والحرمان سيدومان ما دام للطامع يد وليس له قلب، وللحكومة لسان وليس لها عين.

إن الحكومة قد أيقظت وعيها ورأيها لشؤون الوقاية والتموين؛ وفي سبيلها تستطيع أن تبتكر الأسلوب البارع وتسن النظام المحكم، ولكنها لا تستطيع أن تبعث النور في الحس المظلم، ولا الشعور في الفؤاد المصمت.

هذه إنجلترا تمون الجنود من نهر النيل إلى بحر قزوين، ومن أقصى المحيط الغربي إلى أقصى المحيط الشرقي؛ فهل تجد مع ذلك جندياً في البر أو في البحر أو في الجو يزعم أن نصيبه الموفور من الطعام والشراب والفاكهة والخمر والحلوى والعتاد والسلاح والذخيرة لم يدركه في موعده الموقوت على أكمل نظام وأعدل قسمة؟ وهل كان هذا العمل المعجز ممكناً لو لم يكن بازائه خلق يعين على قضاء الحق، وضمير يحث على أداء الواجب؟

قال الأستاذ علي: وهل عطل الأنظمة، وعوق الإصلاح، وأوهن العلائق، وشتت الوحدة، وأشاع البؤس، غير فساد الأخلاق؟ إن ما أصابنا من نكد العيش وذل النفس وحبوط العمل، نتيجة محتومة لما أصابنا من فحش الجور وقبح الأثرة وسخف الذمة (ولو يؤاخذ الله الناسَ بظلمهم ما تركَ عليها من دابة). فقال الأستاذ توحيد: إن التعبير هنا بالدابة من معجزات البلاغة القرآنية؛ فإن الناس إذا زاغوا عن طريق العدل، وخرجوا على منطق العقل، لا يصدق عليهم غير هذا اللفظ.

وعادت الريح الباردة تهب هبوب الخلق الشموس فقطعت الحديث، وقوضت المجلس، وأنذرت القوم أن يهجروا الكافورة حتى يعود الربيع.

المنصورة في 1891941

أحمد حسن الزيات