مجلة الرسالة/العدد 432/من كتاب (البحث عن المستقبل)

مجلة الرسالة/العدد 432/من كتاب (البحث عن المستقبل)

مجلة الرسالة - العدد 432
من كتاب (البحث عن المستقبل)
ملاحظات: بتاريخ: 13 - 10 - 1941



إمبراطورية ابن السعود

للأستاذ روم لاندو

بقلم الأستاذ حسن السلماني

طيف ملك

المفروض أن السفارات الأجنبية والمفوضيات السياسية أنها تنقل البلاد التي تمثلها إلى قلب عاصمة الإنجليز. فمن (بلجريف سكوير) تفوح روائح سيام، ومن (بورتلند بليس) تهب نسائم شيلي. ولكن مما يؤسف له أن أغلب هذه السفارات تستبدل بعادات بلادها عادات الأقطار التي أرسلت إليها، وهذه لعمري نقص كبير في التمثيل. أما في المفوضية العربية بلندن فلا تجد مظاهر الحياة الأوربية متسعاً لها.

لقد تعرفت بالشيخ حافظ وهبة وزير المملكة لعربية السعودية المفوض بأحد المؤتمرات التي عقدت بلندن والتي اشتركنا سوية بها. ومعرفتنا هذه أدت إلى توحيد العلاقات الودية بيننا فزالت الحجب وصرنا صديقين حميمين.

ولم تكن البساطة الظاهرة في مقام الشيخ حافظ ولا النكهة الطيبة في القهوة العربية التي يكثر تقديمها لزائريه مما جعلتني أكثر التردد على المفوضية العربية، وإنما شوقي لزيارة المملكة العربية السعودية هو الذي كان يدعوني إلى ذلك. والحقيقة أن طيف بن السعود ملك البادية المخيم على تلك المفوضية كان يجذبني دائماً إلى قاعة الاستقبال في (إيتون بليس)

وعندما طلبت التأشير على جواز سفري أفهمت أن أمر ذلك بيد جلالة الملك وحده. وليس للوزارة الخارجية أو المفوضيات إلا تقديم طلبات الراغبين بزيارة البلاد له، وهو وحده الذي يجيز لهم الدخول للمملكة، وجلالته يسمح لمن يشاء ويرفض من يشاء. ومن حسن حظي أن الشيخ حافظ وهبة كان على أهبة السفر إلى المملكة العربية السعودية فاغتنمت تلك الفرصة ورجوته أن يقدم طلبي بنفسه لجلالة الملك.

وبعد عشرة أسابيع من مغادرة البلاد الإنجليزية دعيت إلى المفوضية العربية وأخبرت بموافقة سيد الجزيرة العربية على زيارتي لبلاده.

وتتجلى الروح العربية بأجلى مظاهرها في المفوضية العربية بالقاهرة. فبناء المفوضية من الطراز القديم، وغرفة السفير بسيطة خالية من الطنافس الأوربية الغالية، والقائم بشؤون المفوضية يرتدي الملابس العربية البدوية؛ وإن نظراته الحادة النافذة إلى أعماق قلوب زائريه وسمرة محياه واسوداد لحيته توحي لزائريه صورة من صور البادية وساكنيها.

ولا يتحدث السفير لزائريه إلا باللغة العربية، لا لأنه يعجز عن التكلم بلغة أخرى، ولكن لأن العرف العربي يحتم عليه ذلك. ويشعر المتحدث إليه لأول وهلة بأن نفسه تتوق لخيل الصحراء، وتصبو لجمال الرمال، وتشتاق لخيام البادية؛ ولولا ما تقتضيه التقاليد لعاف ما يحيط به من أثاث أوربي لا يلتئم وطبعه، ولاستبدل به الفراش العربي الوثير. وعندما قابلته المرة الأولى تردد في التأشير على جوازي، ولم يفعل ذلك إلا بعد أن أبرق إلى مكة طالباً موافقة جلالة الملك. فلما جاءته الموافقة زاد في إكرامي واعتبرني من ضيوف جلالة سيده. وفي زيارتي الأخيرة للمفوضية أقام لي وليمة عربية فاخرة اختتمها بحديثه الشيق عن الدور المهم الذي لعبه لورنس في الحجاز، ولم نفترق إلا ونحن صديقان حميمان.

جدّة

كانت الباخرة التي أقلتنا من السويس إلى جدة باخرة إيطالية صغيرة لم تر منذ أن أنزلت إلى البحر شيئاً من العناية أو الاهتمام. وكأن الخدم الصوماليين اعتادوا الإهمال حتى فيما يرتدون من ملابس بيضاء. وكانت ابتساماتهم الكثيرة وحسن تصرفهم لا تعوض عن رداءة الطعام. ويبدو لي أن الدعاية الإيطالية أغفلت البواخر الصغيرة المخصصة لنق المسافرين من إيطاليا فجدة فالحبشة. ويعزى سبب ذلك، حسبما أعتقد، إلى أن أغلب راكبي تلك البواخر من الإيطاليين أو المصريين أو العرب.

وكان من بين المسافرين القلائل شاب في قبيل العمر عرفت منه أنه ابن لأحد أغنياء المدينة المنورة قادم من اسطنبول حيث كان يدرس الطب بجامعتها. وكان يرتدي هذا الشاب الملابس الإفرنجية ويتكلم اللغة الإنجليزية والفرنسية، ويكثر من تدوير جرامافونه الصغير. وفي أحد الأيام دعاني إلى سماع جرامافونه في حجرته (قمرته) وما كادت رجلاي تتخطيان عتبة تلك الحجرة حتى شعرت بأن جميع المتناقضات اجتمعت في ذلك الشاب، وأن معالم المدينة الغربية وعالم الطب الحديث لا أثر لهما في تلك الحجرة الصغيرة. فالمقاعد والكراسي، وحتى قاع الحجرة مغطاة بالرزم وبالصناديق وبالعلب، وكأن أحواض الغسيل خصصت لحفظ الموز والبرتقال، والرفوف عملت للطعام ولتعليق اللحم. والويل لمن أراد التنقل في تلك الحجرة الضيقة، فإن قدميه لا بد أن تصطدما بقدر أو بآنية ملقاة على الأرض، أو قد تزلان من أثر قشرة موز أو قطعة من البرتقال أليس هذا من المتناقضات؟ أو ليس بغريب أن تجد شاباً يدرس الطب بجامعة اسطنبول يستطيب طهي الطعام بنفسه وأكله على الطريقة العربية وحده؟

ومن الغريب حقاً أن ذلك الشاب لم يتردد في تقديمه الخمر والسجاير لمعارفه وهو عليم بأن قانون بلاده يحرم ذلك. إن في أفعال هذا الشاب يتجلى كرم المسلمين ممتزجاً بالملاذ التي لا يبيحها الدين الإسلامي. وكنت طوال سفري أسائل نفسي: أكان هذا الشاب مثالاً لشباب بلاده، أم قدر لي أن ألاقي في المملكة الوهابية ما لاقيته في مصر؟

و (جدة) بلد غريب كأنه مجموعة من البيوت الخالية في التناسق قذفها اليم إلى شاطئه المقفر المغطى بالرمال. فمياه البحر أمامها، والتلال الجرداء خلفها، والرمال تغطي الميمنة منها والميسرة. ومما يزيد في غرابة منظرها اختلاف أشكال أبنيتها: فبعضها مرتفع متعدد الطبقات، وبعضها واطئ يقتصر على طابق أو طابقين. وجميع هذه الأبنية مطلية بالجير المطفأ. والمدينة محاطة بسور قديم يضم تلك (الناطحات) البيضاء. أما أزقتها فضيقة، وهذا ما يجعل المنازل تبدو أعلى مما هي عليه من ارتفاع.

وتظهر (جدة) للقادم بأبنيتها الطينية العالية كأنها صورة ممسوخة لمدينة (نيويورك)، لكن ما يكاد يقترب المسافر من الشاطئ، حتى تظهر له الشرفات الخشبية التي يدعوها الناس هناك (بالمشربيات)، ويستطيع تمييز النقوش الجبسية المقتبسة من الفن الفارسي أو الطراز التركي التي تزين أبواب المنازل، والتي لا تعبر عن ذوق أو عن دقة في الصنعة أو مهارة في العمل.

ولا يفصل الصحراء عن المدينة إلا سور قديم كثير الأبواب عديد المسالك. وتحتل الأسواق والمقاهي وميادين بيع الحيوانات محلاً وسطاً بين المنازل. أما المفوضيات الأجنبية، فليست ببعيدة عن الأسواق والمحلات التجارية. ولولا كثرة الذباب وانتشار الغبار وضيق الطرق وقذارتها، لصح أن يقال: إن (جدة) مدينة جميلة. وتبدو المدينة أثناء الليل - وبالأخص في الليالي المقمرة - أكثر روعة وجمالاً مما هي عليه في النهار. وإن المتجول في أزقتها الضيقة، ليحسب نفسه خلال تلك الليالي النيرة في عالم غريب أو في مدينة خالية. . .

الله أكبر. . .

وصلت (جدة) خلال موسم الحج لمكة. وتبعد مكة هذه خمسة وخمسين ميلاً عن جدة مينائها المهم والموضع الذي يضع الحاج ركبه فيه بعد طول السفر، وبعد ما قاسى من صنوف المشاق ما قاسى. وهي المرسى الذي ترسو فيه البواخر المقلة للحجاج من أقصى الأرض ومن أدانيها: من جاوة وسومطرة، من الهند وزنزبار، من السودان ومراكش، من الهند الصينية والصومال.

وقد بلغ عدد الحجاج في ذلك العام نيفاً ومائة ألف ازدحمت بهم الشوارع، واكتظت بهم الأسواق، وضاقت بهم المدينة. وكانوا يمثلون جميع الأجناس البشرية ومختلف ألوان الناس، ففيهم السيدات الجاويات الرشيقات اللاتي يسترن أجسامهن المستدقة بالساري الحريري الجميل، ويتجولن في الشوارع والأسواق جنباً لجنب مع أبناء البادية أصحاب النظرات الشزرة والشعور الكثة المغبرة، والأصوات الخشنة العالية؛ وفيهم الصينيون بعيونهم اللوزية، واليمانيون بجفونهم المثقلة، والنجديون بسيمائهم الناطقة بشدتهم وخشونتهم، والذين سرحوا شعورهم وضمخوها بالطيوب، وكحلوا عيونهم بالكحل، الفاحم، وبينهم من وضع حول عنقه قلادة مرجانية أو عقداً زجاجياً، وبينهم من تدلت من بيد أصابعه مسبحة كهرمانية طويلة، وفيهم من تجلبب بالملابس الكثيفة، ومن ترك جسمه عارياً إلا من قطعة قماش صغيرة تستر ما يجب ستره.

وفي اليوم الذي وصلت فيه (جدة) كان بعض الحجاج في عودته من مكة، وبعضهم يتأهب للسفر لزيارة قبر النبي (ص). ومنذ أن وطئت قدماي أرض الحجاز، أخذت أسائل نفسي عن العوامل التي توحد بين هذه الأقوام المختلفة خلال أيام الحج. ولكنني لم أقض بينهم أيام حتى أدركت أن قدسية البيت بمكة وحرمة القبر بالمدينة أقوى العوامل في التأليف بين قلوب هذا العدد العديد في المسلمين، وفي توجيههم وجهة واحدة على ما هم عليه من تباين في القومية واختلاف في العنصرية. ومع أنهم لا يتخاطبون فيما بينهم بلغة واحدة، ولا يتبعون تقاليد متماثلة، ولا تجمعهم رغبات موحدة، فإن وحدة إيمانهم خلقت بينهم ألفة ومحبة تعجز عن خلقها أي وحدة سياسية أو مبدأ اقتصادي آخر.

وفي جميع زياراتي للحجاز لم أشاهد أو أسمع عن شجار واحد وقع بين أهل تلك البلاد وبين إخوانهم الحجاج، مع أن جل أولئك الناس كانوا من الذين لا يضعون حداً لمشاكلهم ولاختلافاتهم إلا بالسيف والخنجر. ولا يرجع هذا لشدة بأس الحكومة وقوة شكيمتها فحسب، بل إلى تغلغل العقيدة في نفوسهم، واستقرار الإيمان في أعماق قلوبهم.

ولا نعني بهذا أن ليس من خلاف بين الطوائف الإسلامية، ولكن الذي يمضي لزيارة الحجاز أثناء موسم الحج يؤمن معي أن في الدين الإسلامي قوى تؤلف بين معتنقيه أشد وأقوى من تلك التي تفرق بينهم. والذي ينعم النظر ويطيل التأمل في أولئك الحجاج لا بد أن يشعر بأنهم بمجيئهم إلى هذه الأرض المقدسة قد طهرا أنفسهم من أدران النفعية الداعية لكل خلاف والمسببة لكل تفرقة. وكأن القبلة التي يتجهون إليها طهرت نفوسهم وألانت قلوبهم، فصيرتها أكثر تسامحاُ وأقل قساوة مما كانت عليه قبل أن تطأ أقدامهم تربة الحجاز.

ولا أدري، أيحق لنا - نحن أبناء الغرب - أن نستمر في تبجحنا بأن المسيحية تستطيع أن تؤلف بين طوائفنا المتباينة وأقوامنا المتناحرة، فتضع بذلك أسس الإخاء وتشيد أركان المحبة في أوربا المسيحية؟ متى يا ترى نؤمن. وقد كثرت اختلافاتنا فأثرت في نفوسنا الخيلاء والفخار بأن الدين أشد القوى التي تستطيع الوقوف بوجه ما يهدد كياننا الاجتماعي من أخطار؟

يعتقد المسلمون أجمعون أن الحج للبيت أعظم ما يقومون به من عمل في حياتهم. وجلهم يؤمن بأن هذه الفريضة الدينية أكثر أهمية وأوفر أجراً من كل ما يأتيه المسلم من شعائر دينية أو من طقوس مذهبية. فالحج فريضة على كل مسلم ومسلمة، وفيه يمتحن الخالق عباده المؤمنين. ويندر بينهم من لا يعلل نفسه ويمنيها بزيارة الأرض المقدسة، ما دام أول الحج عبادة وآخره عيداً.

والغريب من أمر هؤلاء المسلمين أنهم يتهافتون على الحج على ما فيه من مصاعب ومتاعب وأهوال. وهم شاعرون بأن تلك الجهود والشدائد قد تودي بحياتهم كمال أودت بحياة الألوف من إخوانهم من قبل، فكانت خاتمة حياتهم رقدة هادئة بين طيات التربة المباركة أو بجوار البيت المقدس. ومن حسن حظ المسلمين أنه منذ أن وضع ابن السعود يديه على أرض الحجاز ساد البلاد أمان وعمها رخاء، وأخذ الحجاج يتمتعون باستقرار واطمئنان بعد ما ظلوا سنين طويلة يقاسون، فضلاً عن أهوال السفر ومشاق الطريق، اعتداء البدو من سكان الحجاز ونهبهم لأموالهم وأمتعتهم وطمع الموظفين الحجازيين فيهم.

وما تكاد تطأ قدما الحاج أرض الحجاز ويمتع بصره بمنظر جبالها الجرداء ووديانها القاحلة حتى يشعر بزوال ما كان يقاسيه من عذاب أثناء سفره الشاق. فكأن رؤية شواطئ البلاد المقدسة تذهب التعب عن نفسه، وتزيل المصاعب من سبيله، وتنسيه ما ينتظره من متاعب عند ما يعود إلى وطنه. وكم كان عجبي شديداً عندما شاهدت في صباح يوم وصولي إلى جدة جماعة من الحجاج شاخصين نحو تلك التلال الجرداء التي تخفي وراءها فبلة المسلمين وأمنية كل فرد منهم. وكانت عيونهم تشع بنور الفرح، وأفواههم صامتة حائرة، وقلوبهم خافقة واجفة من وقع ذلك المنظر الذي كان يوحي إليهم السر الإلهي والإيمان الصادق.

والله وحده يعلم ما سيشعرون به عندما يقفون خاشعين نادمين على ما اقترفوا من ذنوب وما آتوه من آثام حيال الكعبة المقدسة بكسوتها الموشاة بالذهب، أو عندما يستلمون بأيديهم المرتعشة الحجر الأسود المبارك، وعندما يضعون شفاههم عليه؛ ذلك الحجر الذي جاء به جبريل من السماء لإبراهيم الخليل، والذي ظل المسلمون يقدسونه طوال القرون الثلاثة عشر الماضية.

إن الأيام التي يقضيها الحاج بمكة والتي لا تزيد على خمسة عشر يوماً تمر كالحلم عليهم، وفي هذه الأيام القلائل ينصرفون إلى عبادة الله متناسين ما في الأرض من متاع زائل، كاظمين ما في قلوبهم من أحقاد، كابتين ما في نفوسهم من شهوات، متغاضين عن جميع الاختلافات العنصرية، والفروق المذهبية، والمطامع الفردية؛ كأنما اجتمعت أرواحهم جميعاً تحت سماء الكعبة التي سطرت على غطائها آيات القرآن وأحاديث الرسول.

وكم من الحجاج يستطيع التعبير عن شعوره أثناء وقفته تلك؟ إن ذلك اليوم هو اليوم الذي تنتصر فيه الروح على الجسد؛ وإن تلك الوقفة في ذلك الحرم المترامي الأطراف لوقفة تقرب المسلم من المسلم، وتجعله يسعر نحو أخيه في الدين بأعظم ما يشعر به نحو ابن أمه.

البصرة - العراق

حسن السلمان