مجلة الرسالة/العدد 433/الصحافة والدولة

مجلة الرسالة/العدد 433/الصحافة والدولة

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 10 - 1941



للأستاذ زين العابدين جمعة

المحامي

(هنري وبكهام اسنيد الذي نترجم له هذا الفصل من كتابه

(الصحافة) صحافي ثبت وكاتب علم. درس دراسة واسعة

وخبر الصحافة خبرة طويلة ناجحة؛ إلى أن كان مراسلا

لصحيفة التيمس في برلين وروما وفينا، وأن انتهى إلى رياسة

تحرير هذه الصحيفة. والرجل مفكر عبقري لا يتهيب أن

يرتجل رأيه ويصارح الناس به. وقد تناول الصحافة الحاضرة

في كتابه من مختلف نواحيها؛ وكان من سياق تحقيقه العلمي

والعملي أن أفاض فيما للصحافة من أثر حاسم فيما ينعم به

الناس من حرية القول وحرية الرأي وحرية العمل، وما صار

يتهددها على يد الحكام المستبدين.)

زين العابدين

عقب أن تولى هتلر زمام الحكم في ألمانيا بأشهر قلائل سألني النصح صحافي ألماني فيما يكابده من أمر ضرورة ملحة. ولقد عرفته رجلاً طيب الخلق نقي الصفحة؛ قضى سنين الطوال وهو يخدم إحدى الصحف اليومية الألمانية المهيبة الجانب لما امتازت به من نباهة الشأن واستقلال الرأي. وكان آنئذ قد تلقى بلاغاً ينبئه أن مركزه، وبالتالي أرزاقه، قد صار معلقاً بما يظهره من استعداده لإبرام ذلك الميثاق الذي (ينظمه) في سلك الاشتراكية الوطنية أو جماعة النازي التي لا يرى رأيها ولا يذهب مذهبه لقد شق عليه الأمر ومرت برأسه خواطر متشعبة: أيبرم الميثاق فيضيع على نفسه ما تنعم به من كرامة الذات واستقلال الرأي، أو يأبى عليهم التوقيع فلا يبقي له شيء يعيش عليه إلا ما يعتز به من احترام النفس واحترام النفس وحده. ثم أخذ يسألني عما يجمل به أن يختاره من مصير

والحق أنه لم يشق علي النصح مثلما شق علي من أمره. فهل كان يسعني أن أقول له: (لا توقع، وسأرى أنه ما من ضير يصيبك أو ينتظرك في هذا السبيل؟). نعم لقد كان مثل هذا القول سهلاً ميسوراً؛ ولكن يا لها عندي من شجاعة رخيصة أن أقول لرجل كن مقداماً جريئاً فأحمله على أن يجازف بمقومات حياته وأسباب عيشه من غير أن أهيئ لغيرها السبيل!! والحق أني كابدت من أمر (قضيته الوجدانية) نصيباً لا يقل عما يكابده فيها من نصيب

ولعله كان بسبب ما يعوزني من شجاعة أدبية أن حاولت إعفاء نفسي من نصحه. وبدلاً من أن أتقدم برأي سألت سائلي أن يخبرني عن حقيقة مشاعره، ثم ناقشت معه جميع الفروض والاحتمالات المرتبطة بالقبول أو المترتبة على الرفض. وإذ علمت من أمره أنه قد عقد النية على ألا يبرم الميثاق وأجمع رأيه على أن يحمل لهم حياته في كفه تاركا للمقادير أن تفعل به ما تشاء، فقد رأيت أن ألبس في تفنيد حججه ثوب الدفاع. وعرضت له القضية من ناحية أخرى هي ما يصيب الشعب الألماني من ضرر إذا ما اجتثت من تربة الصحافة الحرة جميع الدوحات المباركة، وحرمت الصحافة الألمانية من رجالها الأمناء النابهين. فاستحال عليهم في المستقبل القريب أو البعيد ترقب النهزة واغتنام الفرصة لمعاودة الجهاد وإصلاح المعوج وتقويم السبيل. والحق أني ما حاولت أن أحمله على العبث بوجداناته إلا لأرفه عن نفسه عبء ما يشق عليها من مسئولية أدبية لما يتهدده وينتظره إذا لم يلب الدعوة ويبرم الميثاق. وكان أكبر همي أن أنقذه من نفسه فلا أدعه في ثورته النبيلة وغضبته العادلة يقرر لنفسه مصيراً عساه يلومها عليه فيما بعد

لقد عقد النية على التضحية بمادته والاحتفاظ بمثله؛ وكانت له الخيرة بين القبول المغني والرفض المفقر. فآثر الرفض على القبول، وتأبى عليهم في عزة وأنفة إبرام العهد، وكان قدراً مقدوراً أن فقد مركزه وضاعت أرزاقه. ومنذ ذلك الحين أخذ يضرب في الأرض هائماً على وجهه لا يلوي على شيء إلا ما عساه أن يظفر منه بمرتزق جديد، فلا يصيب من ملتمسه إلا ما يتبلغ به

ولقد قدر لي لعهد غير بعيد أن أجتمع به ثانية في قطر أجنبي حيث كان يبحث عن مرتزق ثابت وعيش مأمون. ويا له من شأن لا أقضي من نبله العجب أن أراه وما تبدر لي منه بادرة آنس منها انه ارتاب يوماً في عدالة منهجه أو أنه أصبح في شك من صواب رأيه فاتهم نفسه في صدق اختياره

يا لها من أمنية طيبة أن أراه في مستقبل العمر وقد اعتذر له الدهر عن خطيئته ووافاه الزمن بجزائه العادل؟

إن منهج هذا الصحفي الحر ومنهج غيره من الصحفيين الذين لا يقلون عنه تضحية ولا إقداماً لما يجعل سلوك هؤلاء الصحفيين، من غير جماعة النازي، اللذين استكانوا وأبرموا الميثاق على كره منهم ومنهجاً مهيناً قدراً. ألم يصبحوا مجرد أداة لا وزن لها ولا تقدير لمجهوداتها؟ ألم يمسوا مجرد أبواق للدعاية التي هي من صميم كيان الحكومة النازية الاستبدادية؟ ألم يقتصر أمرهم في التحرير على أن يستخدموا ما توفر لهم من كتابة وما تهيأ لهم من مواهب في تنظيم ما يتلقونه من الدكتور (جيبلز) أو (قلم المخابرات السرية) من موضوعات يؤمرون بكتابتها ويجبرون على إذاعتها؟ ألم يهيئوا لهم طابعاً رسمياً من ثياب عسكرية ليكون ذلك شاهداً على استرقاقهم وآية على عبوديتهم؟ أيظل هؤلاء صحفيين بما تحمله كلمة الصحافة من معنى، أم صاروا وقد جمدت قريحتهم وسقم وجدانهم تبعاً مستضعفين وعبدة مستعبدين؟

إن الجواب على ذلك مدرج في مسائل أخرى أبعد مدى وهدياً إذا كانت الصحافة المقيدة المستعبدة تعتبر صحافة أصلاً بما تحمله كلمة الصحافة من معنى، وإذا كانت الأمم الاستبدادية تفسح للصحافيين في ميادينها مكانة كتلك المكانة التي يعرفها الناس لها في الأمم الحرة

إن (الصحافة) الألمانية أداة حكومية خصت بأن تلعب الدور المنوط بها وفقاً للأسلوب النازي وتبعاً لوجهة النظر النازية في طبيعة الأمور، وأولئك الذين يعنون بحرية الصحافة البريطانية كمظهر من مظاهر الحرية السياسية البريطانية على العموم يجب أن يفهموا ماهية هذه الأداة وعلاقتها بالنظام النازي

فلقد عرف الهر (ولهلم والدركرش) وجهة نظر النازي في الصحافة بأسلوب واضح يدعو إلى الإعجاب في مؤلف ألماني عنوانه: (واجب الصحافة السياسي) قائلاً: (إن جماع ما يسعنا أن نفهمه من واجب الصحافة السياسي هو أن نسلم تسليما مطلقاً وأن نعترف اعترافاً قاطعاً لا يحده وصف ولا يقيده شرط بما (للزعامة) من شأن في الدولة وبما هو لزام عليها من تأييد الزعيم في رواج خططه تأييداً طليقاً من أي قيد أو تحفظ. وإن الصحافة بأوسع ما ينطوي عليه عملها السياسي من دلالة، مباحة لأن تكون من الاستسلام والخضوع بحال يتيسر معها أن تتضافر جهود الصحف الألمانية جميعاً على تدعيم أسلوب التجديد الناضج في الحياة السياسية. وبوسع الصحافة الألمانية بما تؤديه أو تخفق في تأديته أن تؤثر تأثيراً فعالاً ذاهباً إلى أبعد مدى في كيان الحكومة الألمانية. وهنا مبعث الاهتمام في إدراك ماهية العمل السياسي للصحف. ولقد كان من بواعث الغبطة وحسن التوفيق أن اختفت اختفاء تاماً من ميدان حياتنا الاجتماعية تلك الأغراض المتشبعة والمقاصد الملتوية والغايات المتنوعة، كما اختفت أيضاً الصحف التي لم يكن يعنيها إلا أن تخدم المقاصد والأغراض الحزبية من غير أن تلقى بالاً لما انطوى عليه العنصر الألماني (من المزايا الجنسية والقيم المعنوية). ولقد أصبحنا الآن ونحن لا نسمح لأية صحيفة أن تجعل لها سياسة خاصة بها، أو أن تدلي من وجهات النظر والآراء ما من شأنه أن يعرقل سبيل القيادة في الدولة. وقديماً تهيأ للنقد ميدان واسع الأرجاء بعيد المدى، وكان بوسع الناقدين أن يجري في خاطرهم أنهم يخدمون المصلحة العامة؛ إلا أن الرقباء الغيورين قد رأوا بثاقب فكرهم في ذلك الزمن بعينه ما يلازم أمثال تلك الآراء من الزيف والخديعة، وما يجب أن ننتهي إليه من إفساد وضلال. لقد أصبحنا اليوم ونحن نفهم فهماً تاماً أن العهد الجديد بحاجة إلى رأس جديد، وأن الحكومة قد وطدت العزم على أن تحتفظ في يدها بقيادة الدولة، وعلى الصحف أن تدرك مقتضيات هذا الشأن فستعمل بكل الوسائل على تأييد خطط الحكومة

ولقد جهر الهر (ولدكرش) أن يؤثر في نفوس مواطنيه وأن يلبس آراءه ثوباً جذاباً فعالاً فاقتبس لها عبارات متنوعة من كلام الزعيم بحروفها، وهي عبارات تلح في أن الثورة لا يسعها أن تنجح ما لم يتهيأ لها أن تطبع بطابعها الشعب بأسره؛ فإن لزاماً على الدولة النازية أن تنشئ نشأً جديداً. وإن رسالة الصحافة هي أن تطبعهم بالطابع الحقيقي) أو بعبارة هتلر: (إن الصحافة هي الوسيلة إلى تهيئة المجموع لأن يربي نفسه وأن يتثقف على ضوء ما يراه ويختطه الزعيم الذي يقود الدولة) ولقد أدلى بهذه الآراء الدكتور (جيبلز) الذي اقتبس عنه الهر (ولدكرش) مؤيداً نظره ومستصوباً رأيه. فصرح بأن ما يسمح به من رخص للكتاب مقيد بذلك الالتزام الماثل في أن تكون وقفاً على خدمة الدولة

والذي يخلص من أمر هذه الحقائق ومن سائر الحقائق الأخرى الملموسة هو أن جماع ما يتصور للصحافة من حرية، بل وما يظن للفرد نفسه من حرية، قد حذف من منحى السياسة الألمانية؛ فلم تعد الصحافة الألمانية قادرة على أن تكون عنصراً من عناصر التعبير عن (الرأي العام)، إذ فرضوا عليها أن تطبع في رءوس الجمهور ما جرى به قضاء زعيم الدولة أن يكون موضع التفكير العام. وكم يحتاج الأمر في بريطانيا - وفي البلاد الأخرى التي لا زالت الصحافة فيها تنعم من حريتها بمثل ما تنعم به في إنجلترا - من جهود عقلية للإحاطة بكامل ما انطوت عليه تلك الثورة من معنى، ولإدراك أن ما للصحافة المستعبدة (المتماثلة في الدرجة والأسلوب) من قوة، لأكثر مثولاً فيما تكف عن قوله أو لا تجترئ على نشره منه فيما يتسنى لها نشره أو يطيب لها إثباته وإبرامه

ولو أن الأمور المؤكدة قد تصبح موضع ريبة ومبعث شك إذا لم تؤيدها الحقائق المماثلة في طبيعة الأشياء أو ينهض الدليل بحجتها، إلا أن ما صادف الحقائق التي لها أثرها في تهيئة عقول الأفراد وتكوين آرائهم من ضياع أو تشويه، قد صيغ بأسلوب ماكر قوي، من شأنه أن يعطل النقد وأن يحول دون نمو الآراء المعارضة

وبهذه الطريقة امتدت عملية (الأسلوب الواحد) الإجبارية - التي خضعت لها الصحف الألمانية منذ عام 1933 - إلى الشعب بأسره، وكان ذلك من طريق تشويه الصحف للحقائق كما كان ذلك من طريق ما طبعته في رؤوس قرائها في أوامر الزعيم ونواهيه

ولقد صار من مقتضيات التعامل مع ألمانيا - كما هو الحال مع الأمم الأخرى المحكومة حكماً استبدادياً - أن أصبح رجال السياسة والصحافة في الأمم الحرة يواجهون في الشؤون الدولية حالة لم يسبق لها مثيل، فقد تغير بين الدول مقياس الصلات السياسية والعقلية، ولم يعد هناك تكافؤ في تبادل الآراء العامة بين الأمم المحكومة حكماً استبداديّاً والأمم التي لا زال الرأي فيها حراً؛ ولم يعد هناك أيضاً من شكوى ترفع أمام قضاء الشعب من نظام حكومته الاستبدادية

والأمر على النقيض من ذلك في الأمم الحرة؛ إذ بوسع صحافة الحكومات الاستبدادية ووكالاتها الأخرى الخاصة بالدعاية والنشر - بل وكثيراً ما وسعها كما أيدتها التجارب - أن تتقدم بشكواها إلى الرأي العام في الأمم الحرة، وأن تكون هذه الشكوى أحياناً ضد نظام ومصالح هذه الأمم الحرة؛ إلا أن هذه المعاملة الكريمة لا يسمع لها صدى في الأمم المحكومة حكماً استبداديّاً، حيث لا تكافؤ في المعاملة ولا تعادل بين ما يعطى وما يؤخذ، ولا ترقب للإقناع والقبول بالدليل القاطع أو البرهان الدافع ما دامت الحكومة وحدها في الأمم الاستبدادية هي صاحبة الكلمة العليا والقضاء المبرم، وما دام الشعب قد قدر له أن يجهل كل شيء من شأنه أن يهيئه لأن يتأبى على الزعيم قبول سياسته - والواقع أن الفاشية في إيطاليا والشيوعية في روسيا السوفياتية، بل وحتى القيصرية في روسيا القيصرية، كل أولئك يعتبر موطناً للحرية إذا ما قورن بالنازية في ألمانيا. فلم تكن الرقابة التي فرضها قيصر الروس على الصحافة، ولم تكن الرقابة التي بسطتها عليها (البيروقراطية) الباطشة القوية، أو الإدارة السرية، لتبلغ من التوفيق والنجاح ما بلغته النازية من إسكات ستة الصحف الكبرى، وهذا النظام الاستبدادي الذي يفرض على الشعب بأسره ما تبدعه الدولة وتصبو إليه من النظر والرأي يعتبر حدثاً جديداً وأمراً ثورياً وطابعاً مشئوماً وقالباً معكوساً في العالم الجديد

(للكلام بقية)

زين العابدين جمعة

المحامي