مجلة الرسالة/العدد 434/من أحاديث القهوة
مجلة الرسالة/العدد 434/من أحاديث القهوة
- 4 -
كأننا حين كنا نجلس في لَحَق القهوة على شاطئ النهر كنا نشرف على مسرح من مسارح الفكر والشعور لا يقع في صفوه كدر من أوزار الناس، ولا قذر من أوضار المادة. فلما دفعتنا بواكر الخريف إلى داخل القهوة أحسسنا الدنيا بصخبها وشغبها، وجدها ولعبها، وصدقها وكذبها، وفشلها وغلبها؛ واستشعرنا ثقل الحياة وضعة الناس وسخف الرواية الإنسانية تمثل على أسلوب واحد كل يوم في أي مكان من الأرض صغير أو كبير، وبأي عدد من الناس قليل أو كثير.
مسرح الحياة في القهوة ضيق المجال ضئيل العدد قليل الشهود، ولكنه صورة مقاربة لمسرحها في الوجود الأكبر: ثلاث سلاسل من المناضد الرخامية امتدت في ثلاثة أروقة، قد جلس عليها هواة النرد والدومينو والشطرنج والورق: فأما النرد، ومثله الدومينو، فيمثل مذهب الحظ والتهويش في ابتغاء الربح؛ فلاعبه لا ينفك ظياش الحلم، جياش الدم، يصك الخانة بالقشاط، ويربك الخصم بالعياط والزياط. وأما الشطرنج، ومثله الورق، فيمثل مذهب الروية والأناة في محاولة الكسب؛ لذلك ترى لاعبه ساكنا ساكتا كتمثال الحكمة، تحسبه من طول تفكيره لا يعمل. ومكسب العقل أو الشطرنج بطيء ولكنه ثابت، ومكسب الحظ أو النرد سريع ولكنه متقلب.
وعلى حواشي هذه السلاسل جلست جماعات مختلفات في منهج السلوك ودرجة الثقافة؛ فهؤلاء من رجال العمل يُداهي بعضهم بعضاً في مبايعة أو مقاولة، وأولئك من رجال العلم يتنازعون الحجج في مناقلة أو مجادلة.
وفي مماشي القهوة أفراد من صعاليك الخلق يمشون وأبصارهم لا تقع إلا على النعال أو على الأرض: أولئك هم ماسحو الأحذية ولاقطو الأعقاب؛ وهم يمثلون الذين رضوا بالهُون والدون، وجهلوا أن فوق الأرض سماء، وأن مع (البراطيش) طرابيش!
ولو أردنا لوجدنا لكل طبقة من طبقات المجتمع صورة من صُور القهوة نَشَقق عليها الحديث ونعمق فيها البحث، ولكننا نقف اليوم عند صورة هذه العيون المشدودة إلى الأرض، أو المعقودة في النعال، فإنها أولى بالتفكير وأجدر بالرثاء.
هذه الصورة تمثل الفلاح ابن الأرض وعبد الأرض؛ قصر نظره على الأرض ليزرع، كما قصرت البهيمة نظرها على الأرض لترعى؛ فلا هو يطمح أن يكون إنساناً يترقى، ولا هي تطمح أن تكون طائراً يرتفع. حتى الصلاة لا يعرف الفلاح منها غير الركوع والسجود؛ أما دخوله فيها بالتكبير، وخروجه منها بالتسليم، فمعنيان ميتان في نفسه، لا يفهم من الأول صلته بالله، ولا من الآخر صلته بالناس. وإذا علمت أن هذا الفلاح في بعض الأمم الدستورية الشرقية هو الكثرة الكاثرة والسواد السائد، علمت كيف يُزوَّر فيها الرأي العام، ويُزَّيف النظام الديمقراطي!
كانت هذه الصورة في تلك الليالي مثاراً للحديث عن الفلاح وما يتحمله من سوء الحالة وقبح الجهالة؛ وكانت القهوة على ما تريد (الوقاية) مغلقة النوافذ مرخاة الستائر لا تملك لضوضائها المكبوتة وأنفاسها المحبوسة متنفَّساً ولا فرجة؛ وكان اصطكاك النرد وارتفاع الأصوات وضجة المذياع قد جعلتنا أشبه باليهود في بُرصة العقود، فلم نكد نسمع الأستاذ عدلي وهو يلقي هذا السؤال على الأستاذ توحيد:
- إذا صح أن الشعور بالنقص مبدأ الكمال، فبماذا نعلل بقاءنا في هذا الدرك الأسفل من الحياة ونحن لا نكاد نسمع في كل مكان ومن كل إنسان غير الشكوى من اختلال النظم واعتلال احكم وانحلال الخلق؟
فقال الأستاذ توحيد: أما إجماع الناس على الشكوى من سوء الحال فما أظن الواقع يؤيده. وإذا كنت تعني إجماع أهل الرأي من رجال الثقافة والصحافة، فإن شكوى هؤلاء لا تدل إلا على آلامهم هم. والقول بأن الأمة متمدنة لأن فيها قوماً يأكلون أكل الذوات، ويلبسون لبس الخواجات؛ وبأنها متعلمة لأن فيها جماعة يحملون شهادات من كل نوع، ودرجات من كل قياس؛ وبأنها طموحة لأن فيها طائفة من مرهفي الحس وعشاق الكمال يطمحون إلى خطير المساعي، ويتشوفون إلى بعيد المطامع؛ ذلك القول لا يسوغه إلا الغرور أو الهزل.
صحيح أننا كنا نقول قبل اليوم: إن المصريين أصل الناس، وإن مصر أم الدنيا؛ فلما رقَّت الأغشية الكثيفة عن العيون، كدنا نبصر موقعنا من البلاد وموضعنا من الأمم، ولكن ذلك لا يعني أننا شعرنا بالنقص، ووقفنا على العلة، وبرمنا بالجمود، ونزعنا إلى التكمل.
أن الفلاحين وهم جمهور الأمة قد مات في نفوسهم - لسبب لا أدريه - ذلك القلق الروحي الذي يتحدى القدر ويخلق الطموح ويحقق التطور. فإذا انبثق في صدورهم ذلك النور الإلهي اهتدوا إلى الطريق الإنساني الذي أظلوه، فلا يحتاجون إلى من يبني لهم المراحيض في البيوت، أو يضع لهم النعال في الأرجل. وليس العلم شرطاً في حُبَّك النظافة وطلبك الحق وإبائك الضيم ورعايتك الصحة، فإن ذلك كله من مقتضيات الفطرة السليمة. والبدوي على عنجهيته وجهله لا يزال المثل المضروب في الاعتداد بالنفس والاحتفاظ بالكرامة. وفي يقيني أن الواجب الأول على رجال الدين وأقطاب الصحافة ورجال الإصلاح أن يقنعوا الفلاح بأنه إنسان. ذلك وحده كفيل أن يعلمه كيف يعيش، وأن يلهمه كيف يرقي!
وهنا قدح الأستاذ توحيد زِناده الفضيَّ النادر، وأشعل سيجاره التُّسكانيَّ الفاخر؛ ولم يكاد يطفئه ويستأنف الكلام حتى أُغلقتْ مفاتيح الأنوار، وأطلقت صفارة الإنذار، فخشعت الأصوات، وسكنت الحركات، واستولى على الناس شعورٌ من صريح القلق ورياء الصبر فاستحال الإصغاء وانقطع الحديث!
(المنصورة)
أحمد حسن الزيات