مجلة الرسالة/العدد 436/مملكة الشمس

مجلة الرسالة/العدد 436/مملكة الشمس

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 11 - 1941



أو

للدكتور جواد علي

من الفلاسفة من يأبى خيالهم إلا أن يسمو من عالم الأرض إلى عالم السماء؛ ومن هؤلاء الفيلسوف الإيطالي توماس كامبينيلا صاحب مملكة الشمس المملكة المثالية التي افترضها هذا الفيلسوف لتكون المملكة الفاضلة من بين الممالك البشرية والنموذج الأعلى لكل الممالك التي تصورها العقل البشري بلا نقص أو هنة من الهنات. كان هذا الفيلسوف من الطليان الحركين الذين كانت لهم روح لا تستقر على حال. لم تعجبه حياة الرهبنة والتقشف على شدة تعلقه بمبادئ الدومينيكان. ولم يقبل بأن يسجن الإنسان نفسه حراً مختاراً في قبعة ضيقة بين الأسوار والجدران باسم الرهبانية والدين. وقد دفعته هذه النزعة إلى الخروج على تقاليد جماعته وعلى الانضمام إلى زمرة السياسيين الثودويين الذين كانوا في مدينة نابولي يجاهرون ملك الأسبان بالعداء؛ فسجن مقيداً في محبس المدينة المظلم مدة ستة وعشرين عاماً ونصف، وعذب سبع مرات.

ومملكة الشمس التي أراد أن يقيمها هذا الفيلسوف مملكة تستند على الأسس والمبادئ الفلسفية التي تصورها أفلاطون في جمهوريته ودولته. ولكنه اختلف عن أفلاطون في شدة اعتنائه بالتنظيم، وبالجزئيات، وبتوزيع الأعمال على حكام هذه المملكة وعلى الأتباع، وقد اختلف في نظريته عن النظرية المثلية التي تصورها الفيلسوف الإنكليزي توماس موروس من ناحية مبدأ الحكم في هذه المملكة. فمملكة توماس موروس مملكة اشتراكية ديمقراطية النزعة تأخذ بمبدأ الانتخابات فيها، ولحرية القول والاعتقاد نصيب وافر. أما مملكة الفيلسوف الإيطالي فهي مملكة اشتراكية أيضاً ولكنها تمثل نظر العقلية الإيطالية إلى الحكم خير تمثيل. هي النموذج الصالح لنظر العقل الإيطالي إلى الحكم، لا محل فيها للحرية الفكرية ولا للعقيدة، ولا مجال فيها لإبداء الرأي أو الاعتراض. كل شيء يدبره الفلاسفة وهم الحكام. وكل شيء فيها قد نظم وقنن وضبط وعين حتى الأكل والشرب وساعات العمل وطراز الأنس والطرب.

يتصرف في شؤون مملكة الشمس حكيم ميتافيزيقي يدعى هوه أو سول انفرد من بين جميع رجال المملكة بالحكمة والعلم وحسن التصرف، فهو أعلم الناس وأحكمهم طراً. أحاط بكل شيء علماً فلا يعزب عنه في تدبير المملكة شيء. وتكاد تكون صفات هذا الرئيس الحكيم هي نفس صفات (الرئيس الفيلسوف) الذي اختاره الفارابي ليحكم (أهل المدينة الفاضلة) مع اختلاف في طريقة الحكم وتوزيع الأعمال، وإمكانية التطبيق سببه اختلاف نظام الحكم في بلاد الإسلام في عهد الفارابي عنه في مملكة أسبانيا وإيطاليا في عهد الفيلسوف كامبنيلا. ينظر الفارابي إلى الحكومة نظرة فلسفية أفلاطونية روحانية إسلامية مجردة بينما ينظر كامبينيلا إلى الحكومة بنظرة فلسفية مثالية عملية كأوليكية، تعكس لنا صورة العقل الإيطالي في عهد هذا الفيلسوف.

ويساعد الرئيس (سول) ثلاثة وزراء، هم بون وسن ومور اقتسموا شؤون المملكة كل حسب اختصاصه ونبوغه. وتعرفون بالناحية التي اختصوا بها تصرف رجل خبير قدير لا يجاريه في فنه أي شخص آخر من أشخاص هذه المملكة. وقد اختص الوزير (بون) من بين الوزراء بالشؤون الحربية وبمهمة الدفاع عن المملكة، ووظيفته أن يبذل كل ما في وسعه لصد هجمات أي معتد أثيم يريد بالمملكة سوءاً. وعلى كل مواطن في هذه المملكة كما في مملكة أفلاطون أن يساهم في الدفاع عن الوطن، يستوي في ذلك الرجل والمرأة، والمرأة لا تستثنى في هذه الحكومة من الجندية لأنها تساهم الرجل في شؤون الحياة. وهذه هي الفكرة التي صرع بها أفلاطون في جمهوريته.

أما الوزير سن فهو وزير معارف هذه المملكة إليه ترجع أمور تعليم الشعب وتثقيفه، وله واجبات كثيرة متفرعة فهو يشرف على تعليم الناس الفنون الحرة والفنون العلمية الآلية (أي الصناعات) وهو يشرف على تعليم سكان المملكة قواعد العلم وأسراره. وهو يشرف على تعليم سكان هذه المملكة جميع فنون العلم التي يحتاجها الإنسان في الحياة.

أما التعليم فهو إجباري عام يستوي في ذلك الذكر والإناث. خصص وزير المعارف لكل مدينة من مدن الشمس محلاً يدعى ليكون بمثابة مدرسة ذلك اليوم. والأوربيس بيكتس عبارة عن محل واسع عام أقيمت عليه سبعة جدر مربعة متساوية، جدار من هذه الجدر في الوسط، أما الجدر الآخر فتحيط به على صورة هالة. وقد زينت هذه الجدر بصور مختلفة التي تمثل سلسلة العلوم التي يحتاجها البشر وضعت بصورة منتظمة حسب تطور درجات العلم. وهنالك معلمون يوضحون للأطفال مغزى هذه الصور بصورة بسيطة سهلة لا تكلف فيها ولا إجهاد.

والتعليم في هذه المملكة من النوع المختلط، والمنهج من النوع الموحد، والكتاب الوحيد الذي يدرس في هذه المملكة هو كتاب (الحكمة) وقد ألفه كاميبنلا على طريقة فيثاغورس جمع بين دفتيه من كل فن شيئاً. ويؤكد الفيلسوف أن كتابه هذا هو من أسهل وأحسن ما كتب، وأن أسلوبه أزلي لا يتبدل، لذلك لا يمكن لأي طفل بلغ العاشرة من العمر مهما كانت مقدرته العقلية أن يرسب في امتحان الدولة أبداً. أما المواضيع النحوية واللغوية فلا مجال واسع لها في هذا الكتاب ولا في دوائر معارف مملكة الشمس؛ لأن التوسع في هذه الأبحاث يبعث على الجمود الفكري، وعلى توجيه العقل نحو التلاعب بالألفاظ وترك اللب وهو العقل. ولذلك نرى اللغوي يبذل كل جهوده في دراسة قشور الفكرة وهي الألفاظ فيحاول جهد طاقته تسخير الأفكار وسبكها حسب صناعته لتكون جملة من أحلى الجمل التي يستذوقها طبعه؛ ولكنها في الواقع من أسخف ما يكتبه إنسان.

لا يقتصر التعليم في هذه المدينة على الدروس النظرية، بل يحتم القانون على كل طالب من طلاب هذه المملكة الانخراط في معامل المدينة لإتقانه فنون الصناعة والحصول على معلومات عامة عنها؛ لا يستثنى من ذلك أي طالب من الطلاب. وبعد حصول الطالب على المعلومات الصناعية يساق إلى القرية إلى المزرعة النائية حيث تعرض عليه مختلف أنواع النباتات والحيوانات؛ ويعلم بنفس الوقت كيفية استغلال الأرض وتربية الماشية. ثم يساق بعد ذلك إلى الثكنات حيث يدرس الفنون الحربية وكيفية استعمال السلاح ليستوي في ذلك الذكور والإناث!

أما وزارة الوزير (مور) فهي من أخطر الوزارات الثلاث لأنها وزارة حساسة مهمة تتعلق بالجنس والمحافظة على الجنس. عليه أن تنظم العلاقات الجنسية وأن تسهر على إنتاج جنس قوي من أحسن الأجناس، وهي وزارة الحب ووزارة العلاقات الجنسية. فالرجال في هذه المملكة ملك مشاع للنساء، والنساء في هذه المملكة ملك مشاع للرجال. لا زواج ولا استئثار، كما لا زواج في جمهورية أفلاطون ولا استئثار. كل شيء عام. تقوم في هذه المملكة عاطفة الحب مقام عاطفة الزواج. لذلك كان أهم وظائف الوزير مور تنظيم هذا الحب حتى لا يؤدي إلى استئثار فردي وحتى لا يؤدي إلى حدوث مشاكل ونزاع بين الأفراد.

وعلى الوزير مور أن يهيئ لمملكة الشمس جيلاً منتخبا من أقوى العناصر البشرية وأجملها بنفس الوقت، كي يتمتع الإنسان بالسعادة والهناء؛ ولكي يتم ذلك، عليه أن يربي الأطفال تربية صحية، وأن يجهزهم بالطعام الكافي وبالملابس المقتضية. والملابس في هذه المملكة من النوع الموحد أيضاً، تلبس في الصيف والشتاء على حد سواء، ولا فرق في هذه المملكة أيضاً بين ملابس الرجل والنساء.

وإنك لا تجد في هذه المملكة أثراً للعائلة، كما لا تجد فيها أثراً للملكية الخاصة. كل شيء فيها عام، حتى الدين لا يستأثر فيه (الثالوث المقدس) رمز المسيحية بالنفوذ من بين مقدسات الإنسان. هكذا أراد (كامبينيلا) الراهب أن تكون مملكة المثلية على سطح الأرض على المثال الذي أراده أفلاطون، حتى في توزيع الأعمال وتقسيم الطبقات. وكذلك حلم الفارابي المسلم فأراد أن تكون مدينته مدينة مثلية فاضلة، لها ميزاتها من بين المدن المثلية. وكذلك أراد ابن طفيل أن تكون البشرية في عقلية حي بن يقظان. وكذلك فكر الشيخ الحلي في جزيرته الخضراء. بمثل هذا فكرت عقلية عشرات وعشرات من مفكري الإسلام.

لقد فشل أفلاطون حينما أراد أن يطبق ما تخيله عقله على سطح الأرض. وفشل الفيلسوف الإيطالي كاجنبيلا كذلك عندما أراد تطبيق مشروعه على سكان الأرض. هكذا يحلم فلاسفة البشر عن بشرية كاملة مثلى، ولكن أحلامهم تصطدم دائماً بحقيقة ثابتة تمثل فلسفة الواقع، وهي أن بين عالم الأحلام وبين عالم الحقائق بوناً يمثل بعد الأرض عن السماء. فآمن أيها القارئ بالواقع تعش سعيداً ما دامت لك حصة في هذه الحياة.

بغداد

جواد علي