مجلة الرسالة/العدد 437/المغزل. والريف. ونفسي

مجلة الرسالة/العدد 437/المغزل. والريف. ونفسي

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 11 - 1941



إلى الشاعر التائه صاحب (أرواح شاردة) الصديق علي

محمود طه

للأستاذ راشد رستم

شردت من الحضر إلى الريف - وليس العجب أن يشرد المرء من الحضر إلى الريف - وإلا فأين معنى الشرود، وأين موطن الشرود، بل رأين الروح الشرود. . .

أما أنت يا صاحبي، فقد شردت من الريف إلى الحضر! ذلك إذا عددنا مصر، بنيلها العظيم، وزرعها النضير، وإنسانها الكريم، ريفاً وأي ريف، ثم حسبنا بلاد الغرب بمياهها المعدنية، ومدنها الفنية، ورهطها النشيط، حضراً وأي حضر. . .

فهل أنا موفق هنا معك، أم أني شرود كذلك في هذا الخيال وهذا التشبيه؟ على أنه كانت الأولى فإني منتصر، وإن كانت الثانية فلست أنت المنتصر. . .

ولكن خبرني، ما بالي أثير عليك غبار هذا الجدل وأنا في سكون البكور من صباح منير، وسط ريف هادئ بديع! لماذا هذا الجدل وأنا في جو نقي نظيف، حيث البساطة والسهولة والوضوح! في هذا الصباح البدري الذي لا تصيح فيه الديكة إلا لكي تدعو النيام إلى القيام، والذي تحمل فيه الطيور النطاطة تحيات النهار - وهذا أول النور وآخر الظلام!

هذا صباح الريف، سكون ولكن حياة. وهاهي الطبيعة، ناعسة تتمطى ولا تقوم. وأنا صاح قائم اذكر قول الشريف الرضي، رضى النفس، شارد الروح، وهو يقول:

وأكتم الصبح عنها وهي غافلة ... حتى تكلم عصفور على علم

وهأنذا أتحدث عن هذا الصباح الغريب، فقد كان صباحاً ساكناً، ثم ثار، ثم سكن. أثبت الحقيقة كما جاءت فيه - والحقيقة أصل لكل خيال - فقد جلست الساعة بعد هذا الشروق البهي، و (مغزلي) في يدي، وأنا في المكان من الصعيد السعيد البعيد. . .

وهذه هي الأرض تغمرها مياه النهر الكريم، تحفها سلسلة هذه الجبال الراسيات، يضم القوم بينهما هذا الوادي الأخضر السهل الفسيح الممتد

وإذ أنا في هذه الحال، هادئ النفس هادئ البال، إذا بالبلدة الناعسة، وهي تطرح عنه أطراف الليل، تستيقظ على صوت مزمار وطبل - جماعة يحجون إلى دير بالجبل بعيد - حتى إذا عادوا من نذرهم وقد مروا علينا بالطريق، صبحونا مبدرين مبكرين، ودخلوا القرية وافدين؛ حيونا بأصوات البشير، وتلقيناهم بأحسن تكريم، وتبادلنا وإياهم في ساعة هذا النهار المنعش الصبوح، صفاء قلوب في صفاء قلوب

ثم أداروا علينا من أنغامهم موسيقى ذات دوي بعيد وحنو قريب، فأخذت القوم نشوة اليقظة بعد فترة الرقاد الطويل، وتولتهم هزة الفرح، فراحوا وزامر الحي يزمرون ويطبلون، كما أنشئوا (يتحاطبون)، يحملون عصيهم في الفضاء، تدور بهم وهم بها دائرون، يبتعدون ثم يلتفون، وفي خفة يقفزون، ليس فيهم طالب ولا مطلوب، ولا غالب ولا مغلوب، إذ هم في لهو يمرحون، وأهل القرية من حولهم معجبون مبتهجون

حتى إذا تحول الطرب ودارت للرقص أنغامه، دارت في الساحة من الرجال أربابه، يتفكهون وإن كانوا به يتباهون؟

غير أن للخلخال رناته، وللخال المحجب ساعاته، وقد دق الطبل لبنات الحي دقاته، فنزلن إلى الساحة يخطرن وللقلب وقتها دقاته، وأثارت بنات الحي في الحي للرقص موجاته، فارتفعت في ميزان (الحرارة) شاراته، وازدحم الميدان واشتدت حماسا ته، فقد دارت بنات الحي في الميدان للرقص دوراته، وحمي الوطيس واشرأبت من الجمع هاماته؛ هؤلاء هن للدلال والوقف والعطف سيداته، وهؤلاء هن للف والميل والدوران رباته:

صان الإله رشيقةً مياسةً ... أربتْ على الغزلان في الجولان

ثم خلت الساحة من حسان راقصاته، إلا التي هي من بنات الحي أبين باناته. هيفاء هيفاء، تخطر فوق الثرى وكأنها تصعد في الجو إلى ثرياته، خفة ورشاقة وسناء؛ بينما تراها هناك. وهي أن حنت على المشيب أقبلت عليه ترعاه، فتجعله من فرط الرضا شباباً. . . فإذا تجنت على الشباب تحولت إليه تسبيه هياماً فتجعله هباء أو سراباً. . .

وكأني بها حمامة الصبح وهذا هو الصبح قد لاح، فهل تبعد يا أليف الهوى وهذا هو الإلف قد بان وسبحان الفتاح؟ تعال. تعال. خذ الخصر بيمناك، ودر بالساق مع الساق، ولا تقل أين المساق. إن للحياة مداها، وللروح في حب الرضا قرباها، ومناها، ونجواها. . .

وانظر الآن! هذه هي الخيل تجري في أعنتها وفق هواها، تدب دبيب السعد والخيلاء والخير معقود على نواصيها. وهؤلاء فرسانها لا يستطيعون لها كبحاً، فتفزع تدخل بهم الساحة مسرعة، كأنها تأبى إلا أن تأخذ نصيبها في موكب الصباح، ولكنها ترتد سريعة جامحة، كأنها من نيران أمامها خائفة، وما هي إلا ذات الخلخال، لا تزال في الساحة قائمة، لم تترك مكانها، فكيف إذن للخيالة أن تستبيح الميدان؟

لما أن رأتهم مندفعين، وقفت وقفتها تكشف فيها لهم عن القسي والسهام، فأدركوا ما قد يصيبهم من كبوات وغرام، وخافوا على أنفسهم وخيلهم من الذي والضرام، وهكذا ارتدوا خائفين وهم هم السادة الشجعان، من الخيالة والخيل والفرسان.

حتى إذا هدأ الروع، واستقر الفؤاد، عادوا بعدئذٍ إلى الساحة مطمئنين، بل كراماً نازلين، يدورون ويدورون، يلعبون (ويتفرسون)

والخيل تمزع مزعاً في أعنتها ... كالطير ينجو من الشؤبوب ذي البرد

وللخيل صيحات وللفرسان صيحات

وهكذا بين جمال وجلال وكر وفر، وصهيل وتهليل، تسود البطولة أجواءنا، وتملك النعومة أرواحنا. . .

حتى إذا بلغت نشوة الفرح حدها، وضيافة الصبح سمتها، وأذن مؤذن الركب بالرحيل، وأخذ القوم يعودون في هدوء آسفين، ونحن من ورائهم كذلك آسفون؛ وخلا المكان، وانفض السكان، وإذا بي قد شردت من حالي دون أن أبرح مكاني، وإذا بي يشتد شأني دون أن اترك شأني، وإذا بي أرى مغزلي بجواري فألجأ إليه عنده خلاصي

وإني وقد آخذ مقامي من هذا الريف النظيف، أبدأ كل يوم فيه بما قد هويته صغيراً، ولا أزال أهواه كبيراً: (غزل) الصوف بهذا المغزل القديم المعروف؛ إذ أجد للفكر إذا ما شرد، وللنفس إذا ثارت، راحة وسكوناً مع دورات هذا المغزل الأنيق الرشيق العتيق

وإنك لتراه يتدلى في الفضاء دائراً دائراً، معلقاً في خيط رفيع دائماً؛ ينساب من بين أنامل ماهرة، قد تكون كذلك ناعمة، تجعله خيطاً رفيعاً ناعماً، تتجلى فيه دقة الصنعة إذا ما جعلته رفيعاً رفيعاً، متيناً متيناً

تراه محملاً مثقلاً، معلقاً في ذلك الخيط المتين الرفيع، كما يتعلق الهائمون الشاردون بالأمل في خيط منه وحيد رفيع يدور المنزل في الفضاء مثقلًا مثقلاً، كأنه النفس المثقلة بأنواع الهموم، تغزلها يد الأقدار، تلفها عليها في سكون ودوام، ثم تدور بها في طيات هذه الحياة

هذا المغزل الذي بين يدي، هو كهذه النفس التي بين جنبي، حملتها كبيرة صغيراً، ولا أزال أحملها كبيرة كبيراً

هذا المغزل بينما تراه خلياً حيناً، مثقلاً أحياناً، يدور في فضاء الله، كما تدور فيه هذه النفس ثائراً، هادئاً صابراً

هذا المغزل مهما كان عتيقاً عريقاً، فإنه متجدد دائماً، نظيف دائماً، رشيق دائماً. . .

(مزرعة كوم المنصورة)

راشد رستم