مجلة الرسالة/العدد 438/لا تقولوا أين الكتاب

مجلة الرسالة/العدد 438/لا تقولوا أين الكتاب

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 11 - 1941


وقولوا أين القادة. . .!

أو كلما كظمت الأنفاس روائح الشر، وكرَبت النفوس غواشي الفساد، ذهل الناس عن مرسلي الريح ومثيري القتام وقالوا أين الكتّاب؟ هل الكاتب إلا نذير؟ وهل على الكتّاب غير البلاغ؟ لقد كتبوا حتى أوشك المداد أن ينفد، خطبوا حتى كاد الريق أن يجف؛ ولكن أكثر العامة لا يقرءون، وأكثر الخاصة لا يفهمون. ومتى أغنى القول عن الفعل، وجَزَى الرأي عن العزيمة؟

إن من أقبح ما يعاب علينا وعلى أمم الشرق أننا لم نعرف من أدوات السياسة ووسائل الإصلاح غير الكلام والكتابة؛ فسياستنا خطب، وإدارتنا تقارير، ومناهجنا وعود. ولو كان الشعب قارئاً لرجونا من وراء الكتابة صلاح النفس في الفرد وسمو الروح في الجماعة؛ ولكن الأمية لا تزال بفضل وزارة المعارف حجاباً مستوراً بين عيون الناس ونور الحق. فماذا عسى يصنع الكتّاب وليس لهم من الأمر شيء؟ هل يصنعون إلا أن يفتحوا بأسنان أقلامهم أجفان المتعلمين لتثب إلى عيونهم صورُ العيوب فيدركوها؟ وهم قد فعلوا ذلك ولم يألوا: فعلوه في الكتب والصحف، وفي المدارس والمسارح، حتى لم يبق في هؤلاء الذين تقسموا الحكم، وتوزعوا السلطان، وتنازعوا القيادة، من لم يحفظ صور الفساد ووجوه الصلاح عن ظهر قلب! ولكن الله الذي آتى زعماءنا ملكة الكلام لم يؤتهم ملكة العمل! فهم يستطيعون أن يقولوا ما قال الكتاب، ولكنهم لا يستطيعون أن يفعلوا ما فعل القادة. ومصداق ذلك أنك تراهم في أندية الأحزاب، وفوق مقاعد النواب، وبين أعمدة الصحف، يكشفون عن مواضع النقص، ويشيرون إلى مواقع الكمال، فيفتون في كل مسألة فتوى العالم، ويُدْلون في كل معضلة برأي الخبير، ويعترضون على كل أمر اعتراض اليقظ؛ فإذا وليناهم الحكم وخلينا بينهم وبين العمل، التاث عليهم الأمر، وبرَّح بهم التطبيق، وأصبح جهدهم مصروفاً إلى مناقضة القول بالقول، ومعارضة الرأي بالرأي؛ كأنما تبوءوا مقاعد الحكم ليردوا وهم وزراء ورؤساء، على ما انتقدوه وهم كتاب وخطباء!

من من الزعماء يجهل أن الأمة لا تزال متخلفة في الخلق والمعرفة والحضارة عن أدنى أمم الأرض المعدودة قرناً من الزمان؛ فحياتها بدائية، وأخلاقها همجية، ونظمها ارتجالية، ومعيشة الزراع والصناع فيها أقرب إلى معيشة البهيم، منها إلى معيشة الإنسان الكريم؟ كلهم يعلمون ذلك وإن لم يقرءوه في مقال أو يسمعوه في خطبة؛ ولكن اشتغالهم بسفساف الأمور، وخسيس المطامع، ودنيء الشهوات، صرفهم عن النظر في شؤون الناس وأحوال المجتمع، فلا يذكرون الشعب إلا يوم يقوم الانتخاب، وتصطرع الأحزاب، ويحتاج كل طماع إلى سلالم من أكتاف المساكين يصعد فيها إلى النيابة والحكم.

ومن من الأغنياء يجهل أن الفقر في مصر ضرب من الرق يذل النفوس، ويقتل المواهب، ويشكك المرزوء به في العدل والحق؛ فهو يسكن ليستكين، ولكنه قد يثور ليثأر؟

كلهم يعلمون ذلك وإن لم يقرءوه في مقال أو يسمعوه في خطبة؟ وهم مقتنعون بأن علة هذا الفقر هي أكلهم الحق الذي جعله الله في أموالهم للفقير؛ ولكن العلم وحده لا يبسط الأنامل الكزّة، ولا يهز النفوس الشحيحة!

ومن من العلماء يجهل أن دين الله صالح لكل جيل من الناس ولكل حين من الدهر؛ فهو ثابت بحقيقته ثبوت الخالق، ولكنه متطور بطبيعته تطور المخلوق. كلهم يعلمون ذلك وإن لم يقرءوه في مقال أو يسمعوه في خطبة؛ ولكنهم أغلقوا على عقولهم باب الاجتهاد فظلوا في دنيا الماضين، يذهبون ما ذهبوا، ويقرءون ما كتبوا، ويجذبون ركب الإنسانية إلى الوراء ثلاثة عشر قرناً ليأخذ من ساكني القبور جواز المرور!

ومن من الموظفين يجهل أن الأمة هي أسرته الكبرى، وأن الوطن هو بيته الأكبر؛ فالعمل الذي يقف أمامه في شأن من الشؤون هو أخوه؟ كلهم يعلمون ذلك وإن لم يقرءوه في مقال أو يسمعوه في خطبة؛ ولكنهم في الكثير الغالب يتحاملون على ضمائرهم فيخضعونها لسلطان الكبر والأثرة، فيرفعون أقدارهم على أقدار الناس، ويضعون المنفعة الخاصة فوق المنفعة العامة!

ومن من التجار يجهل أن الحرام لا يزكو، وأن الغبن لا يحلُ، وأن الحكرة لا تجوز؟ كلهم يعلمون ذلك وإن لم يقرءوه في مقال أو يسمعوه في خطبة؛ ولكنهم في سبيل الثراء الدنيء يتعامون عن بؤس الفقير، ويتصامون عن صوت الضمير، ويهتبلون فرص الحرب ليعصروا الذهب والفضة من دماء القتلى ودموع لأيامي وعَرَق العَمَلة!

الواقع الذي لا مريه فيه أن أمم الشرق لا يعوزها إدراك النقص ولا عرفان الواجب؛ إنما يعوزها الرجل الذي يطبق علمها على العمل، ويوحد رأيها على الحق، ويجري خلقها على الرجولة، ويجمع شتاتها على الطريق. فهل لصديقي العشماوي بك أن يوافقني على أن مصر اليوم لا تحتاج إلى (عليّ) بلسانه الحكيم، وإنما تحتاج إلى (عمر) بدرَّته الحازمة؟

(المنصورة)

أحمد حسن الزيات