مجلة الرسالة/العدد 438/هؤلاء الكتاب

مجلة الرسالة/العدد 438/هؤلاء الكتاب

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 11 - 1941



للأستاذ م. دراج

. . . وقلت لنفسي: لقد أصبح الناس يقابلون بالشك والارتياب كتابة الكتاب والمفكرين. فإذا تقصيت السر وجدتهم على حق فيما يشكون؛ فقد باع هؤلاء الكتاب حرية الفكر بعبودية المال، ورضوا وهم طلائع الأمة أن ينقادوا لرجال المال والأعمال؛ وقلما تتفق مصالح الشعب ومصالح أولئك الرجال؛ ولعل هذا هو أكبر ما تعانيه من بلاء، بل لعله السر الوحيد فيما وصل إليه المجتمع من تفكك وانحطاط.

فالتنافس في سبيل القوت قد انقلب إلى تناحر مادي فظيع ليس له حدود، وطريق الاستقلال مفتوح على مصراعيه لكل طارق، وليس للكائنات البشرية قيمة تذكر أمام الغاية الكبرى، وهي جمع المال والإثراء بأي ثمن. فالذي يستطيع أن يلقي بقدر من المال في عمل ما يجد العامل الذي يرضى بالدون من الكفاف؛ ويستطيع أيضاً أن يرغمه على العمل ليل نهار بزيادة بضع قروش أو بضع مليمات! وله الحق في هذا ما دامت قوانين الدولة لا ترسم حدوداً لمثل هذا الاستغلال الفظيع، وما دام الضمير الإنساني لا ينزعج لهذه الحال؛ فكل شيء على ما يرام! أفبعد هذا نلوم الناس على انصرافهم وشكوكهم في إخلاص المفكرين والكتاب؟ أليس الدليل واضح أمامنا في كتابات الصحف اليومية وغير اليومية يعطي أصدق برهان على فساد (التفكير الجماعي) عند هؤلاء الكتاب. إنهم ليفسحون لرجال المال صدور الصحف يكتبون ويعلنون فيها ما شاء لهم الغرض. ثم لا يجدون غضاضة في إعطائهم فرصة للكلام عن بؤس الفلاح وشقاء العامل واضطراب الموظف وحيرة الجماعات، ومتاعب الشعب جملة وتفصيلاً. . . ليستتروا وراء هذه الإعلانات في ثوب الطبيب الذي يتوجع لآلام المريض، وهو يعلم أن بلسمه الشافي بين يديه، ولكنه لا ينزل عن الثمن بأي حال!

هؤلاء الكتاب يسيئون الظن في ذكاء (الغريزة المصرية الواعية) مثلما يسيئون إلى الشعب المصري بقوائم الإحسان التي يعلنون عنها كل يوم في صحفهم. لقد فسدت عندهم مقاييس الإصلاح، فتوهموا أن الكلام قد يغني عن الخبز، وأن الإحسان أجدى وسائل الإصلاح، وأن الدنيا بخير ما داموا هم سعداء! إلا أن الشعب المصري لا يطلب إحساناً ولا بكاء. . .

لا، ولا إشفاقاً، وإنما يبني علاجاً حاسماً يقضي على أسباب المرض دفعة واحدة لا تقسيطاً؛ ولن يكون هذا العلاج إلا (جَماعياً) تؤمن به الدولة وتسنه قوانينها، حتى إذا جرى مجرى التنفيذ أفاد كل (خلية) في جسم الأمة، كما تغذي الدماء الأعضاء المشلولة بالحياة

هراء. . . محض هراء. . . كل ما تذيعه الصحف من علاجات أرباب المال، لأنهم لا يريدون إلا تبرعاً، والتبرع قد يفيد شخصاً وقد ينجد أسرة، وقد ينقذ ألفاً من الناس، ولكنه لا ينقذ شعباً بأسره يعدّ الفقراء فيه بسبعة عشر مليوناً إلا بضع عشر ألفاً من الأثرياء.

هؤلاء الكتاب يعرفون - أو لا يعرفون - أن سكرة الموت يعقبها هزة عنيفة هي هزة اليأس أو الرجاء، فماذا تراهم صانعين بأقلامهم المزيفة لو صحّ المريض، وسلمت روحه من الفناء، هل يظنون آنذاك أنها إحدى معجزات الإحسان؟!

أم يشهدون أن القوة الكامنة في قرارة النفس المصرية هي التي مهدت له طريق الحياة؟

أيها الكتاب اطرحوا عنكم ضلال المادة. ثم اكشفوا الغطاء عن موطن الداء. تهيئون لكم وللناس فرصة طيبة للعودة إلى الحق والصراط المستقيم. فالتفكير الفردي لا يجذب الجماعات، لأن الإحساس الجماعي يتطلب (تفكيراً جماعياً)، ونحن في أشد الحاجة إلى هذا اللون من التفكير يسود أذهان الكتاب، ولا شيء سواه يمكن أن يضيء للمجتمع طريقه إلى الخلاص وسط هذا الظلام.

والداء العياء لهذا البلد هو الإعسار الشديد في العيش، والإظلام الشديد في العقول والقلوب، حتى أصبحت البيئة المصرية مزرعة لملايين الأمراض البشرية، والأمية سبة في جبين كل مصري يتبعها انحطاط في الأخلاق والتفكير والأحوال المعاشية بوجه عام

داء مصر الوحيد هو الفقر بعينه بشهادة اللجنة المالية لمجلس الشيوخ، فإذا استطعتم أن تقولوا كلمتكم في هذا المرض العضال وشرحتم أسبابه وفصلتم نتائجه ورسمتم على هذا النهج طريق الخلاص، أمكنكم النهوض بهذه الأمة سريعاً، أما غير ذلك فضرب من المحال، وضجة وتشويش في غير مجال.

م. دراج