مجلة الرسالة/العدد 44/اثر الأدب في الحياة
مجلة الرسالة/العدد 44/اثر الأدب في الحياة
بقلم محمد قدري لطفي ليسانسيه في الآداب
تؤلف في الأدب كتب، وتنشأ له صحف، وتقام له جماعات وتشيد من اجله جامعات، وتعرف به رجال، فأي اثر لهذا الأدب في الحياة، وأي وظيفة يؤديها لهذا المجتمع الذي غلبت عليه المادة ولم تلق فيه المعنويات ما يجب لها من عناية وتقدير؟
ان للأدب عناصر يتركب منها، أساسها تلك العواطف التي تستولي على المرء فتحرك نفسه وتهتز لها يراعته فتدون على صفحة القرطاس تلك الحركات النفسية، وتصورها على قدر شدتها أو خفتها، فإذا عرضت على الناس حركت فيهم نفس الشعور وأحيت منهم نفس العاطفة.
وكم في هذه الحياة من نفوس دقيقة الحس صادقة الشعور تحركها شؤون الحياة وتهزها صروف الدهر، هي نفوس أدبية تحس في صمت، وتشعر في سكون. ولكن أصحابها فقدوا أداة الأدب وأعوزتهم المقدرة على التعبير عما يحسون في أسلوب جميل أخاذ، وبهذه المقدرة الفنية يتميز الأدباء من غيرهم من ذوي الحس الدقيق والشعور الصادق. فالحياة تذيقنا جميعاً حلوها ومرها. ونلقى منها جميعا ما نحزن له أحياناً ونطرب له حيناً، وهي تعرض علينا من ألوانها الزاهي البهيج والقاتم الحزين. والأديب منا من شرح حسه فأجاد الشرح، وصور لنا عواطفه فأحسن التصوير، وإذن فليتعز المحزون العاجز عن بث حزنه بنفثات الأديب المحزون، وليبحث البائس الذي لم يسعفه بيانه عما يسليه ويذهب ببعض آلامه في سطور الأديب البائس، وليقرأ المحب الذي احب فأخلص، واخلص فتفانى في اخلاصه، ولكنه كان اعجز من أن يسمعنا حديث قلبه وينقل الينا نفسه وخفى حسه، اقول ليقرأ ذلك المحب العاجز ما كتب المحب الأديب، فسيجد بين السطور نفسه مرسومة، وسيلمح في ثنايا العبارات عواطفه مصورة، فلست اعرف بين العواطف الإنسانية عاطفة تشترك فيها القلوب جميعا، وينطبق ما يقال عنها على الناس جميعا، كعاطفة الحب الخالص المتين. الست ترى الانشودة يغنيها المحب شاكيا أو باكيا، فيعدها غيره صدى نفسه وترجمان حسه؟
وإذن فالأدب ضرورة من ضرورات الحياة وعنصر هام من عناصر العيش، فيه الحزين، وسلوى المحب، وعزاء المحزون. وليست مع العزاء مصيبة. إن الأدب هو نتاج العواطف الشريفة وثمار الاحساس الجميل، ولن تجد كثمرة العاطفة في حديقة الحياة.
نظرة إلى هذا العالم تنبئك عن قدر الأدب بين الاحياء، فكل من فيه ماله آخر يومه إلى الراحة والسكون، والمرء مهما كد وجد فلابد له من سويعات تقر فيها نفسه، ويخلد فيها إلى السكون جسمه، وعندئذ فلن يجد أشهى من ثمرات القرائح والنفوس يقطفها من صفحات كتاب. ولن يجد أحلى من زهر العواطف تفوح رائحته من ثنايا النثر أو الشعر. ولن أقول أي نثر أو أي شعر، فلكل ذوقه ولكل ما يؤثر، وهي بضاعة من نتاج القرائح معروضة، فليأخذ منها كل ما يلائم حسه، ويصادف هوى نفسه.
وتريد ان تعرف قيمة الأدب في الحياة وتتبين أثره في الناس. إذن فانظر إلى رجل ليس يقرأ إلا قصيدة قد حوت رائع اللفظ وساحر المعنى، وليس يطالع إلا في كتاب قد تضمن من الحديث أعذبه وأحلاه، ومن القصص أحسنه وأشهاه، فيه شجون وفيه احزان، وفيه شكوى وفيه غرام، وفيه عاطفة حارة وحس جميل، وفيه وصف رائع وشعور صادق نبيل، ثم استمع إليه تحدثك فستجد عقلا مصقولا ونفسا مهذبة، أثرت فيها هذه الآداب فرققت حواشيها، وعملت فيها تلك القراءات فأرهفت حسها وهذبت نواحيها، وهل اجل في الحياة من نفس مهذبة وعقل صقيل؟ وهل ادعى إلى حياة الامم ورقيها من نفوس ابنائها وقد طبعت على كل حسن جميل؟ وهل مثل الأدب مقوم للطبع مهذب للنفس؟
وتريد أن تعرف قيمة الأدب في الحياة وتتبين أثره في الناس؟
إذن فنصور شعبا ينصت إلى نشيده الوطني وقد ذبحته براعة أديب قدير فحوى من معاني الوطنية ارفعها واسماها، وحرك من نفوس الناس اشرف العواطف وارقى درجات الشعور، فتحفزت نفوسهم واستعذبوا الموت في سبيل الوطن.
وللأدب بعد ذلك ناحية عامة لا تقل شانا عن تهذيب النفوس وصقل العقول واحياء العواطف السامية في القلوب، فأدب الامة صفحة صادقة من تاريخها كتبتها طائفة من ابنائها فلم تتحيز ولم تظلم، وإنما دونت فيها شعورها الخالص وحسها الصادق. ولذا عنيت أرقى الامم بالآداب وأحلتها المحل اللائق بها، وأنزلت أهلها المنزلة التي تتفق وما لآثارهم الأدبية من قيمة في الحياة. فلولا الأدب لكانت حياتنا جافة لا تحتمل، وعبئا ثقيلا لا يطاق.
الاسكندرية
محمد قدرى لطفي