مجلة الرسالة/العدد 44/تطور الفلسفة

مجلة الرسالة/العدد 44/تطور الفلسفة

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 05 - 1934



بقلم على محمد راضي

الإنسان المدرك رأس هذه الخليقة التي تدرجت نحو استكمال نموها حتى تمخضت عنه. ومتى أدرك ما حوله اعمل فكره في تعليل ما يرى ورجع إلى نفسه يبحث انفعالاتها وآثار ارادتها، فهو إذن فيلسوف بطبيعته، ومدفوع للتفكير بحكم جوده وعمل حواسه وعقله وإذا عنى الباحثون بدراسة الحفريات لنوع وأحد من الكائنات ليصلوا إلى مقدار تطور حياته فما أولى طلاب العلم ان يصلوا بين حلقات تفكير الإنسان منذ سكناه الكهف وصيده الوحش لاستخدامه الكهرباء واكتشافه مغناطيسية الحياة.

الطبيعة والإنسان متلازمان، وبينهما أوثق الروابط. . هي معلمته التي تلقى عنها أول دروسه، وهي موضع بحثه منذ اللحظة الأولى لوجوده، يكافحها مرة فتتسع دائرة مجهوده وتفكيره، ويستخدمها مرة فيبني صرح تقدمه وعظمته. ولكنها ضنينة باسرارها، وهذا ما يبعثه على إعمال الفكر في تعليل مظاهرها وتكليف نفسه مشقة البحث عن اصل وجودها وعلة استمرارها.

أبصر من مظاهر الطبيعة ما لم يساعده عقله (الطفل) على فهمها، وعجز عن التعرف على اسبابها، فأحال صدورها إلى قوى لا يدركها تماماً، وما دامت لا تخضع لإرادته فهي أقوى منه واشد بطشا، ولذا اعتقد بالارواح الساكنة في الغابات، وقدم للآلهة المتعددة القرابين ليبعد بها عن نفسه غضبها، واعتقد بتجسد هذه الارواح في بعض الكائنات الحية. وكان اليوناني يعتقد باله الحب والقوة والجمال والماء والأرض، ولا يزال الهندوس يقدسون البقر، وبعض أهالي فارس يوقدون النار ليطردوا إله الظلام ويساعدوا إله النور. وعليه فالعقيدة هي محور الفلسفة الاولى الذي دارت حوله، وطبيعي ان يلجأ الإنسان وهو منزعج الحواس بما يكتنفه من هزيم الرعد ووميض البرق وانبثاق الحمم المستعرة إلى الاعتقاد بوجوب التقرب والخضوع للقوة التي تصدر عنها. . انه بذلك يدرأ عن نفسه غضبها، وتهدأ وساوس نفسه وشكوكه.

ولكن لم يقف تفكير الإنسان عند هذا الحد الذي تسلط فيه عليه الوهم، بل جعل يفكر في منشأ هذا الكون. . . والعالم في نظره الأرض التي تعيش على سطحها، والشمس التي تمده بنورها، والقمر والكواكب التي تلتمع كلما جن الليل، فقال بوجود العناصر الأربعة (التراب. والماء. والهواء. والنار.) ثم تدرج إلى القول بوجود عنصر وأحد هو الماء، ثم عدل عنه إلى الهواء لأنه أبسطها وأسرعها انتشاراً. ولعل هذه هو اساس الاعتقاد بالسديم الذي لا يخرج عن كونه غازا ملتهبا متحركا حول مركز جذبه. . . واليوم يؤمن الإنسان بوجود الاثير، ولم يصل بعد إلى تعرف طبيعته ويضطر لافتراض وجوده ليعلل حدوث الاهتزازات والتموجات التي تنشأ عنها القوى المحركة والمرتبة للجزيئات الترتيب الذي يجعلنا نرى المادة في أوضاع واشكال مختلفة.

واخيرا قام مذهب المعتقدين بوجود وحدات كهربائية (الكترونات) تتحرك بواسطة التجاذب الذري، وان الكهربائية نفسها مؤلفة من ذرات. وقد قاد الإنسان إلى بحث سر الطبيعة ما أودع في نفسه من كلف بكشف كل ما يغمض عليه فهمه أو تعليله. . وقد أداه هذا الشغف إلى التفكير في أمر نفسه لا من حيث الاحتفاظ بوجوده وسد حاجاته الضرورية، ولكن من ناحية فلسفية أدق ووجهة اكثر تعقيدا. .

يشعر الإنسان بوجوده بطريق يقيني، وهذا اصل معرفته، ولكنه لم يدرك كيف تقوم معرفته لما يحيط به، وكيف يفكر؟ وما هي القوة الباطنة التي تؤثر فيه وتوجهه إلى حيث تريد؟. . .

الى هنا طويت صحيفة الفلسفة الطبيعية التي أضاع وقته في خلق فروضها طاليس وانكسمندر وانكسمينس. . وبدأ طور جديد تدور أبحاثه على الإنسان نفسه، ويعتبر الواضع للاساس الجديد سقراط زعيم فلاسفة اليونان وتلميذه افلاطون. . ولكنهما لم يتعرضا لتحليل العقل الإنساني باعتباره القوة المدركة، ولم يذكرا لنا شيئا عن ماهية النفس الإنسانية وقصرا بحثهما على اعمال الإنسان ووجوب مطابقتها لما هو حق وعدل وخير. . صحيح أن افلاطون كان يقول بقدم المادة، ولكنه كان يعلل عملية الادراك بوجود صورة سابقة في النفس للكائنات الموجودة، فهو القائل بوجود عالم العقل وعالم الحس.

والحقيقة ان دراسة الفلسفة الإنسانية من الناحية التي عنى بها المعلمون الثلاثة (سقراط وافلاطون وأرسطو) تنطبق على مباحث علم الأخلاق اكثر من مباحث الفلسفة نفسها، ولهذا كان غرض أقطاب الفلسفة الحديثة إتمام النقص الذي ظل موجودا بعد الفلسفة اليونانية.

ومباحث الفلسفة الحديثة تتمم الفلسفة الإنسانية من حيث تحليل الحركة الفكرية، وعلاقة الجسم بالعقل، وقدرة العقل على فهم الحقائق، وحركة الفكر الذاتية (التأمل) ثم بحث النفس الإنسانية وهل لها وجود مستقل أو هي نتيجة لاتحاد القوى المدركة بالقوى المفكرة في الإنسان؟

ولما كانت هذه المباحث من المعضلات العويصة الحل اتخذ كل فريق من الفلاسفة لحلها طريقاً خاصاً، ففريق اعتمد على العقل وحده فانهدم صرح العقائد الموروثة، وعاد العقل يزنها بمقياس الاستقلال الفكري مستعينا بقوانين المنطق، ولكن التوى على جماعة العقليين قصدهم لان العقل بدأ يبحث نفسه، وتطرق الشك إلى كيفية حدوث الادراك، وإذ ذاك لم يجد الباحثون بدا من الالتجاء إلى الحواس والاعتراف بأنها طريق الادراك، وهذا اساس المذهب (التجريبي)، ومع ذلك قام من يثبت أن الحواس تقوم بعمل ميكانيكي، وان المخ في دائرة عمله في الحكم على ما تحمله إليه الحواس قاصر، وان هناك بجانبه وجدانا له انفعالات خاصة لا دخل للحواس ولا للعمل الفكري في أحداثها. ولذا قسموا العقل فقالوا بالعقل المدرك والعقل الملهم أو الخالص.

ويطول البحث إذا اتينا على حجج كل فريق، ولكن ما لا شك فيه ان للنفس البشرية وجودا مستقلا وارادة خاصة غير ما تبعثه فيها البواعث الخارجية ويصل إليها من طريق الحواس والذي يهمنا ان الفلسفة تحولت من اعمال الإنسان إلى أفكاره ومن تفكيره إلى ماهية نفسه. وهذا آخر مدى وصلت إليه الفلسفة الإنسانية.

واليوم تقوم فلسفة اخرى تبحث النوعين الرئيسين (الفلسفة الطبيعية والإنسانية) لا على انهما منفصلان، ولكن على اساس ايجاد الروابط التي تربط الإنسان بالطبيعة، ونتيجة هذا البحث الوصول إلى الغرض الاسمى الذي لم يستطع الإنسان منذ وجوده ان يظفر به لقصر تفكيره ونقص استعداده. وان اليقين بوجود الله من طريق العقل قد حل مشكلات الفلسفة قديما وحديثا. .

لقد ادرك الإنسان ان ما يراه من مظاهر الطبيعة لم يسخر له اعتباطا، وان القوانين الطبيعية التي لم يتطرق إليها الخلل لم توجد اتفاقا، وان صلة الإنسان بالطبيعة ضرورية، وان عظمة الخالق كما تظهر في سر الكهرباء والجذب تظهر في سر النفس وخلود الروح، وكما عجزنا عن تعرف ماهية القوة المسببة للحركة العامة للمادة. فما أحرانا أن نكتفي من بحث الروح باليقين بوجودها.

ان نوعا من الفلسفة لا يزال غير مطروق مع عظيم فائدته. . على الفلاسفة اليوم أن يتركوا بحث الإنسان فرداً فقد قام الإنسان بنصيبه من التفكير في أمر نفسه. ولكن عليهم أن يضعوا لنا فلسفة أجدى، وان يصرفوا جهودهم لبحث القوانين العامة التي يجب أن تربط المجتمع الإنساني. . إن فلسفة المجتمع هي الغاية التي يجب أن ننشدها لتتم سنة الارتقاء وهي الناموس الذي يحكم الطبيعة والإنسان؟

على محمد راضي