مجلة الرسالة/العدد 44/حوادث الشرق الاقصى

مجلة الرسالة/العدد 44/حوادث الشرق الاقصى

مجلة الرسالة - العدد 44
حوادث الشرق الاقصى
ملاحظات: بتاريخ: 07 - 05 - 1934



اليابان والجامعة الاسيوية

مبدأ مونرو اسيوي

للأستاذ محمد عبد الله عنان

منذ أسبوعين طلعت اليابان على العالم بتصريح في منتهى الاهمية والخطورة. خلاصته: (ارفعوا أيديكم عن الصين)، وهو بعبارة اخرى انذار من اليابان إلى أوربا وأمريكا بأنها اصبحت تعتبر من واجبها أن تحمي الصين من كل محاولة جديدة اوربية أو أمريكية في سبيل الفتح أو الاستعمار الاقتصادي، ومن حقها أن تستأثر بالتوسع السياسي أو الاقتصادي في انحاء الصين الشاسعة. ولا تخفى اليابان انها جادة في انذارها، وانها على اهبة لتأييده وتنفيذه بالقوة المادية، وفي نفس الوقت الذي تلقى فيه اليابان بهذا الانذار، نراها تقر اعتمادات حربية ضخمة لتقوية اسطولها الجوي، وتقوم بعدة مظاهرات عسكرية اخرى.

وقد اثار هذا التصريح الجرىء في جميع دوائر السياسة العليا دهشة عظيمة، ولا سيما في الدول ذات النفوذ والمصالح في الصين مثل بريطانيا العظمى وأمريكا وروسيا وفرنسا وايطاليا. ولم يتضح حتى الان موقف هذه الدول ازاء تلك الخطوة الجديدة التي تتخذها اليابان للحد من النفوذ الغربي في الصين. ولكن اولئك الذين يتبعون تصرفات السياسة اليابانية في الصين في الأعوام الثلاثة الأخيرة يدركون أن هذه الخطوة إنما هي نتيجة طبيعية لهذه السياسة التي فازت منذ عامين بالاستيلاء على منشوريا ووضعها تحت الحماية اليابانية، والتي ما زالت تتقدم في سبيل التوسع في الثغور والأراضي الصينية الشمالية والوسطى. واليابان تتخذ خطواتها وشئون السياسة الدولية في منتهى الاضطراب والتعقيد، والدول العظمى كلها مشغولة بمشاكلها الداخلية والخارجية السياسية والاقتصادية، ومن الصعب عليها أن تتفاهم أو تتفق بسرعة على اتخاذ خطة أو سياسة مشتركة ضد هذه السياسة اليابانية الجديدة التي تهدد نفوذها ومصالحها في الصين.

والنظرية اليابانية في مقاومة التوسع الغربي في الصين ترجع إلى فكرة اهم وابعد اثرا هي فكرة الجامعة الاسيوية، وشعارها (اسيا للأسيويين). وقد قويت هذه الفكرة بعد الحرب، حينما اشتد تنافس الدول الغربية على التوسع في الصين واستطاعت روسيا السوفيتية وبريطانيا العظمى وأمريكا أن تتدخل في شئون الصين تدخلا قويا مباشراً، وان تبسط كل نفوذها على مناطق واسعة في الصين، وحينما عمدت الدول في كل مناسبة وفرصة إلى ارسال اساطيلها إلى المياه الصينية بحجة: حماية مصالحها؛ ولما كان موقع اليابان الجغرافي في شرق الصين، مشرفة على تلك المياه الصينية التي تغزوها الدول كما شاءت، وكانت تبسط حمايتها ونفوذها على مساحات واسعة في الصين، في كوريا ومنشوريا وشانصي، فقد كانت السياسة اليابانية تنظر دائما إلى حركات الدول في الصين بمنتهى التوجس والريب، وكانت تتلمس السبل دائما لمقاومة الاستعمار الاوربي والأمريكي. وكانت حركة (الجامعة الاسيوية) تزداد نشاطا وقوة، وخصوصا كلما اشتدت الصيحة في أوربا وأمريكا بالتحذير من (الخطر الاصفر) أو بعبارة اخرى من نهوض الامم الاسيوية. وقد عقد اول مؤتمر رسمي للجامعة الاسيوية في ثغر ناجازاكي في صيف سنة 1926 وشهده مندوبون من اليابان والصين والهند وسيام وكوريا والفلبين، واستمرت السياسة اليابانية ترعى هذه الحركة وتغذيها مدى الاعوام الاخيرة، وقد عقد في فبراير الماضي في دايرين تحت رعاية الحكومة اليابانية مؤتمر (للشعوب الاسيوية) شهده مندوبون من الصين واليابان والهند وافغانستان وسيام وبلاد الملايو وغيرها من البلاد الاسيوية. واصدرت فيه قرارات بوجوب اتحاد الشعوب الاسيوية على العمل في سبيل مصالحها المشتركة الجنسية والسياسية وتحريرها من كل تدخل اجنبي، وسيدعى مؤتمر دوري للجامعة الاسيوية. وربما كانت اليابان ترمي من وراء هذه الحركة إلى انشاء عصبة امم اسيوية لتأييد غايات الجامعة الاسيوية.

مبدأ مونرو اسيوي

ولهذا الانذار التي تتقدم به اليابان إلى الدول الغربية صبغة مزدوجة؛ فهو يعني ان اليابان ستقاوم منذ الان فصاعدا كل محاولة تقوم بها الدول الغربية في سبيل التوسع في الصين، وثانيا ان اليابان ستكون مطلقة اليد في الصين تحقق فيها ما شاءت من خطط التوسع والنفوذ. وللناحية الاولى سابقة تاريخية في السياسة الدولية هي مبدأ الرئيس مونرو (رئيس جمهورية الولايات المتحدة)، الذي وضع منذ سنة 1823 ليكون شعارا لسياسة أمريكا الخارجية؛ واليك نص هذا التصريح الشهير الذي تطبقه السياسة الأمريكية منذ اكثر من قرن وذلك بعد الديباجة:

(ان القارتين الأمريكيتين بحكم حالة التحرير التي احرزتاها والتي تحتفظان بها يجب إلا تعتبر منذ الان فصاعدا قابلتين للاستعمار من جانب اية دولة اوربية، وعلى ذلك فانا نعتبر في المستقبل أي محاولة من جانب الدول الأوربية لبسط سلطانها السياسي على اية ناحية من نواحي هاتين القارتين خطرا على سلامتنا وسلامنا.

نحن لم نتعرض لاي مستعمرة أو ملك قائم فيها للدول الأوربية ولن نتعرض له، ولكنا بالنسبة للحكومات التي اعلنت استقلالها وحافظت عليه واعترفنا نحن به كحق ذي اساس عادل، لا نستطيع ان نعتبر أي تغيير يرمي إلى ارهاقها أو التحكم في مصايرها إلا بأنه ميل عدائي نحو الولايات المتحدة. ذلك انه يستحيل ان تبسط الدول المتحالفة نظامها السياسي في أي بقعة من هذه القارة دون تهديد سلامنا وسعادتنا. كذلك لا يستطيع إنسان ان يعتقد ان اخواننا في الجنوب إذا تركوا وشأنهم قد يقبلون هذه السياسة مختارين، ومن ثم كان من المستحيل ان ننظر إلى هذا التدخل في ذرة من التهاون والاغضاء).

ويمكننا ان نلخص مبدأ مونرو في كلمتين: (أمريكا للأمريكيين) أو (اتركو أمريكا) كما نستطيع ان نلخص الانذار الياباني في كلمتين (آسيا للاسيويين) أو (اتركو اسيا) مع هذا الفارق، هو ان اليابان تحدد في تصريحها منطقة معينة من اسيا هي الصين، أو الشرق الاقصى بصفة عامة، وقد فهم مبدأ مونرو في أمريكا وطبق خلال قرن من الناحية السلبية فقط. اعني من ناحية مقاومة التدخل الاوربي؛ ولكن السياسة الأمريكية وضعت في الاعوام الاخيرة تفسيرا جديدا لمبدأ مونرو، وهو انه إلى جانب حق أمريكا في قمع أي تدخل اوربي، يحق لأمريكا، وأمريكا وحدها

- أن تحتل أي بقعة من القارة الأمريكية متى رأت ذلك ضروريا لصون سلامها ومصالحها، وطبقت السياسة الأمريكية ذلك التفسير الايجابي الجديد لمبدأ مونرو في عدة حوادث معاصرة مثل تدخلها، في حوادث نيكاراجوا، واحتلال بعض اراضيها، وارغامها بناما على عقد معاهدة تعتبر شبه حماية، ثم تدخلها اخيرا في حوادث كوبا. وهذا هو نفس ما يعني التصريح الياباني من ناحيته الايجابية ترى اليابان من حقها دون غيرها من الدول ان تستأثر بالتوسع في الفتح في الصين.

وقد بدأت اليابان فعلا بتطبيق هذه السياسة منذ ثلاثة اعوام فوضعت خطتها للاستيلاء على منشوريا وتذرعت لذلك الفتح باعتداء العصابات الصينية على المنطقة اليابانية والسكة الحديدية الشرقية التي تضع يدها عليها واضطرارها إلى حماية المصالح اليابانية والرعايا اليابانيين من ذلك الاعتداء الذي عجزت عن قمعه السلطات الصينية. وحوادث فتح اليابان لمنشوريا ما زلت ماثلة في الأذهان فلسنا بحاجة إلى تفصيلها. غير انا نذكر في هذا المقام فقط اليابان ابدت منذ البداية عزمها احتلال منشوريا وامتلاكها فعلا، ولم تحفل بتدخل عصبة الامم لتلبية نداء الصين، ولم تقف لحظة عند أي القرارات التي اصدرتها العصبة لحسم النزاع كانتداب لجنة للتحقيق، والتوصية لوقف القتال، واعادة الحالة إلى ما كانت عليه؛ بل لبثت اثناء اشتغال العصبة بهذه الازمة الخطيرة ماضية في غزو منشوريا وافتتاحها حتى اتمت خطتها العسكرية، واستخلصت اقليم منشوريا كله، ثم انتهت بأن ضاقت بتدخل عصبة الامم، فأنسحبت منها لتكون حرة طليقة اليد والتصرف. ولم تقف اليابان عند افتتاح منشوريا بل هاجمت اثناء ذلك شنغهاي اعظم الثغور الصينية بحجة الاعتداء على بعض رعاياها واحتلت وكادت تنفذ إلى الداخل لولا ما ابدته الحكومة الوطنية الصينية من مقاومة شديدة وما انذرت به الدول من التدخل؛ ثم عادت فغزت اقليم شهلي شمال بكين، واحتلت عدة من قواعد واجتازت السور الكبير. كل ذلك لترغم الصين على الاعتراف بمركزها في منشوريا. وانتهت اليابان بأن جعلت منشوريا دولة جديدة بأسم دولة (منشوكيو)، واقامت عليها هنري بوي امبراطور الصين المخلوع، اولا رئيسا لجمهورية منشوكيو ثم امبراطور لها، وتم بذلك استيلاء اليابان على اعظم الاقاليم الصينية الشمالية واغناها، فإذا ذكرنا ان اليابان تملك من اراضي الصين شبه جزيرة كوريا وثغر تياتسين وما إليه، وبورت ارثر وتسنج تاو، وتحتل مناطق كبيرة في اقليم شانصي، استطعنا ان نقدر إلى أي حد بلغت اليابان في توسعها في الصين.

موقف الدول

وقد قلنا ان موقف الدول ازاء السياسة اليابانية الجديدة لم يتضح بعد، ولم يتخذ بعد صبغة رسمية. ولكن الذي لا ريب فيه هو ان الدول التي لها في مياه الشرق الاقصى وفي الصين مصالح عظيمة مثل أمريكا وبريطانيا العظمى وروسيا وفرنسا، ستقاوم هذه السياسة اشد مقاومة، وليس بعيدا ان تلجأ إلى الوسائل العنيفة إذا هددت املاكها أو مصالحها، وكما ان اليابان تقرن انذارها بالمظاهرات العسكرية وتقرير الاعتمادات الحربية الجديدة، فكذلك نرى انكلترا تقوم بمظاهرة بحرية في ثغر سنغافورة، ويعقد أمراء البحر الانكليز هنالك اجتماعا خطيرا للنظر في تعجيل الاعمال والاجراءات الخاصة باتمام قاعدة سنغافورة البحرية التي ستكون اعظم واقوى قاعدة بحرية في الشرق الاقصى، ونرى أمريكا تقرر اعتمادات مالية ضخمة لبناء سفن جديدة، وينتقل الاسطول الأمريكي من مياه الاطلانطيق ويجوز قناة بناما إلى المحيط الهادئ في اقل من يومين قياما بمظاهرة بحرية كبرى. وتحتج الدول ذات الشأن على لسان صحفها من الوجهة الدولية؛ بالمعاهدات المعقودة بين اليابان والدول بشان الصين، واخصها وأحدثها معاهدة الدول التسع التي عقدت على يد مؤتمر واشنطون سنة 1922 بين الولايات المتحدة (أمريكا) وبريطانيا العظمى وفرنسا وايطاليا واليابان والصين وبلجيكا وهولندة والبرتغال، وتنص هذه المعاهدة على احترام سيادة الصين واستقلالها ووحدتها الادارية والاقليمية، وعلى معاونتها على النهوض والتقدم بكل الوسائل، واستعمال الدول الموقعة لنفوذها في تأييد مبدأ الفرص المتساوية في النشاط التجاري والصناعي في الصين لجميع الامم، وعلى عدم انتهاز ظروف الصين للحصول على امتيازات خاصة، ومعنى ذلك اليابان ليست حرة في ان تحتل في الصين مناطق جديدة، أو تبسط نفوذها على مناطق جديدة، وليست حرة بالاخص في ان تستأثر وحدها بتنفيذ سياسة التوسع والاستعمار في الصين؛ هذا إلا إذا كانت تعتبر المعاهدات الدولية قصاصات لا قيمة لها.

وهناك غير هذه الدول الموقعة لمعاهدة واشنطون وروسيا السوفيتية؛ وهي من اعظم الدول مصالح في شمال الصين، واشدها اهتماما بسير السياسة اليابانية، وروسيا تجاور اليابان في منشوريا، وتشترك معها في امتلاك السكة الحديدية الصينية الشرقية، وفي امتلاك جزيرة سغالين، وتصطدم معها في شئون ومصالح كثيرة وقد ساءت علائق اليابان وروسيا في العهد الاخير بسبب استيلاء اليابان على منشوريا وانتزاعها القسم الروسي من السكة الحديدية الشرقية، وتهديدها بذلك نفوذ الروسيا في منغوليا، وقد كان لروسيا فوق ذلك في الصين الوسطى والجنوبية نفوذ عظيم منذ اعوام، وكانت اليابان من انشط الدول لمحاربته والقضاء عليه، والخصومة الروسية اليابانية قديمة في الشرق الاقصى، وترجع بالاخص إلى حرب سنة 1904 التي هزمت فيها روسيا أمام اليابان وفقدت بورت ارثر ثغرها الممتاز في الصين؛ وهي اليوم اشد ما تكون اضطراما. ولا تخفى حكومة موسكو انزعاجها من السياسة اليابانية الجديدة، واستعدادها لمقاومتها وحماية النفوذ والمصالح الروسية في الشرق الاقصى بكل ما وسعت.

موقف الصين

ثم هنالك الصين، وهي المقصود بتطبيق السياسة اليابانية الجديدة. وقد لبثت الصين مسرحاً للفتن والحرب الأهلية زهاء ربع قرن، والدول الغربية اثناء ذلك تعمل على انتهاز الفرص لتوسيع نفوذها ومصالحها، واليابان تجاريها في انتهاز الفرص. فلما اشتد التنافس بين الدول على استغلال الحوادث الصينية، عقدت فيما بينها معاهدة واشنطون سنة 1922 (معاهدة الدول التسع) لكي تضع حدا لهذا التنافس أو بعبارة اخرى لكي تنظمه، وقطعت الصين بعد ذلك ستة اعوام اخرى في غمار من الحروب الأهلية الطاحنة حتى قامت الحكومة الوطنية اخيراً (حكومة نانكين) لتوحد كلمة الصين إلى حد ما، ولتعمل على صون استقلال الصين والحد من التوسع الاجنبي. وقد بذلت الحكومة الوطنية في هذا السبيل جهوداً لا بأس بها، ولكن اختلاف الزعماء والقادة كان دائما يشل من هذه الجهود، ويفتح الباب لدسائس الدول الاجنبية وعدوانها المستتر بصور واساليب شتى، ولو كان الانذار الياباني متعلقاً بوقوف اليابان فقط في وجه المطامع الاجنبية في الصين، لما كان للصين كبير اعتراض عليه؛ ولكن اليابان لا تقف كما قدمنا عند هذه الناحية السلبية من سياستها الجديدة، وإنما تقرنها بادعاء حق الاستئثار بالتوسيع في الصين، وتقوم بتنفيذ هذه السياسة بطريقة فعلية منظمة منذ ثلاثة اعوام، اعني منذ غزوها لمنشوريا، ومعنى ذلك أن اليابان تريد أن تستأثر بفريستها - الصين - دون باقي الدول وأن تترك هذه الفريسة أمامها وجها لوجه؛ وليس بعيدا ان تكون اليابان قد وضعت خطتها لافتتاح الصين كلها والاستيلاء عليها اقليماً فأقليماً، وخوض معركة الحياة والموت مع الغرب والاستعمار الغربي.

ولا ريب ان الصين تنكر هذه السياسة ايما انكار، وسوف تقاومها بكل ما وسعت حسبما صرح به مندوبها لدى عصبة الام وسفيرها في لندن، ولا ريب انها ستعتبر بهذا الخطر الجديد الذي يهدد كيانها واستقلالها فتعمل لتوحيد كلمتها وتنظيم قواها؛ كذلك لا ريب في ان اليابان رغم قوتها ومنعتها وفيض مواردها، تقدم على مغامرة كبيرة محفوفة بالصعاب والمخاطر؛ ومن المشكوك فيه أن تستطيع اليابان أن تتحدى دول الغرب العظمى إذا اجتمعت كلمتها على مقاومة هذه السياسة، هذا إلى ما لابد ان تبذله الصين من الجهود الزاخرة لدفاع عن استقلالها وكيانها؟

محمد عبد الله عنان المحامي