مجلة الرسالة/العدد 44/في البحوث الروحية

مجلة الرسالة/العدد 44/في البحوث الروحية

مجلة الرسالة - العدد 44
في البحوث الروحية
ملاحظات: بتاريخ: 07 - 05 - 1934


6 - في البحوث الروحية

للأستاذ عبد المغنى على حسين

ما هو النوم؟ ثقل يداعب الرأس، ثم تطبق الاجفان، وينعدم الحس، وتهدأ حركة القلب، ويبطئ التنفس ويكون عميقاً، وتهبط حرارة الجسم شيئا قليلا. أما المخ فيتوقف جزء منه عن العمل، فيغيب ما يسمى بالعقل الواعي، وينفرد بالأمر العقل الباطن. والاحلام أكثرها أحاسيس، تغزو الجسم النائم من خارجه، أو تتولد في داخله، فتبرق بها الاعصاب إلى العقل الباطن، فيقرؤها بلغة قصصية رمزية، ويأخذ من سالف الذكريات، وكامن المخاوف والرغبات، فيكمل الاقاصيص، يحوك اطرافها. في الاحلام شواذ، ولكن اكثرها من هذا النوع.

هذا النوم الطبيعي، هدنة يتخذها العقل الواعي. وهناك نوم اصطناعي، هو المعروف بالنوم المغنطيسي، ظاهرة اكتشفها في القرن الثامن عشر طبيب ألماني يسمى مزمر وبأكتشافها انفتحت للاحتيال سوق جديدة، اتاها الدجاجلة يهرعون، من كل موفور الذكاء، منقوص الخلق، فأساءوا إلى العلم، وفوتوا على الإنسانية النفع، وفجع الرجل في اكتشافه، وساءت سمعته، وقضى على اساليبه. ولكن لما كان الشىء الحقيقي لا ينعدم، عاد العلم في أواخر القرن التاسع عشر فتناول الظاهرة المزمرية بالدرس الجديد.

في النوم المغناطيسي لا يغيب العقل الوعي من تلقاء نفسه، بل بتأثير ضغط يقع عليه من عقل آخر. فإذا نظر المنوم في عيني القابل للنوم، أحس هذا بعد حين بثقل في الجفون، ثم يغمض، ويفقد الحس، وتسترخي عضلاته، ويقع في سبات يختلف عن النوم الطبيعي فيما يأتي: -

1 - لا يكون العقل الباطن حراً مستقبلا كما في النوم الطبيعي بل يكون عبداً طائعاً للشخص المؤثر، يأتمر بجميع اوامره، ويتلقى منه كل فكرة كلها تنزيل. ويمكن تشبيه الجسم في النوم الطبيعي بمملكة غاب مليكها باختياره، وترك آلة الحكومة تدير نفسها، على أن يعود إذا استدعت الحال، أما في النوم المزمري فقد قهر الملك، وكبل عنوة بالاصفاد، فطبيعي أن تقع حكومته لعبة في يد القاهر. هذا تشبيه فقط، والذي يحدث على أي حال هو أن المتأثر يصبح للمؤثر أطوع من بنانه.

2 - لا يستيقظ المتأثر من سباته إلا بأمر من المؤثر، ولا يستيقظ من تلقاء نفسه ولو قطع اربا.

كيف يحدث هذا التأثير المزمري؟ لا تعرف الآن علة حدوثه على التحقيق، وخير ما يقال في ذلك هو أن الفكرة القوية تثير أمواجا كهرطيسية حادة تنتقل في الأثير، وان المؤثر عندما يحدق في المتأثر يصليه من هذه الموجات شواظا ينصب على مراكز الوعي في مخه فتتخدر. وقد استجدت بحوث تجريبية تشهد لهذا الفرض إلى حد ما، من ذلك ما أذاعه منذ شهور البروفسور فرديناند كازيمالي أستاذ الأمراض العصبية بجامعة ميلانو، من أن موجا كهرطيسياً يتشعع من الجسم البشري عند اضطراب النفس، وانه استقبل هذا الموج بآلة سينمية، فوجده، مما يؤثر في الاشرطة الحساسة.

مهما تكن العلة فالنوم المغنطيسي حقيقة واقعة، وهو أداة خطرة إذا أريد منه الشر والعبث، كما أنه نافع في علاج العادات الذميمة، وشفاء أمراض عصبية ليس سببها تلفا ماديا في الاعصاب.

هذان ظرفان يغيب فيهما العقل الواعي - ظرف النوم الطبيعي، وظرف النوم المزمري - ونود ان نتحدث عن ظرف ثالث، من الناس من تطرأ عليه حالة عصبية، فتعتريه تشنجات، ثم يفقد الحس، ويبدو كنه عقليته تغيرت، فيأتي من الاقوال والافعال ما ليس من عاداته، كان يدلي برغبات لم يكن يبوح بها، أو يوجه عنيف الكلام إلى أهله ومن هم موضع احترامه، ويحتج على إهانات تافهة لحقته ولا يكاد يذكرها أحد، ثم ينتفض فيعود إلى نفسه، ويدور بعينه فيما حوله ومن حوله، لا يدري ما حدث، ولا يذكر حرفا مما قيل.

تشاهد هذه الظاهرة، وتفسيرها سهل، لأن كل ما يلفظ المريض من قول لا يتعدى سابق اختباراته، والطبيعي من رغباته، فالمسألة إذن ثورة داخلية، يتغلب فيها العقل الباطن على العقل الواعي، ويحكم برهة حكم طيش واضطراب، ثم يهبط ثانية إلى مستقره، ويعود العقل الواعي من غيبته. هذه الظاهرة مرض عصبي، يضمه الطب إلى أنواع الهستيريا، وسببه رعب أصاب الشخص في طفولته أو نحو ذلك، فاختل التوازن بين قوى أعصابه، وغدا عقله الواعي مزعزع السلطان.

تلك حالات ثلاث يغيب فيها العقل الواعي. ولكن الحال الثالثة (الهستيريا) ليست من البساطة كما ذكرنا. فمن هذا النوع أمثلة نادرة وعجيبة. أمثلة لا تدخل في الحقيقة في اختصاص الطب، لأن صاحبها لا يشكو مرضا، تأتيه النوبات من غير ألم، ويتحدث اليك في ذهوله حديثا هادئا متزنا من غير انفعال، زاعما انه شخص آخر غير نفسه، قد يكون امرأة فتنتحل في ذهولها شخصية رجل، أو العكس، وقد يكون صغيرا فيحدثك حديث الكبير أو العكس، فإذا عاد إلى نفسه لم يتذكر شيئا مما كان، وإذا عاودته النوبة برزت شخصيته الثانية بذاكرتها الخاصة، وخبرتها الخاصة، وحكمها الخاص على الأمور، وأذواقها وميولها الخاصة، وتبدأ حديثها معك من حيث انتهيتما في المقابلة السابقة، وبالاختصار تشعر انك تعاشر شخصين مستقلين أحدهما أساسي والآخر يأتي في الفينة بعد الفينة.

هذه الحال يعرفها علماء النفس، ويسمونها الشخصية المزدوجة ويصح ان يتكلفها البعض لغاية في نفس ولا سيما إذا كان من ورائها كسب، ولكن إذا شوهدت في أسرة لا تتجربها، كما هو الحال اللادى كونان دويل أرملة سير آرثر كونان دويل المؤلف الانكليزي المعروف والباحث الروحي الكبير، فالدجل غالبا لا محل له، وقد خبرت هذه الحال في فتاة كانت في سن لا تعرف التكلف إلى هذا الحد، وما كان لها فيه مآرب. أما الشخص الذي يرزق هذه الخاصة فسوء الظن به واجب، وامتحان يتحتم. ومن وسائل امتحانه أن تأتيه من الخلف على حين غرة وتغرز في جسمه إبرة، فأن كان متكلفا فسيفزع من غير شك مهما كان جلدا. وقد وجد الباحثون أن من هؤلاء الناس من تضربه الإبرة من الخلف مفاجأة (بمعرفة طبيب) وهو ماض كأن شيئا لم يحدث، فهو في ذهول حقيقي. ولما كان جمهور الناس يعجز عن التفريق بين الحقيقة والدجل، فالارتزاق بهذه الخاصة ومثلها يؤدي إلى فوضى ومآس خلقية، وتحريمه واجب من غير شك.

ما تعليل هذه الظاهرة العجيبة، ظاهرة الشخصية المزدوجة؟ ليس لدى علماء النفس تعليل لها، ومن يتصد لتعليلها منهم يستعر لها علة الهستيريا، ويعتبرها تبادلا للسلطة بين العقلين الواعي والباطن، ولكن في سلم وهدوء. أما اتزان الشخص في ذهوله، واكتمال شخصيته الثانية، وما قد تنم عنه أحيانا من سمو وسعة علم وتهذيب يفوق بكثير مستوى الشخص الاصلي، فيعزونه إلى أن العقل الباطن بحر لا يعرف بعد مداه، ولا ما قد يحوي من علم وخلق كامنين، اتياه من طريق الوراثة، أو تجمعا فيه بطريق التلباثي ولكن عددا من الباحثين الذين انقطعوا لدراسة مثل هذه الظاهرة يذهبون إلى تفسير آخر، وهو أن الشخصية الثانية روح مستقلة عن الشخص الاصلي، تستطيع بكيفية تشبه التأثير المزمري أن تنميه، وتتسلط على عقله الباطن، فيكون أداة اتصال بينها وبيننا ويزعمون أنه بهذه الوسيلة يمكن وأمكن التخاطب مع أرواح الموتى. فما يسميه علماء النفس بالشخصية المزدوجة يعتبره هؤلاء الباحثون نوعا من الوساطة الروحية، ويسمونه وساطة الذهول

يتضح مما سبق أن الخلاف على تعليل هذه الظاهرة العجيبة كبير، وأن الباحثين حيالها شيع ثلاث.

فهناك المطمئنون إلى تركها شاغرة من غير تعليل، لفرط غموضها ولكن ليست هذه بالروح العلمية، إذ الواقع أن تعليلا خاطئا خير من لا تعليل، فهو يفتح باب البحث على الاقل، ويقود يوما ما إلى التعليل الصحيح.

وهناك الذين يعزونها إلى العقل الباطن، وهو رأي يستمد قوته من المحافظة على المذهب المادي، وتلافي كل افتراض روحي وفيما عدا ذلك لا يوجد ما يؤيده.

وهناك القائلون بالفرض الروحي، وهؤلاء يبنون أقوالهم على درس وتجريب طوال نصف قرن أو يزيد، وفيهم رجال يزنون القول ويقدرون المسئولية، مثل سر اليفر لدج، فنفى أقوالهم ليس باليسير، سيما إذا كان النفي من غير اختبار.

عبد المغنى على حسين