مجلة الرسالة/العدد 441/مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية
مجلة الرسالة/العدد 441/مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية
نداء المجهول
للدكتور زكي مبارك
التعاون بين الأدباء العرب - شخصية محمود تيمور - درس
الطبقات الفقيرة هو أسهل الجوانب في الدراسات النفسية -
فتنة المستشرقين - الولد سر أبيه - وهو أيضاً سر أخيه -
صدق محمود تيمور يتمثل في (نداء المجهول).
الأدباء العرب
حديث اليوم عن (نداء المجهول) للأستاذ محمود بك تيمور، وتطلب الطبعة الثانية من مكتبة المعارف بالقاهرة، وثمنها عشرة قروش.
ورعاية للوفاء نذكر أن هذا الكتاب طبع أول مرة في بيروت بعناية (دار المكشوف)، وقيل في المقدمة إن نشره هنالك (برهان جديد على السعي الجدي في سبيل التعاون بين الأدباء العرب) - وهذا حق - فإخواننا في فلسطين وسورية ولبنان والعراق ينتهزون جميع الفرص لتوكيد صلات الإخاء بينهم وبين زملائهم في الديار المصرية، وتلك عاطفة بذكرها المصريون بالحمد والثناء، ولا يعلم إلا الله مقدار الاستيحاش الذي عانيناه يوم قضت الحوادث منذ أشهر بانقطاع البريد بيننا وبين تلك البلاد.
شخصية محمود تيمور
كنت أشرت وأنا أتحدث عن الأستاذ إبراهيم المازني إلى أني سأضع الأستاذ محمود تيمور فوق المشرحة - وكذلك صنعتُ - فكتبت عنه مقالاً يؤذيه بعض الإيذاء، ثم مزقت ذلك المقال حين تذكرت أن محمود تيمور لم يشترك قبل اليوم في المعارك الأدبية، ولم يتعود دفع النضال بالنضال، وما يجوز ذوقاً أن نهجم على رجل لا يفكر في الدفاع.
ولكني مع هذا مسئول أمام قرائي، ومن الواجب أن أحدثهم عن رأي في أدب مح بلا مواربة ولا رياغ، وهل من الحتم أن نعلن الحقيقة بعنف، ونحن تملك إعلانها برفق؟ سأقول كل شئ في محمود تيمور بدون أن أعرضه للضجر والامتعاض، إلا أن يغضب من الحق، كما يقع لبعض الناس فمن محمود تيمور؟
هو شخصية ساهية لا ينم مظهرها على شئ، إلا بعد التأمل والتدقيق، كأن يذكر المتوسم أنه كاتب معروف، ولابد أن تنطق معارف وجهه بأشياء، وفي الناس من لا ينطق إلا إن أنطقناه بالعنف أو باللين.
وعند التفرس في وجه محمود تيمور نرى أنه (وَلدٌ واعي) كما تقول العبارة البلدية، وهو في الواقع غاية في الوعي. وسحنته الساهية تؤيد المثل الذي يقول (تحت السواهي دواهي)، وهذا أجمل ثناء يقدم إلى هذا الرجل الحصيف.
والدليل على أن محمود تيمور داهية هو إقباله على فنه الأدبي بطريقة جدية من حي لا يشعر أحد بأنه من أصحاب الأهداف، فمنذ أكثر من عشرين سنة وهو يفكر ويكتب بنظام لا يعرف الملال، وقد يتفق له في أحيان كثيرة أن يهيم في شوارع القاهرة بلا غرض ظاهر، فهل يصنع هذا الصنع إلا ليستوحي القاهرة ويتعرف إلى شمائل الناس في الغدو والرواح؟ الرأي عندي أن ذلك هو حاله في جميع ما عرف من البلاد، فأقاصيصه تشهد بأنه ينقل عن عيان لا عن سماع.
ويحدثك ناس أنهم زاروا محمود تيمور وسامروه، وأنهم سألوه عن كيت فأجابهم بذيت، وتنظر فتجد بعض أولئك من ذوي الغفلة العقلية، فما غاية هذا الرجل من الترحيب بأمثال أولئك الناس؟ ما غاينه وأكثرهم يتوهمون أنه تلميذهم المطيع، وأنه سيمنحهم نعمة الخلود في ظلال العقل، لا في حظائر الخبال؟
محمود تيمور له غاية من صحبة من لا يمتون إليه بصلة نفسية أو ذوقية، وغايته هي درس الغرائز والأحاسيس فيمن يلقي من الناس، ولو كانوا من الأوشاب.
ألم أقل لكم إن تشريح أجسام الضفادع لا يقل قيمة في نظر العلم عن تشريح أجساد الأسود؟
ولكن هذا الدهاء لم يمض بلا جزاء، فاهتمام تيمور بدرس النفوس الصغيرة حرمه نعمة التحليق في الجِواء السامية، فمن النادر أن نراه يلتفت إلى المخاطر التي تصاول كبار النفوس.
وأندر من ذلك أن نراه يهتم بتصوير الأزمات التي تصارع كبار العقول. وهل تخطر هذه الأشياء على بال وهو لا يتمرس بالجانب الوعر من صخرة الوجود!
محمود تيمور يهتم بدرس الطبقات الفقيرة، مع أنه (ابن ذوات) فما سبب ذلك؟
أكاد أجزم بأنه يختار الجانب الأسهل من الدراسات النفسية؛ فالفقير ينفض همومه بين يديك حين تحادثه لحظة زمان، أما الغني فيطوي همومه عن جميع الخلائق، وقد يلهو ويلعب وبين ضلوعه نيران تأكل الجبال.
الغني يعرف عن الفقير كل شئ، لأنه يراه في كل وقت ممثلاً في الخادم أو السائق أو الصانع أو الفلاح، ومن إلى هؤلاء من تقوم على كواهلهم قواعد المجتمع، وهم لسذاجتهم ينطقون بما يشتجر في صدورهم من آلام وآمال. ولو شئت لقلت إن الفقير يتحدث عن كل شئ، حتى الدسائس التي يحوكها عقله الضيق، والحيل التي يصوغها ذهنه الكليل.
فهل تحتاج متاعب هؤلاء إلى كاتب فنان؟
تمد يديك لمعاونة امرأة فقيرة على ركوب الترام فتهتف:
(الله لا يغلّب لك ولية)
وهي كلمة لا يهتف بمثلها الغني ولو أنقذته من أنياب القضاء في تهمة تبديد
محمود تيمور رجل هادئ أو كسلان، وإلا فكيف جاز أن يقضي عشرين سنة في صحبة القلم بدون أعداء؟ وكيف يعادي رجل لم يستطع قهر الجمهور على درس إحدى المعضلات؟!
هو طبيب في يده مشرط، ولكن مشرط (هذا) الطبيب صورة ثانية من المرسوم فوق صفحة من كتاب!
وذلك مصير كل كاتب يهتم بإرضاء الجهلاء المتعالين، وهم دعاة الموت، أو هم الأموات وإن تردوا بأردية الأحياء
فمتى ننقل تيمور إلى صفوف المكافحين لنضع في دمه شيئاً من الحديد؟
فتنة المستشرقين
محمود تيمور من أكابر العقلاء، ولكنه مهدد بأحد الأخطار المواحق ومن البر بصديقك أن تبذل في نصحه ما تملك، وهذا الرجل من أعز أصدقائي، فأنا ماض في نصحه بلا تحفظ ولا احتراس.
صديقنا (تيمور) مفتون بالمستشرقين، وما أريد بهم الجماعة التي تعني بدرس حياة العرب قبل الإسلام، أو الجماعة التي تدرس حياة العرب في عصر النبوة، أو الجماعة التي تدرس حياة المدنية الإسلامية في عهود العباسيين والأمويين، أو الجماعة التي تدرس ما صار إليه أدب العرب بعد سقوط بغداد، أو الجماعة التي تدرس العقلية العربية فيما سيطرت عليه من الممالك الأوربية. ما أريد هذه الجماعات العلمية، فمحمود تيمور لا يلتفت إلى هؤلاء العلماء، وإنما يلتفت إلى المستشرقين المشغولين بدرس الأدب العربي الحديث، وهم شبان على جانب ضئيل من التحصيل ولا يهمهم غير البريق
وأنا أعرف هؤلاء الشبان، وأعرف غرضهم القريب والبعيد. همُّ هؤلاء الشبان أن يوحوا إلى أبناء العرب أن مصير اللغة العربية مصير اللغة اللاتينية سواءً بسواء، وقد تفرعت اللاتينية إلى لهجات، فما الذي يمنع من أن تتفرع العربية إلى لهجات؟ وهل يكون ما بين مصر والشام والعراق من وشائج أقوى مما كان بين الفرنسيس والطليان والأسبان؟
يجب أن تحرص كل أمة من الشرق العربي على وجودها الذاتي بحيث يصيح لكل أمة لسان، وإلا فهي أمم متأخرة لا تنصاع لقانون التطور، وهو قانون!!!
وهؤلاء من المستشرقين يسرهم أن يسجلوا أن أول من كتب العامية بحروفها النطقية هو فلان، والأستاذ محمود بك تيمور يسره أن يكون ذلك الفلان.
ألم تقرءوا المسرحيات التي نشرتها مجلة (الحوادث) منذ أسابيع، مع تقديم لطيف يشير بجعل العامية لغة الأدب المسرحي في هذه البلاد؟
هذا الصنف من أهل (الاستشراق) له تأثير سيئ في حياتنا الأدبية، وهو يظلل الجمهور أشنع تضليل. ألا ترونه يقدم ويؤخر في أقدار الأدباء، مع أن نقاد الأدب في بلاد العرب هم أصحاب الحق الأول في تقويم الآثار العربية؟
منذ أعوام نشرت جريدة (باري سوار) مقالات دمية عن (ليالي القاهرة)؛ ورأت الحكومة المصرية أن تمنع تداول تلك الجريدة في مصر بسبب تلك المقالات، فما قصة الكاتب الذي قال في (ليالي القاهرة) ما قال؟
هو أديب فرنسي قدم القاهرة ولم يزر غير الحانات، فكان نصيبه نصيب المستشرق الذي زار مصر ولم ير غير الأدباء المفتونون باللغة العامية، وهم بشهادة أنفسهم من المتخلفين عن رعيل أهل الفكر والبيان.
والخطر الخوف من مذهب محمود تيمور يرجع إلى أنه رجل محترم، فهو من أدبائنا الكبار بلا جدال، وإقباله على التعبير بالعامية ستكون له عواقب سود، لطف الله به وهداه!
في مَدَى أربعة عشر عاماً لم يجرؤ واحد من الأثمة على كتابة العامية العربية بالحروف النطقية، كما صنع محمود تيمور في المجموعة التي نشرتها مجلة (الحوادث)، وهي مجموعة تشهد بأنه انقاد لفتن المستشرقين أبشع انقياد، وسيهوى بها في قاع جهنم ألف خريف.
الولد سر أبيه
أترك هذا الجانب الشائك، وأنتقل إلى شرح مسألة طال حولها الخلاف، وهي البعد بين تيمور الأب وتيمور الإبن، فجمهور أهل النقد يرى أن محمود تيمور يسير في طريق ينكره أحمد باشا تيمور، وكان هذا الباشا من أكابر أهل البحث والتحقيق
وأسارع فأقرر أن (محمود) سر أبيه في اللغة وفي القَصص، ولكن كيف؟
ألف تيمور باشا رسالة في اللغة العامية، ولهذا المنحى من التأليف مدلول، فهو يشهد بأن ذلك الباحث العظيم كان يرى أن اللغة العامية خليقة بـ (ردِّ الاعتبار)، فهي لغة فصيحة لا ينقصها غير الإعراب، وليس الإعراب شرطاً في البيان إلا عند خوف اللبس والغموض.
وقد ورث محمودٌ عن أبيه هذه النزعة مع شيء من الانحراف أغراه به صنائع المستشرقين.
ومحمود سر أبيه في القصص، ولتوضيح هذه النقطة الدقيقة أقول:
مؤلفات تيمور باشا تغلب عليها النزعة القصصية، وإن كانت في الأغلب من فنون البحث القائم على الأسانيد.
هل قرأتم كتاب تيمور باشا عن (أعيان القرن الثالث عشر)؟
قد تقولون: إن الأخبار الواردة في هذا الكتاب منقولة عن الواقع لا عن خيال؛ وأقول: إن تلك الأخبار الواقعية فيها نزعة خيالية، وهل كانت القصة الجميلة غير حكاية صحيحة؟
تيمور باشا لم يخترع ما في كتابه من حوادث، ولكن أسلوبه في تخير الحوادث يشهد بأنه مبدع أقاصيص
وما الغرض من القصص؟
للقصص غرض واحد: هو إنطاق الحوادث بما كان يجب أن تقوله لو نطقت، وهذا درس أقدمه لبعض الخلائق بالمجان
ولتيمور باشا كتاب عن أبي العلاء، فإن قرأتم ذلك الكتاب، فستعرفون أن المؤلف يرى الناحية القصصية أساس التأليف.
والولد سر أخيه
لمحمود تيمور أستاذ هو أخوه محمد تيمور، وكان هذا الأخ مفتوناً بدرس الملامح البلدية، وكتاب (ما تراه العيون) يؤيد هذا الفتون.
كان محمد تيمور فتى تذوق أفاويق الحياة في باريس. ويقول من رأوه إنه كان من نوادر أهل الجمال، وشاءت لوذعيته أن يشترك في بناء المسرح المصري بالتأليف والنقد والتمثيل. ولا أزال أذكر كيف كنت أتعجب من مثل قوله على صفحات جريدة (المنبر) وهو يبدي إعجابه بأحد الممثلين: له ثنائي وقبلاتي! ولو رجعنا إلى مقالاته في النقد المسرحي لوجدنا الإعجاب لم يكن له صورة في قلمه غير العناق!
فماذا ورث محمود عن محمد تيمور؟
ورث عنه النظرة إلى الحياة الشعبية، ولم يرث عنه النظرة إلى السريرة الأريستوقراطية، ولو عاش محمد تيمور لصار من أكابر الشعراء في حدود تفتن أهل هذا الجيل
ولكن محمود تيمور له موهبة لم يظفر بمثلها أخوه، وهي الصدق في الوصف، الصدق الصادق الأمين، فما قرأت شيئاً لمحمود تيمور إلا أدركت أنه يختزن ما يشاهد من الأحلام والأوهام ليزود به قلمه الوصاف.
نداء المجهول
ويتجلى فن محمود تيمور في قصة اليوم، وهي: (نداء المجهول) وأي قصة؟
قرأتها في جلسة واحدة، مع أنها تقع في أكثر من مائة وستين صفحة؛ ثم تلفت إليها في اليوم التالي فاشتهيت قراءتها من جديد.
لم أقيد على المؤلف غير غلطتين اثنتين: الأولى تنويهه بأن الفندق الذي نزل لم يكن يمانع في أن يجلس الزائرون على المائدة بالملابس البلدية، وكان هذا غلطاً لأن حوادث القصة تقع في سنة 1908 وفي قرية من قرى لبنان ليس فيها غير ثلاثة بيوت، وليس من المعقول أن يكون لمثل تلك القرية في ذلك الوقت تقاليد إفرنجية.
أما الغلطة الثانية فهي أفظع، ولكن كيف؟
هام بطل الرواية بفتاة إنجليزية، فأنست به واطمأنت إليه، وقالت لنكن صديقين، ثم شاء لها الدلال أن تقول: إنها امرأة بلا قلب.
وهنا يذكر بطل الرواية أنه شعر بالخيبة والإخفاق
ولو تأمل هذا (البطل) لعرف أن ذلك إغراء
وكيف يعرف وهو محمود في سنة 1908؟ وهل كان في ذلك الوقت غير طفل لا يعرف طبائع النساء؟
نقد رفيق
قد أتعصب لمصر إن جبل لبنان لم يظفر بوصاف في قوة محمود تيمور، ولكن أخانا تيمور أخلف الظن في فهم لبنان بعض الإخلاف، وهل تكون الأخلاق اللبنانية في مثل ذلك الاتساق الرتيب؟
(الشيخ عاد) نبيل الأخلاق من أول يوم إلى آخر يوم و (الدليل مجاعص) سخيف من أول يوم إلى آخر يوم.
و (حبيب) خادم الفندق أبله في جميع الأوقات
و (السائح المصري) لم يقدر على استغواء (سائحة إنجليزية) شرح الله ولا شرعك، يا تيمور!
أما كان في مقدورك أن تلون الحيوية في أخلاق أولئك الأبطال؟
أما بعد فهذه (رواية) لم يكتب مثلها كاتب في الموضوع الذي صيغت فيه، وقد اشتهيت أن تكون هذه الرواية من وحي قلمي على شرط التحرر من أخطاء كاتبها المفضال!
وهل تعاب الرواية من أجل غلطة أو غلطات؟
ألا يكفي أن المؤلف استطاع أن يقنعنا أنه البطل بحق وصدق؟ زار كثير من المصريين لبنان، وفيهم أدباء فضلاء، فهل كان فيهم من استمع لـ (نداء المجهول) على نحو ما استمع هذا الفنان؟
ثم أما بعد فلطلبة السنة التوجيهية أن يعرفوا أن رواية اليوم رواية وصفية من جميع الجوانب، فهل يعرفون أين يقم ضرام التشبيب في تلك الصفحات؟
ما المرض الذي كان يساور (مس إيفانس)؟
وما السبب في تخاذل (الأستاذ كنعان)؟ وما وجه السخرية من نزعته العلمية؟
وكيف سخر المؤلف من بعض الأوضاع والتقاليد؟
لم أقل شيئاً، مع أني قلت كل شئ، ولكن كيف كان ذلك؟
أجيبوا أيها الفتيان النجباء
زكي مبارك