مجلة الرسالة/العدد 442/على ذكرى (عيد الميلاد)

مجلة الرسالة/العدد 442/على ذكرى (عيد الميلاد)

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 12 - 1941


بعد ثلاثة أيام تتجدد ذكرى (مولد المسيح) فيقف أبناء (قابيل) آلة الحرب؛ ثم يخرون جاثين لله في الثكنات والمطارات والبوارج والخنادق والمخابئ والكنائس يرتلون حاسرين نشيد السلام المأثور:

(المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام!)

فإذا أصبحوا انقلبوا سراعاً إلى آلات الفناء فأرسلوا منها الصواعق على إخوانهم الذين هتفوا معهم بالمجد لله في السماء، وبالدوام للسلام على الأرض! فسحقوهم أو أحرقوهم على رمال لوبيا، وفوق ثلوج روسيا، وبين أطباق الهواء، وتحت أعماق الماء؛ كأنما اختلت الدنيا، واختبلت الناس، وانقلبت المعاني، فصار الدين معناه الكفر، والسلام معناه الخصام، والمفاوضة معناها الختل، والمعاهدة معناها الغدر، والأخوة معناها العداوة؛ وأصبح هذا الكوكب بقاراته ومحيطاته وسكانه كرة من النار تتقاذفها الأرجل الحديدية بين فريق هتلر وموسولينى والميكادو، وفريق تشرشل وروزفلت وستالين. ولا يدري إلا الله من سيقذفها في (الجول)؛ وما الجول هنا إلا عبودية الأبد أو حرية الأبد!

كان العالم المسيحي في مختلف أقطاره يجدد بعيد الميلاد ما أنطمس في نفسه من معاني المودة والرحمة والأسرة والطفولة، فيصل بالتزاور ما انقطع من أسباب القرابة، ويؤكد بالتهادي ما وهي من عرى الصداقة؛ وكان الميكادو على وثنيته يقوم بدور الشيخ الطيب (نوبل)، فيحمل اللعب من اليابان بأبخس الأثمان إلى كل بيت فيه طفل؛ فلما صُلِبت المسيحية في أوربا على صليب النازية المعقوف، انتكست الطباع وانعكست الأوضاع، وانكفأ بعض الشعوب إلى البربرية الأولى، يغالبون بعصبية الجنس، ويسودون ببأس الحديد. وجامل الميكادو في الشر كما جامل في الخير، فترك دور الشيخ (نوبل) وقام بدَور الأب (فويتار)، فاستبدل بلعَب الأطفال من صور الدبابات والطائرات والسابحات، قطعاً كالجبال من الحديد والبارود تدك مدائن البر، وتبتلع جزائر البحر، وتشعل النار فيما بقى من أطراف الأرض، حتى أوشك أن يجاوز الصواب قول الفلكيين إنها كوكب مظلم!

بعد ثلاثة أيام تعاود الناس ذكرى ليلة الميلاد وهم من تفاعل المذاهب والقرون في رجفة من الصراع الماحق توشك أن تقيم عليهم القيامة. وسيذكر الشباب المجندون لمجالدة الحق أو مجاهدة الباطل أنهم كانوا في مثل هذه الليلة أمام المواقد أو حول الموائد قرة عيون وزينة بيوت، وأنهم في هذا اليوم يستقبلون عيد الحياة وهم مشردون في مجاهل الأرض ومساقط الموت لا يعرفون متى يصرعون ولا أين يقبرون. ثم يقول هذا الشباب الريَّق الريان لنفسه: أبعد الترتيب والتهذيب والعيش الناعم والأمل الباسم والغد المرجو نصير طحيناً لهذه الرحا الهائلة من غير سبب موجب إلا نزوة من نزوات الطيش، في رأس رجل من طلاب العيش؟!

أما الستة الذين يحاولون أن يقرروا مصير العالم على مشيئة الله أو على هوى الشيطان، فسيذكرون بمولد المسيح أشياء أُخَر: سيذكر هتلر بيلاطس وديقليانوس، والدتشي يهوذا ونيرون. وسيذكر رزفلت بولس، وتشرشل قسطنطين؛ أما استالين إن ذكر فسيذكر لوثر؛ وأما الميكادو فلا يذكره العيد معنى من حياة المسيح، ولا مغزى من تاريخ المسيحية؛ إنما يذكره تلك اللعب التي كان يقدمها إلى لهو الأطفال ليربح من ورائها القروش، فأصبح اليوم يقدمها إلى قتل الرجال ليربح من ورائها الممالك!

سبحانك ربَّ السموات والأرض! ما كان لنفس مؤمنة أن تحسبك تركت أمر هذا العالم لهؤلاء الحمقى من خَلقك.

لا جرم أن لك من هذه القارعة الصغرى حكمة تدق على بصيرة ابن آدم

إن مع القيامة نشوراً أكمل وحياة أفضل. كل نظام سنه ابن العاصي سيتغير، وكل قانون نزغ فيه الشيطان سيلغى. لن يبقى يا مولاي غير شرعك، ولن يدوم غير دينك

وكَلْت ابن آدم إلى نفسه فجرب قواه كلها في تدبير أمره وتسخير غيره، فما أنتج غير الاضطراب والخراب والفوضى.

تبجح بعلمه وتشريعه وفلسفته؛ وزعم أنه هيمن على الغريزة بقوة الخلق، وسيطر على الطبيعة بسلطان العلم، وتوهم أنه يستطيع بما كشف من الأسرار وذلل من القوى أن يصنع مفاتيح الغيب ويقتحم أبواب القدر؛ فلما ابتليته بتحقيق زعمه وتطبيق فهمه، تحرك في طبعه الطين الراسب، وتيقظ في نفسه الحيوان الراقد، وتألبت الأهواء على رأيه فاضطرب وتفرق، وتغلبت المطامع على جمعه فتنازع وتمزق!.

رباه إنا مؤمنون، وإنا مطمئنون! فأدام علينا نعمة الهداية، واكفنا شرّ هذه الغواية، واجعلنا الإدلاء على طريقك، والأمناء على حقك، حتى تنجلي هذه الغمة عن الدنيا، فيرجع إليك النوى، ويخضع لك القوى، ويلوذ بك الضعيف!

احمد حسن الزيات