مجلة الرسالة/العدد 443/علماؤنا يعودون إلى المجتمع

مجلة الرسالة/العدد 443/علماؤنا يعودون إلى المجتمع

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 12 - 1941



لأزهري الكبير

. . . وأخيراً حققت الآمال العظيمة التي طمح إليها دعاة الإصلاح في مصر والشرق الإسلامي، وتوِّج هذا الجهاد الحافل بالفوز والتوفيق، فأنصت الأزهر لهذه الدعوة الصارخة، وآمن بها، وأخذ يضيف إلى تاريخه التليد صفحات طريفة مجيدة. فمنذ أسابيع قرأنا إن عضواً بارزاً من جماعة كبار العلماء قدم إلى الجماعة اقتراحاً جديداً تشيع فيه الرغبة الصادقة في توجيه الثقافة في هذه الجامعة العظيمة وجهة جديدة صالحة تجمع بين أمرين عظيمين:

الأول: بعث روح الإنتاج العلمي، والاضطلاع بأعبائه في شتى فروع الثقافة الدينية.

الثاني: العناية بشؤون المجتمع؛ وبحث مشكلاته الخلقية والاجتماعية والاقتصادية وبيان موقف الدين الإسلامي حيالها.

ثم علمنا أن هذا الاقتراح يشق طريقه نحو التنفيذ، فأيقنا أن الأزهر مصمم على السير إلى أبعد غايات الإصلاح، مؤمن بتوفيق الله ورعايته.

ولا يخالجنا شك في إن الجماعة - وقد ضمت عناصر جديدة ممتازة - ستظفر بتحقيق هذه الآمال، وستكتب في تاريخ الأزهر الحديث أروع الصفحات. وليس هذا على الجماعة بكثير فقد عنى بها الأستاذ المراغي عناية كريمة فآثر بعضويتها أولى الكفايات من العلماء الحريصين على مسايرة الحياة إلى أسمى غاياتها، وتوجيه الحياة الاجتماعية بنور الدين وهدايته.

إن المجتمع في حاجة إلى الأزهر، والأزهر في حاجة إلى المجتمع، ولا ريب في أن اتجاه علمائنا نحو المجتمع وبحث شئونه ومشاكله ستجعل الناس على بينة من دينهم، وتهديهم إلى سبل الخير والفضيلة والرشاد.

لقد مضى زمن الجدل في العقائد، والبحث النظري في القشور دون اللباب، وسئمنا الكلام في المياه التي يجوز بها التطهير والتي لا يجوز، وفي إثبات كرامة الأولياء ونفيها، وفي طبقات السماء أمن فضة هي أم من ذهب، إلى غير ذلك؛ وهانحن أولاء نشاهد إشراق عهد جديد يشارك فيه علماؤنا الناس، وينزلون من عزلتهم التقليدية إلى حيث يسير الناس وتتحرك الحياة، ويضمنون شؤون المجتمع ومشاكله نصب أعينهم، ويقفون منه موقف الناصح الأمين.

ولعمري لقد ملئ الإيمان قلوب الناس، بل وعقولهم يوم كان الدين روحاً وعقيدة وخلقاً وعملاً. ولم يمتحن المسلمون بأعظم من الجدل في العقيدة والخلاف في الدين، حتى انحل ما كان معقوداً من ألفتهم، وخمد ما كان متأججاً من روحهم. ولقد ظهر الغزالي في عصر مفعم بالفتن والاضطرابات والجدل والخلاف، فدعا الناس إلى دين الله بلغة العاطفة والقلب حين رأى الدعوة إليه عن طريق الخصومة والجدل داعية فتنة وثائرة ضلال؛ ولكن الغزالي يأس من المجتمع لأنه كان يود أن يراه مجتمع ملائكة أبرار لا مجتمع شياطين أشرار، فزهد في الحياة، وعزف عن المجتمع، واعتزل الناس، إيثاراً لسلامة الدين والنفس وبعداً عن شرور المجتمع وسيئاته؛ وقلده في مذهبه الاجتماعي أصحابه ومريدوه، فظلت تلك الروح نزعة لعلمائنا حتى العصر الحديث.

ولقد كانت أسمى غاية للأستاذ الإمام محمد عبدة من إصلاح الأزهر أن يحمله على الاندماج في المجتمع، والتغلغل في أعماقه، والسمو به - عن طريق الإرشاد والتهذيب الديني الصحيح - إلى أبعد ما يستطاع من غايات؛ وكان يريد من وراء ذلك أن يذكى في الأمة الإسلامية روح القوة والفضيلة، وأن يدفع بها إلى الحياة الكريمة العزيزة، لتستطيع أن تذود عن حريتها، وتحافظ على تراثها المسلوب، وحتى يتسنى لها - إذا تابعت السير في هذا المضمار - أن تستعيد ما كان لها من مجد باذخ وجلال قديم، فتسير في قافلة الحياة البشرية داعية خير وهدى وسلام. ولقد أبى الأزهر حينئذ أن يستجيب لدعوة الأستاذ الإمام، وآثر أن يعيش في ظلام الجمود والحيرة عزوفاً من جديد الذي كان يؤمن بأنه بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. . .

وبعد ربع قرن من وفاة الأستاذ الإمام تكشف غيوم الحيرة، وخضدت شوكة الجمود وحماته، وألقيت مقادة الأزهر في يد تلميذ من تلامذة الإمام، فأخذت دعوته طريقها إلى قلوب الأزهريين وعقولهم، وسرت في الأزهر روح جديدة، وأيقن رجالاته بضرورة الإصلاح، وإن اتجهوا في ذلك وجهات مختلفة متباينة. . .

فليعد علمائنا إلى المجتمع حاملين في ظلمات الحياة الاجتماعية نور الدين وهدايته، ناشرين في ضلال الحياة الإنسانية دعوة الله ورسالته، هادين الناس إلى الحق وإلى طريق مستقيم. . .

(باحث)