مجلة الرسالة/العدد 444/التبعة والعقوبة في المجتمع البشري القديم

مجلة الرسالة/العدد 444/التبعة والعقوبة في المجتمع البشري القديم

مجلة الرسالة - العدد 444
التبعة والعقوبة في المجتمع البشري القديم
ملاحظات: بتاريخ: 05 - 01 - 1942



للأستاذ رفعة الحنبلي

ساد المجتمع، خلال العصور القديمة، نوع من النظم الاجتماعية، وضرب من المبادئ الفطرية، أخذ بها طوال المدة التي جنح فيها إلى التفكير الهزيل، والمعرفة الضئيلة، والعلم القليل مما كان له أثر فيه. فاتسم بطابع خاص يتميز به عن بقية المجتمعات الإنسانية الأخرى، ولم يقتصر على الثقافة فحسب بل تناول التقاليد والعادات أيضاً.

وفي الواقع أنه إذا تقصى المرء أحوال المجتمع البشري القديم في الأزمنة الغابرة، ودرس نظمه الاجتماعية، وتفهم نفسية أفراده وأخلاقهم، والتمس ميولهم ورغائبهم، وتبين عاداتهم وتقاليدهم، واتصل بهذه النظم على ضوء الدرس المنظم وعن طريق التتبع والاستقراء، تكشفت له عن حياة اجتماعية متأخرة، وبيئة ضيقة، وعقلية محدودة وتفكير سقيم تتباين مع الحياة الاجتماعية الأخرى في المجتمعات الثانية وبيئتها وتفكيرها وعقليتها، هذه الحياة الاجتماعية توقفنا على درجة من درجات رقي المجتمع وحضارته وتكشف لنا عن سمة من سمات الطبع والنفس، ومظهر من مظاهر الروابط الاجتماعية والقيم الخلقية.

على أن هذه الحياة لا يزال يشوبها كثير من اللبس والغموض، ولا تزال تكتنفها ظلمة كثيفة في كثير من أفيائها وإن أخذ بعض علماء الاجتماع - يدفعهم في ذلك حب البحث والاستقراء والحاجة الملحة إلى المعرفة - يبددون ما أحاط بها من ظلمة، وما اكتنفها من شوائب.

ومن النواحي التي درسها علماء الاجتماع ناحية جليلة خطيرة لها أثرها المباشر في الحياة الاجتماعية وفي مقومات المجتمع البشري أيضاً: هذه الناحية تعرف بالتبعة والتي عرفها المجتمع في الوقت الذي عرف الإنسان فيه العمل الاجتماعي واضطلع به، إذ ذهب هؤلاء العلماء إلى أن التبعة كانت معروفة عند أكثر الأمم والشعوب القديمة. وقد استمدت بعض المجتمعات الحديثة نتفاً من قوانينها ونظمها فدمجتها فيما ابتكرته من نظم وقوانين حملت الإنسان تبعة ما يقوم به من عمل اجتماعي أو أدبي أو غيره. والواقع أن المجتمعات البشرية تختلف باختلاف درجتها في سلم الحياة والارتقاء. فعلى قدر ما يكون المجتمع البشري من الرقي والحضارة يحتاج إلى نظم جديدة تتلاءم مع الحضارة والرقي اللذين أخذ بهما؛ فالمجتمعات والحالة هذه لا تتمشى على نظم واحدة، ولا تتقيد بقوانين واحدة، بل لابد لها من نظم مختلفة وقوانين متباينة تميز المجتمع الواحد عن الآخر وتصور نفسية أفراده وبيئتهم ودرجة رقيهم وحضارتهم.

بقيت مبادئ التبعة التي أخذ بها المجتمع البشري القديم، ردحاً من الزمن - قل أو كثر - خافية على كثير ممن يعالجون البحوث الاجتماعية حتى كشف عنها بعض كبار الباحثين ممن درسوا المجتمع القديم دراسة مكنتهم من إدراكها إدراكاً قد يكون تاماً أو لا يكون، بعد أن وقفوا على خصائص الحياة الاجتماعية التي سادت ذلك المجتمع، وبعد أن تفهموا المقومات الاجتماعية العديدة. وما زال الباحثون الاجتماعيون من ذوي الاختصاص يسيرون غور هذه الحياة وهذه المقومات الاجتماعية بعدما درست آثارها، وعفت رسومها أو كادت، فراضوا صعابها وجلوا شكوكها إلى أن وقفوا على عناصرها وعواملها، وكشفوا عن أسرارها وخبيآتها؛ وهم إلى ذلك - أي الباحثون - يؤمنون بأن القدامى من أفراد المجتمع كانت لهم من الآراء الفطيرة، والتفكير الفقير، والتقدير الهزيل، ما حملهم على إلقاء التبعة لا على عاتق كل فرد من أفراد المجتمع فحسب، بل على كل الكائنات الحية من حيوان وجماد أيضاً.

بدأ علماء الأجتماع، في العصر الحاضر، يدرسون المبادئ التي من شأنها أن تجدد كل عمل يقوم به الفرد في مجتمعه وما يتبعه من عقوبة وقصاص على ضوء علم النفس الحديث، وعلم الأمراض النفسية بعد أن كان المجتمع القديم يقيم حدها على كل فرد من أفراده، دون أن ينظر إلى نفسية هذا الفرد وإلى الأمراض المتصلة بها التي تتعاوره إبان حياته، بل كان مآل نظم المجتمع القديم فرض العقوبة على أي امرئ ارتكب جرماً أو اقترف إثماً.

والتبعة ليست، في الواقع، إلا نتيجة لعمل اجتماعي، شرعياً كان أو غير شرعي، يخالف ما تعارف عليه المجتمع وما ألفه الناس، أو بعبارة أخرى نتيجة أعمال وأفعال اجتماعية يقوم بها أفراد المجتمع تتعارض مع القوانين أو النظم الموضوعة التي تستوجب التبعة، فإذا ما خرق امرؤ حرمة الآداب والأخلاق، أو نكث عهداً من العهود الاجتماعية، أو اتهم برقة في دينه أو وطنيته، أو احتفظ بعلاقة غير شرعية مع فتاة، كان ذلك كافياً، في نظر المجتمع، لأن يحمل تبعة عمله وأن يعدَّ مسؤولاً.

ولابد للمرء أن يتساءل عن الأعمال التي قد ترضى الجماعات الإنسانية أو تفضيها إذا ما قام بها، ولابد له من أن يتفهم التقاليد والعادات التي تدنيه من المجتمع أو تبعده عنه، كي يستبين طريقه على ضوئها، ويتمشى حسب نظم المجتمع لئلا يقحم نفسه في مآخذ عنيفة ومزالق خطرة تستوجب التبعة والعقوبة.

وماذا يعني بالتبعة؟. . . هي قيام امرئ بعمل ما، في مجتمعه أو في مجتمع آخر، في حالتي النفع والضرر. فالمرء الذي يقدم على أعمال من شأنها تحدي النظم القائمة وخرقها والتي قد يتضرر منها المجتمع الإنساني يكون مسئولاً عن أعماله هذه، كما أن المرء الذي ينشط إلى المحافظة على الآداب والأخلاق، والذي يلذ له خدمة الأمة والإخلاص لها والتفاني فيها يكون مسئولاً عن هذا العمل أيضاً. فالتبعة إذا تقع على عاتق المرء في الحالين المتقدمين وإن اتجه كل منهما اتجاهاً يختلف والآخر جد الاختلاف من حيث الوسيلة والغاية؛ وإذا ما أبدلنا العقوبة بالمكافأة واللوم بالثناء، فمن هو الذي يستحق العقوبة واللوم، ومن هو الجدير بالمكافأة والثناء؟. . . مما لا مشاحنة فيه إن الإنسان يكافأ على عمله إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره. . .

ألا ترى أن الأب يكافئ ابنه الأديب الوديع ويعاقب الطائش الشرير؟. . . وكذلك المربي؛ إلا تراه يثني الثناء العاطر على الطالب الخلوق الطيع، وينحي باللائمة على النفور المتمرد؟! والحكومة، ألا تشعر أنها تكافئ رجالها المخلصين والعاملين بالأوسمة والرتب، وتعاقب المجرمين والخائنين بالسجن والإبعاد والقتل أحياناً؟. . . ألا ترى أن الجماعة البشرية قد أعدت جوائز قيمة، أدبية ومادية، للأفراد الذين يحملهم الإخلاص ويدفعهم الوفاء على التفكير بترقية المجتمع وتخفيف الآلام عن الإنسان، ورفع مستوى الحياة الاجتماعية؟ أليس كل ذلك يدخل في حدود التبعة الاجتماعية على اختلاف شكوكها وتباين غاياتها؟! على أن العلماء لم يقصدوا بالتبعة إلى المعنى الذي ذهبنا إليه، ولم يتجهوا الاتجاه الذي أخذنا به، ولكن هي الحقيقة وهو الواقع! ولمَ لا يكون المرء مسؤولاً عما قام به من صالح الأعمال كما يكون مسؤولاً عما جنته يداه من إثم أو جريمة؟! وما التبعة في الواقع إلا صدى تلك الحياة الاجتماعية التي ارتضاها الإنسان لنفسه، وتلك البيئات التي تكتنفها التقاليد والعادات. . .

ومن هو المسئول - في الدرجة الأولى - في نظر المجتمع لقد أعطت الجماعات الإنسانية أجوبة تختلف باختلاف حياتها الاجتماعية وبيئتها وثقافتها، وتتباين بتباين أخلاقها وتقاليدها وعاداتها. على أنها حُملت الإنسان - منذ الأزمنة القديمة - التبعة، باعتبار أرقى المخلوقات الحية وأشرفها وأذكاها، وأقربها من المدينة والحضارة، حيث يقوم بدوره الرئيسي في المجتمع، إذ أنه ينعم بعقلية نيرة تدفعه إلى استخدام الحيوان لشؤونه اليومية والمعاشية والاستفادة من النبات والجماد لمنافعه الشخصية والبيتية التي تتطلبها حياته الاجتماعية. وهو - فوق ذلك - يملك من الأهلية والاستعداد ما يجعله يحمل تبعة ما يقوم به من عمل. لذا نجد الإنسان شاعراً بالتبعة ورازحاً تحت ثقلها منذ اليوم الذي قتل فيه قابيل أخاه هابيل

ولا يمكن الأخذ بالتبعة أو الإقرار بها إلا في حالة خاصة، بمعنى أن الإنسان إن لم يتمتع بعقل سليم وتفكير صحيح فلا جناح عليه بما يأتيه من عمل شائن أو فعل قبيح؛ لأن سلامة العقل وصحة التفكير شرط أساسي - في بعض المجتمعات - لإلقاء التبعة وتحمل العقوبة، وإن أقرَّ البعض هذه التبعة على من لم تتوفر فيه هذه السلامة والصحة، حتى أن بعضهم ذهب إلى إلقاء التبعة على الطفل والمجنون والأبله والمعتوه أيضاً. . . وتغالت المجتمعات القديمة، والحديثة المتأخرة، فذهبت إلى أبعد من هذا الحد، إذ ألقت التبعة على الحيوان والجماد!!

وقد تتعدى هذه التبعة من شخص إلى آخر وإن لم يجمعها نسب أو قرابة، وتتجاوز الفرد إلى الجماعة، وإن لم تكن بينهما صلة أو علاقة، وتعرف حينئذ بتبعة الجماعة، لكنها تبقى - في غالب الأوقات - تبعة غير محدودة بيد أن الجماعة التي تتحمل التبعة تكون ذات صلة مباشرة أو غير مباشرة - ولو إلى حد ما - بصاحب الجريمة أو الإثم، باعتبار أن أفرداها وحدة لا تتجزأ، وباعتبار أن المتهم فرد منها، فالجريمة التي يؤخذ بها هذا المتهم تؤخذ بها الجماعة، والتبعة التي يتحملها تشاركه الجماعة فيها، والعقوبة التي تفرض عليه تنالها أيضاً على حد سواء؛ وتبعة الجماعة إنما تكون في الجماعات التي تعيش قبائل منفصلة الواحدة عن الأخرى، وفي المجتمع القديم الذي يتبع نظام التوعية والجماعت التي يرأسها شيخ هو أكبر أفرادها سناً ومن هذه الجماعات ظهرت أول مبادئ تبعة الجماعة التي تتعدى أقرب الناس إلى أبعدهم عن المتهم.

وهنالك أيضاً بعض الجماعات ممن يقرون مبدأ التبعة الفردية في جرائم خاصة، ومبدأ تبعة الجماعة في جرائم أخرى؛ ففي حالة الجرائم الصغرى كالسرقة أو القتل، إنما تكون التبعة فردية، وتكون جماعة في حالة الجرائم الكبرى كالخيانة الوطنية وخرق حرمة الدين، والثورة على الحكومة وقتل الملك وغيرها. . . ففي هذه الحالة تسود التبعة جميع أفراد عائلة المتهم دون النظر إلى تفاوت درجة القرابة والأعمار بينهم؛ فالجد والأب والأعمام والأولاد والحفدة يساقون إلى منصة الإعدام كالمجرم على حد سواء؛ أما أقرباؤه الأدنون، فيعاملون معاملة العبيد ويصبحون أرقاء، توزعهم الحكومة على قادة الجند بمثابة رهائن، ينقطعون للعمل، ويحبسون على الخدمة، وتصادر أملاكهم، وتحجز أموالهم، كما صودرت وحجزت أملاك أولئك من قبل.

كذلك كان عدم الوفاء لصاحب الجلالة، أو عصيان أوامره المقدسة، يسبب للفرد عقوبة تذهب بحياته، وتودي بأسرته إلى العذاب البئيس، وتهوى بهم إلى أدنى درجات الاسترقاق والعبودية؛ أما هو، فيعدم ويحرق، وأما زوجه وأولاده، فيصبحون أرقاء؛ أما أبواه وجداه واخوته وأولاد أخيه، فينفون من الأرض إلى أمد بعيد.

وهكذا نجد أن هذه العقوبة العنيفة التي تعرَّض صاحبها وأسرته ومن يلوذ به إلى الموت، والتي تجعل من ذوي قرابته عبيداً أرقاء، لم تستأثر بها أمة دون أخرى، بل اشتركت أكثر الأمم فيها مع اختلاف العقوبة من حيث العنف والقسوة باختلاف شرائعها وقوانينها. ففي فرنسا مثلاُ - أيام قيام الملكية في ربوعها - كانت عقوبة النبيل والشريف الذي يرتكب أية هفوة في حق الملك أو الإمبراطور، هي تجريده من رتبة العسكرية، وإنزال درجته النبيلة، وإبعاده مع أسرته خارج المملكة، أو الإمبراطورية، مع حرمانه هو وأسرته من العودة ثانية إلى بلاده ووطنه حرماناً قد يكون أبدياً؛ وإن قدر له أن يعود دون عفو خاص من صاحب الجلالة، فإنه يعدم حالاً دون أية محاكمة أو أي تحقيق؛ أما إذا لم يكن نبيلاً، وكان ينتسب إلى عامة الشعب، فعقوبته كما يقول الأستاذ تماثل عقوبة الشريف فضلاً عن هدم منزله وإعفاء أثره. وإذا تعمق الباحث في درس هذه التبعة، ردَّ دواعيها ومسبباتها إلى ذلك الاعتقاد السائد - قديماً وحديثاً - أن صاحب الجلالة هو خليفة الله في أرضه، لذلك كان لهذا الاعتقاد من الأثر القوي في نفسية الشعوب والأمم ما جعلها تشرع هذه العقوبة العنيفة لحفظ خليفة الله من الاغتيال وحرصاً على شخصيته المقدسة.

والأمة العربية لم تعرف في سالف عهدها التبعة الفردية بل كانت آخذة تبعة الجماعة باعتبار أنها ترى نفسها قائمة على التكتل وعلى المبادئ القبلية وإفناء الفرد إفناء كلياً في المجموع. وكم من حرب ظل ضرمها يحتدم بين قبيلة وقبيلة لجريمة ارتكبها أحد أفراد هاتين القبيلتين!. . . وكم من تضحية فرضت على فرد لم يقترف إثماً. . .! أو على أفراد قبيلة لم يجنوا جريرة أو ذنباً!. لقد كان رأس القبيلة هو المسئول الأول والمباشر عن عمل كل فرد من أفراد جماعته، كما أن القبيلة بأجمعها مسئولة عن هذا العمل أيضاً. . . وجاء الإسلام بالشريعة السماوية السمحة، فمحا تبعة الجماعة وأقر تبعة الفرد ورسم حدودها وأمسى الفرد مسئولاً عن عمله دون غيره مهما ترادفت آثامه وتعددت جرائمه، ولا تزروا وازرة وزر أخرى. . .

إلا أن العرب عرفوا، قبل الإسلام، نوعاً من التبعة الفردية، في حدود ضيقة محدودة، كانت قائمة ما قام (نظام الخليع) على معنى أن القبيلة كانت تكره في بعض الأحايين على مجازاة أحد أفرادها لخصال وخلال لا تقره عليها أو تتنافى مع بيئتها وأخلاقها - فتخلعه من ذمتها وتبعده عنها وتقطع صلته بها؛ فالمرء الذي تلفظه القبيلة يتحمل هو وحده تبعة عمله وليس لقبيلته أن تتحمل شيئاً من هذه التبعة كما أنها لا تطالب بدمه إذا أهدر.

إن هذه الظواهر الاجتماعية، في صدد تبعة الجماعة ليست في الواقع، إلا صدى تلك الحياة الاجتماعية الضيقة وصدى ذلك النظام الاجتماعي الضعيف. وكثيراً ما كانت هذه التبعة جد عنيفة وقاسية ينوء الفرد بحملها ويرزح تحت تقلها.

لقد تقلص ظل هذه التبعة عن الإنسان في مجتمعنا الحاضر وعفت رسومها وأمحى أثرها إلا عند الجماعات المتخلفة عن المدنية والحضارة واتجه إلى التبعية الفردية إذا أصبح الإنسان مسئولاً عما يرتكبه من آثام وجرائم، ولا شأن لأسرته وذوي قرابته فيما يرتكبه من إثم وجريمة، وإن كان بعض الأمم التي بلغت أقصى درجات المدنية والحضارة، وأسمى مراتب الرقي والتمدن، تأخذ بها أحياناً في حالات خاصة إبان الحروب والثورات.

(البقية في العدد القادم) - بيروت

رفعة الحنبلي