مجلة الرسالة/العدد 444/في المخبأ. . .

مجلة الرسالة/العدد 444/في المخبأ. . .

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 01 - 1942



للأستاذ محمد محمود دوارة

عشنا لنرى ما لم يخطر لنا على بال. واضطرتنا حوادث الأيام إلى أن نأتي أعمالاً لو أنا أتيناها قبل اليوم لنسب إلينا الجنون المطبق!. . .

انقلبت جميع الأوضاع رأساً على عقب.

كان الظلام مبعث الرهبة والخوف، فأمسى هو الملجأ منهما كان المنزل هو المكان الذي يتوفر فيه أمن المرء وطمأنينته فأصبح الهلاك كل الهلاك في البقاء بالمنزل.

كانت الشجاعة في الثبات أمام الأخطار والكاره ومجابهتها وجهاً لوجه فإذا هي في الفرار والهرب.

كان النهار معاشاً والليل لباساً فإذا النهار غير معاش والليل هلاك.

كان القمر فتنة الكون في لياليه الباهرة، وكان نجوى الشاعر والعاشق والفنان، فإذا هو علامة من علامات الشر، ونذيرٌ من نذر الدمار والخراب.

فسبحان الذي يغير ولا يتغيّر. . .

بعد منتصف الليل والكون غارق في بحار الكرى تدوي في الفضاء فجأة أصوات منكرة متقطعة متكررة لا عهد لنا بها من قبل، فكأنه قد نفخ في الصور، وجاء البعث والنشور.

يثب المستدفئ من فراشه الوثير وكان لو خيَّر بين تركه أو خسارة نصف ماله لضحّى بالمال غير متردد في الاختيار.

وتمتلئ الشوارع في تلك الساعة التي اعتادت فيها الفراغ إلا من متسكع لا مأوى له، أو حارس تعلم بالتجربة كيف ينام وهو واقف، أو معربد جعل من ليله نهاراً.

رجال ونساء وصبية وأطفال كلهم مفزع مضطرب. كلهم صامت كأن لم يخلق له لسان ولا شفتان، وكلهم سريع الخطى لا فرق بين هرم وشاب، ولا بين عجوز وفتاة في عنفوان الصبا والشباب.

قف في تلك الساعة وتأمل معي الناس. . .

هذه جارتي الحسناء التي اعتادت أن تقف أمام المرآة نصف النهار لتخرج إلى الناس فتنة وسحراً لا يقاومان، هاهي قد خرجت تهرول بوجهها الذي خلقه الله. لم تمكنها المفاجأة و يمكنها الخوف من الكذب على عباد الله.

وهذا جاري الذي لم أكن أراه ولم يكن يراه الناس إلا منتفخ الأوداج مصعر الخد متبختراً يمشي الهوينى كأنه الهودج أو الديك الرومي، هاهو الآخر يهرول في مشيته ضارباً بأصول العظمة والكبر ومشية الحاكم عرض الحائط.

وهذا الرجل الذي قطع حبل السكون بضراعته إلى الله تعالى وبدعوة رسله وأنبيائه وأوليائه، هل رأيته في الصباح وسمعته وهو يسب الأديان جميعاً لسبب من أتفه الأسباب؟

ما أروع الفرق بين الليل والنهار في هذه الأيام!

وما أقرب المسافة بين إيمان الإنسان وكفره، وبين أمنه وخوفه وبين هداه وضلاله!

وفي المخبأ في كل ليلة من ليالي الغارات تستطيع أن تشهد وأن تسمع ما لا عين شهدت، ولا أذن سمعت، قبل هذه الليالي السوداء!

دخل المخبأ متأخراً عن رواده بقليل رجل يحمل في إحدى يديه مصباحاً كهربائياً (بطارية) يستعين به بين الفينة والفينة على تعرف طريقه، فما كاد يطأ بقدميه بابه حتى ضغط زر المصباح ليرى ما أمامه، ولكنه سرعان ما ارتد إلى الوراء مفرغاً مضطرباً إذ تعالت صيحات الاحتجاج والتوبيخ الموجهة إليه من كل جانب.

- من هذا الحمار الذي يريد ضياعنا في شربة ماء؟!

- من هذا المجرم الذي يريد قتلنا؟!

- اطفئ النور أيها المغفل

- الله، الله. . . أتريد قتلنا بمصباحك كما قتل مصباح آخر قوماً آخرين بالإسماعيلية؟

ووسط ذلك السكون الرهيب والظلام الدامس انبعث صوت متحدث رزين تدل نبراته على فرط الرسوخ في العلم.

قال زاده الله علماً ومعرفة:

- الصمت مطلوب في هذه اللحظة يا إخوان، لأن طيارات الأعداء بها أجهزة خاصة لالتقاط أصوات المتكلمين وهي من الدقة بحيث لا يخفي عليها حتى همسات الهامسين. . . ضعوا ألسنتكم في أفواهكم، وإن استطعتم فاكتموا أنفاسكم على قدر الاستطاعة! بهذا حكم الله وبه قضى، ولا راد لقضائه سوى رحمته. واعلموا أن كل من يجازف بالحديث أثناء تحليق الطائرات في الجو كأنه يريد أن يدل الأعداء على مكاننا، أو بمعنى آخر كأنه يريد القضاء على نفسه وعلينا جميعاً.

ولست أدري هل صدَّق الناس قول ذلك الخبير العجيب أم لم يصدقوه، فان واحداً منهم لم يعترض على ما قال ولم يحاول مناقشته، ولكني لا أشك لحظة في أن جارتي العجوز قد آمنت بكل كلمة من كلماته، وإلا فما بالها تكتم أنفاسها ذلك الكتم الشديد الذي جعلها في آخر الأمر تعلن إفلاسها في تلك المحاولة العسيرة قائلة: يفعل الله ما يشاء. . . إنني أكاد أموت اختناقاً.

ثم جازفت وعادت سيرتها الأولى في استنشاق الهواء ونفثه بالكيفية المعتادة

وعند مدخل المخبأ مع بعض اللاجئين فراراً من الجو الخانق في داخله كان بيننا جندي من أهالي الصعيد يظهر من لهجته الجافة أنه لم يتلق أي نصيب من التعليم أو التهذيب.

ومما يدل على حاجته الشديدة إلى دروس في الذوق أنه اختار هذه المناسبة ليحدثنا عن جماعة لجئوا إلى مخبأ في بلد من البلاد المنكوبة بالغارات فأصيب ذلك المخبأ وهم فيه بقنبلة مباشرة نسفته نسفاً وجعلت من فيه أشلاء لا يعرف فيها القدم من العنق ولا المعصم من العامود الفقري!

وفي أثناء حديثه ظهرت أنوار المصابيح الكاشفة منعكسة على السحاب فأراد أحدنا أن ينتهز فرصة ظهورها ليحول التفاتنا إلى غير ذلك الحديث المقلق للراحة حديث الجندي اللبق! فقال وهو يشير بسبابته إلى حيث تلك الأنوار:

- انظروا! هاهي الأنوار الكاشفة قد بدأت عملها

ولكنه ما كاد يفعل حتى انقض الجندي على ذراعه الممدودة في الفضاء وإذا به يجذبها في شدة وعنف قائلاً في غضب ليس بعده غضب:

- أأنت مجنون يا هذا؟ أتريد أن ترى الطيارات ذراعك الممدود وسبابتك الموجهة إليها فتعرف مكاننا ولا تتركنا إلا أشلاء لا يعرف فيها القدم من العنق ولا المعصم من العامود الفقري كما حدث في. . .

واستأنف حديثه كما بدأه. . .

وردد الفضاء صوت انفجار أول قنبلة مضادة للطائرات، ثم تلاه أصوات متلاحقة لقنابل أخرى تتفاوت في الشدة والقوة فسرت في المخبأ دمدمة رهيبة تلاها ضمت كصمت القبور لم يقطعه إلا صوت امرأة تخاطب زوجها قائلة:

- هذا صوت قنابل الطيارات. إنهم يضربون البلد! لابد من الهجرة غداً

فأجابها في صوت ضعيف مستكين:

- ليست هذه قنابل الطيارات

- ماذا تكون إذن؟ لابد من الهجرة غداً. . . غداً من الفجر بإذن الله. هل جننت حتى أعيش في هذا الجحيم؟

- لست هذه قنابل الطيارات. قلت لك إنها المدافع المضادة لها

- بل هي قنابل الطيارات

- ليست هي قنابل الطيارات

- بل هي قنابل الطيارات

- ليست. . .

وشفع كلامه في هذه المرة بحركة صاحت على أثرها المرأة صياحاً منكراً، وإذا بها معكرة زوجية من الصنف الحاد.

وطغا صوت المرأة على صوت أضخم المدافع وأقواها صوتاً

وكان الأستاذ كامل قد احتسى كأساً أو كأسين غير حاسب للغارات حساباً؛ فلما فاجأته غارة الليلة وهو في نشوته اللذيذة هبط إلى المخبأ وهو يلعن الحرب ومن كان السبب في شبوبها.

وهناك انتبذ ركناً قصياً واستسلم للتفكير

ولكنه لم يهنأ بجلسته طويلاً، إذ صاح صبي من الصبية كان يجلس إلى جواره قائلاً:

- هنا رجل سكران يا ماما. . . في المخبأ سكران طينة. . إنني أشم رائحة الخمر. وأيدته امرأة عجوز قائلة:

- إن رائحته كبرميل من الخمر القذرة

وإذا بدردبيس أخرى تقول:

- إن وجوده بالخندق نجاسة! فلم يسمع كامل أفندي إلا أن ينفلت من مكانه في سكون تاركاُ القوم قبل أن يكشفوا أمره. . . ومن يدري ماذا يفعلون به حينئذ؟!

وأقسم من تلك الليلة إلا يذوقها إلا نهاراً. . .

في المخبأ عجائب لا تجتمع في مكان آخر، وفيه مفارقات لا تخطر على بال

هاهنا رجل جبان رعديد ينتفض من الفزع، بينما أخذت طفلة في الخامسة تشجعه وتهون الأمر عليه.

وهتاك فتاة عابثة تضحك من كل شيء ومن لا شيء

في المخبأ لمحات من الفكاهة الصافية الحلوة وصور عابسة من الأسى المرير. وإذا كنت لم تر السعادة مرتسمة على وجه من الوجوه فتعال إلى المخبأ وانظر إلى وجوه الخارجين منه بعد انتهاء الغارة وكأنهم يبعثون!

أما إذا أردت أن ترى الهم في أقتم صوره فانظر إلى ذلك الوالد وهو يجلس إلى جوار زوجته المريضة وقد حمل على يديه ولداً من أولادها بينما حملت هي آخر، بينما جلس بينهما ثلاثة أو أربعة آخرون.

(السويس)

محمد محمود دواره