مجلة الرسالة/العدد 445/التبعة والعقوبة في المجتمع البشري القديم

مجلة الرسالة/العدد 445/التبعة والعقوبة في المجتمع البشري القديم

مجلة الرسالة - العدد 445
التبعة والعقوبة في المجتمع البشري القديم
ملاحظات: بتاريخ: 12 - 01 - 1942



للأستاذ رفعة الحنبلي

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

تبعة الطفل

إن أكثر الشرائع الأوربية الحديثة لا تحمل الطفل تبعة ما، لكن بعضها لا يبرئه منها، وقد تختلف باختلاف رقي المجتمع ورفعة البيئة وتتباين بتباين التقاليد والعادات. ففي إنجلترا وروسيا مثلاً لا يؤخذ الطفل بالتبعة إن أقدم على جريمة ما حتى العام السابع من عمره، والسنة الرابعة عشرة في مقاطعتي (فو السويسرية وفالوا الفرنسية، والسادسة عشرة في بلجيكا. أما في فرنسا عام 1810 فقد حددت التبعة حتى السادسة عشرة، وأدخل عليها بعد ذلك تعديل آخر إلى أن تدنت إلى السابعة أو الثامنة ثم عدلها مجلس الأمة الفرنسي إلى العام الثالث عشر

والشرائع الإنكليزية الحديثة لها نصيبها في إقرار هذه التبعة على الطفل، وإن قبلت الحكومة - تحت تأثير الرأي العام وبعض أصحاب الضمائر الحية من القضاة - مبدأ إعفائه منها إعفاء جزئياً أو كلياً أو تعديلها تعديلاً يتلاءم مع الحياة الاجتماعية الإنكليزية، إلا أنها أبقتها كمبدأ قد يعمل به من حين آخر. ففي عام 1457 أخذ وليد له من العمر أربع سنوات بجريمة قتل، وحكم على مراهق لم يتجاوز الاثنتي عشرة سنة بجريمة أيضاً، وفتاة لم تشرف على ربيعها الثامن أخذت بالتبعة لإشعالها النار في مسكن

على أن بعض الشرائع تحتم على الولد نفسه، دون غيره، أن يتحمل تبعة عمله، والبعض الآخر تحمله وتحمل أسرته معاً؛ وفي كلتا الحالتين لا ينجو الولد منها وإن كانت التبعة في الثانية أخف وطأة عليه من الأولى

أما في العهد القديم فالقانون الصيني لم يخل من تشريع غريب في صدد هذه التبعة يتنافى مع التبعات الأخرى في المجتمعات الثانية؛ فالولد الذي يرتكب إثماً أو جرماً ولم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره - مثله مثل رجل جاوز السبعين من سنيه، أو شيخ فقد عيناً واحدة أو ذراعاً واحدة - يتمكن أن يستبدل المال بالإعدام إذا كانت الجناية ليست بذ أهمية - أي لا تستوجب الإعدام - ويكون المال حينئذ كفارة عن ذلك الإثم أو الجريمة؛ أما الولد الذي يؤخذ بجريمة تستوجب الموت ولم يتجاوز العشر سنوات من عمره - فمثله كمثل رجل أربى على الثمانين، أو شيخ فقد عينه أو ذراعيه - يسمح له أن يطلب عفواً خاصاً من جلال الإمبراطور. والوليد لذي لم يتجاوز الربيع السابع من سنيه - مثله كمثل صاحب التسعين - لا يتحمل أية تبعة ما وبالتالي لا يحكم بأية عقوبة إلا في حالتي الخيانة والتمرد. فالولد في هذه الحالة يؤخذ بالتبعة هو وأسرته ويتحملان العقوبة بمعنى أن كل أفراد أسرته الذين لم يتجاوزوا الخامسة عشرة من سنيهم، من كلا الجنسين، يخضعون لعبودية ثقيلة قد تكون وبالاً عليهم في المستقبل، فالذكور منهم يرسلون إلى مستشفيات خاصة حيث يعقمون بينما الإناث يقضين بقية حياتهن في خدمة المجتمع!

أما تبعة الوليد عند اليونانيين القدماء فيختلف باختلاف الحكومات القائمة في ذلك العهد؛ فحكومة أثينا، تمشيا على شريعة أرسطو، طرحت جانباً تبعة الوليد واستنكرت معاقبته في حال قيامه بإثم عرضي غير مقصود به أي ضرر، ولكنها تأخذه بجرمه إذا ما ارتكب جريمة قتل الإنسان ولا تقر شريعة أفلاطون التبعة على الوليد الآثم، وهو في أدوار الجنون والمرض والطفولة حتى في حالة الخيانة والكفر والزندقة، ولكن أفلاطون استثنى حالة واحدة هي جريمة قتل الإنسان؛ أما إذا قدر للولد أن يجرح مواطن له، فإبعاد عام واحد عن البلاد، وإن سولت له نفسه العودة قبل إتمام هذه المدة، فسجن عامين كاملين؛ أما حكومة إسبارطة فيبعد الوليد إلى خارج بلاده وإلى أمد بعيد أن أرتكب جريمة قتل دون قصد منه. وهذا الإبعاد هو بمثابة انتقام خاص لعائلة القتيل وإرخاء رمزي لها؛ وفي حالتي الخيانة والصبأ، فالعقوبة تتناوله فوراً دون النظر إلى عمره، وقد تتناول أسرته أيضاً.

ولا تقر الشرائع الجرمانية القديمة التبعة على وليد أخذ بسرقة ولكنها تأخذه بجريمة قتل وتحده، وربما رأفت به وخففت العقوبة عنه؛ وتحاكى هذه العقوبة الأحكام المقررة على الراشد الذي يقترف القتل عفواً.

يتبين مما تقدم أن التبعة تلازم الولد - منذ اقدم الأزمنة حتى الآن - ملازمة لا ينجو منها، وإن فكرت بعض الأمم في تحقيقها، لكن البعض الأخر أخذ في بداءة هذا القرن يجتهد في إلغائها عن ولد لا يفقه معناها، ولا يفهم النظم الاجتماعية لأن تجريمه هو بمثابة ظلم لا مسوغ له.

تبعة المجنون:

اختلف المتشرعون الحديثون في أهمية الدور الذي يقوم به المجنون في المجتمع الإنساني وما يتركه من أثر قوي أو ضعيف فيه، ولكنهم أقروا - وإن اختلفوا في الاجتهاد - مبدأ واحداً هو أن لا تبعة على المجنون وأنه معفى من العقوبة.

وماذا يراد بالجنون؟ لقد عرفه الأستاذ (مرسيه بأنه (اختلال في أي عنصر من عناصر القوى العقلية؛ وقد يكون هذا الاختلال تشويهاً أو توقفاً في النمو أو انحلالاً والتواء في عنصر من تلك العناصر) مما يجعل (الفرد غريباً عن الوسط الذي يعيش فيه، وقد يصطدم اصطداماً يضر به وبالمجموع معاً دون أن يدرك عاقبة عمله). ويقول الأستاذ (مرسيه) أيضاً: (إن أكثر حالات الجنون سببها تسمم بطيء يؤدي إلى انحلال العرى بين المراكز العليا والمراكز السفلى، ثم يؤدي إلى انحلال العناصر التي تكون ذلك المركز) وقد عرفت الشريعة المجنون (بالغرد الذي خرج عن قواه العقلية فلا يصحو إلا في فترات نادرة أو لا يصحوا أبداً). وإذا كانت هذه وضيعة المجنون المحزنة وعقليته القاصرة، فكيف أجاز المجتمع البشري لنفسه أخذه بالتبعة والحكم عليه بالعقوبة؟!. . .

كان كثير من المجتمعات القديمة والحديثة، تأخذ المجنون بالتبعة والعقوبة. ففي القرن الثامن عشر أصدر بعض قضاة فرنسا أحكاماً مختلفة على بعض المجانين، فأثارت هذه الأحكام حفيظة نواب مجلس الأمة، واحتفظ هذا المجلس، بما له من سلطة تشريعية، بتخفيف هذه العقوبة أو إلغائها، ولكنهم أقروا مبدأ التبعة والعقوبة في حالة جريمة يرتكبها المجنون تتناول صاحب الجلالة أو أمراء الأسرة المالكة أو الرئيس الأول أو غيرهم من الزعماء كبار القادة.

والشريعة الصينية تميل بعض الميل إلى تخفيف التبعة عن المجنون وتعديل عقابه. فالجريمة التي تستوجب الإعدام يستعاض عنها بالسجن والتصفيد بالحديد عند عفو أهل القتيل عنه، وإذا قدر للمجنون أن يجرح أباه، فعلى هذا أن يبعث برسالة خاصة إلى صاحب الجلالة يتوسل فيها أن يعطف على ولده، ويعفو عن خطيئته ويغفر له ذلته؛ أما إذا قتل أباه فيؤخذ بالعقوبة وبأشد ما تكون قسوة وعنفاً حيث تقطع أوصاله وتحرق حتى ولو قضي نحبه قبل تنفيذ الحكم فيه.

وكان الرومانيون يعاملون المجنون معاملة القاصر - وهي تشبه إلى حد ما معاملة اليونانيين - ألا إنه قد يدفع في بعض الأوقات مبلغاً من ماله أو قسماً من أملاكه يتناسب مع أهمية الجريمة التي ارتكبها. وفي نهاية القرن الثاني أصدر الإمبراطور (مارك أوريل) وابنه الإمبراطور (كومود) قانوناً يبرئ فيه المجنون من التبعة ويرفع عنه التهمة، وينقذه من العقوبة، وساندهما في ذلك كبار المتشرعين آنئذ، وحجتهما أن الجنون بعينه هو عقوبة في حد ذاتها؛ أفلا يكفي المجنون عقوبة أن تكون الطبيعة قد حرمته من نعمة العقل، ولذة الفكر، وسعادة الحياة، حتى يزيده المجتمع شقاء بتجريمه وعقابه!!. . . إن هذا لكثير على امرئ بائس مسكين. . .

وهكذا زي المجتمع البشري يعاقب المجنون ويحمله التبعة ليس لأنه يتجاهل حالته العقلية والنفسية، ويتعامى عن وضيعته الشاذة المضطربة بل تمشياً لما جاء في الشرائع من أن المجنون يؤخذ بالتبعة والعقوبة.

تبعة الأموات

لقد عرف المجتمع القديم هذه التبعة كما عرف غيرها من التبعات الأخرى التي تتناول الحيوان والبحار والنبات. وكان الاعتقاد السائد، في ذلك الزمن، أن التبعة تتناول الميت نفسه باعتبار أن جثة المجرم عليها أن تتحمل العقوبة، وعلى هذا الاعتبار أقروا مبدأ التنفيذ

ويذكر التاريخ لنا حوادث عديدة من هذا النوع الطريف؛ ففي الهند يقطع رأس المجرم الميت ويحمل على الحراب ويسلخ جلده؛ وفي اليونان تقطع أوصاله وتحرق؛ وقد يحتفظ بجمة من شعره كذكرى لهذه العقوبة

ولا يؤخذ بهذه العقوبة إلا في حالتين اثنتين: أولاهما في حالة الانتحار؛ وثانيتهما في حالة ارتكاب جريمة تتناول الأمة والوطن. فالمنتحر يحكم وتنفذ العقوبة في جثته، فيسام إلى الجلاد حيث يصلب ويمثل به أشنع تمثيل، ولا يحتفل بدفنه احتفالاً دينياً، ويحرم من الرقود في باطن الأرض بسلام

وعرفت الأمة المصرية هذا النوع من العقوبة أيضاً، فكان المجرم - وهو الجثة الهامدة - يمثل أمام محكمة كهنوتية فإذا أخذته بجرمه حكمت عليه حكماً يحاكي في أصوله وفروعه الأحكام اليونانية؛ وكذا الحال في الأمة الفارسية فقد قطع الملك الفارسي رأس أخيه - وكان يناصبه العداء ويوثب الأمة عليه - ومثل فيه تمثيلاً فظيعاً بعد ن سقط في إحدى المعارك قتيلاً

وعرف المجتمع اليوناني أيضاً أنواعاً كثيرة من هذه العقوبات فمنها ما ينتهي بالتمثيل بجثة المجرم وحرقها، وما ينتهي بسحقها تحت الرحى وذرها في البحر، وما ينتهي بالحرم الديني ورمي الجثة خارج البلاد وغيرها

والواقع أن مثل هذه العقوبات تدلنا دلالة واضحة على عقلية المتسرعين الضيقة الذين لم يدركوا كل الإدراك ما في هذه العقوبات من إسفاف وسخف وتفكير عقيم

تبعة الحيوان

وكما أن التبعة والعقوبة كانتا تلازمان الإنسان في المجتمعات القديمة فهما تلازمان الحيوان أيضاً. فمن تقاليد قبيلة أن تأخذ بثأر أحد أفرادها إذا ما قتله نمر أو فهد وذلك بقتل الحيوان المفترس أو قتل آخر من فصيلته؛ ومن تقاليد القبائل الساكنة في جزيرة مدغشقر الاقتصاص والانتقام من التماسيح؛ فأفراد قبيلة التي تربطهم بالتماسيح رابطة الأخوة والصداقة - وهي التي وعدت وأقسمت، حسب اعتقادهم، ألا تأكل إخوانها من بني الإنسان - لا تتوانى عن معاقبة أحدها إذا حنث بيمينه أو رجع عن وعده

ينفر رئيس القبيلة أفراده، ويوثب جماعته لأخذ الثأر من هذا الأخ الحيوان الذي لم يرع حرمة الأخوة والصداقة، ويوحي هذا الثأر في نفوسهم حب الانتقام منه، ويشتد إضغانهم عليه، فينهضون حالاً إلى ذلك النهر وعلى وجوههم إمارات الجرأة وعلامات البأس، حتى إذا ما اقتربوا من ساحله المرمل، ونزلوا بقبالة مسايله وخلجاته، يتقدم رئيسهم بالشكوى المريرة إلى إخوانه التماسيح - تمشياً على الشريعة المقدسة - ويتبسط في سرد الجريمة على مسمع منها، ويتلوم القائل على فعلته هذه ويتوعده - وهو الذي أقسم وعاهد ألا يفتك القائل بأخيه الإنسان - طالباً منها أن تسلم القائل صباح الغد للاقتصاص منه، ملقياً في النهر شصاً كبيراً تتدلى منه قطعة كبيرة من اللحم حجمها قرابة من ربع بقرة؛ ومن ينكفئ كل منهم إلى مسكنه، وينصرف إلى نفسه يتوفر على الاستعداد للانتقام صباح الغد؛ فالنساء يأخذن في جدل الشرائط الحريرية، والفتيات في غزل خيوط القنب، والرجال والأيفاع في شحذ الأسنة والحراب والرماح

فما يكون الغد حتى يتوافد زمر الرجال والنساء، وجموع الفتيان والفتيات إلى مضرب الزعيم يتشاورون معه في كيفية المحاكمة، وتساورونه في طرق الانتقام، حتى إذا جمعوا جموعهم واكتمل عددهم، أخذوا سمتهم إلى ذلك النهر الهادر بأمواجه، مكان الجريمة وموضع الاستغفار والتوبة

يتقدم الزعيم فيغمز الشص متربصاً بغريمه مواتاة الفرصة، وقد لا يطول ثواؤه حتى يظفر به ويهب بجماعته أن يساعدوه ويعاونوه، وما أن يظهر التمساح على سطح الماء حتى يأخذوه بالعنف والقسر ويبادرونه بالأهازيج والأغنيات رمز الظفر والغلبة، ويتسابقون في إحكام أربطة القنب والحبال على جميع أطرافه إحكاماً قوياً لا يستطيع معه حراكا. وبعد أن يتحلق القوم حوله يعمد رئيس القبيلة إلى التبسط في الجريمة وإلقاء التبعة على هذا التمساح، معتذراً إلى رجال القبيلة بمحاكمته والحكم عليه بالموت - باعتباره أخاً لهم - وما أن يحكم عليه حتى يندرئ القوم بغرز الأسنة والرماح في بطنه إلى أن تقر حركته وتهدأ ثورته وتخمد أنفاسه، حينئذ تتقدم النساء بنزع الأربطة واستبدالها بأربطة حريرية ثم يزمله الرجال بالأكفان الناعمة بين عويل أولئك وبكاء هؤلاء حتى يواري في رمسه، وهو رمس لو تعلم جميل، أعد له ولأمثاله منذ أمد بعيد، وذلك باحتفال ديني مهيب. . .

وهكذا نرى أن هذا الحيوان السائم الذي لا يعرف ما ينفعه وما يضره يعاقب عقاب من يرتكب إثماً من بني الإنسان، ويحتفل به احتفالاً قد يقل نظيره لأبن آدم. . .

والمزدكيون التابعون لمذهب زرادشت يأخذون الحيوان بالتبعة والعقوبة فالكلب المسعور يعاقب بصلم أذنه اليمنى إذا افترس حملاً أو جرح رجلاً، وتصلم أذنه اليسرى في حالة الإعادة، وإذا تعددت آثامه وشروره ففرضة في رجله اليمنى واليسرى ثم يبتر ذنبه؛ وبما أن مبادئ المزدكيين لا تسمح بتقطيع أوصال المجرم - إنساناً كان أو حيواناً - فالعقوبة لا تتعدى حدود ما ذكرنا

وقد تشمل التبعة والعقوبة صاحب الحيوان أيضاً، وهذا ما تأخذ به المجتمعات القديمة والحديثة، فالشرائع القديمة كانت تحمل صاحب الحيوان ما يسببه هذا من ضرر وأذى، وتحمله على أداء تعويض مالي أو ترغمه على إعطاء عقار أو متاع يوازي قيمة الأضرار التي صدرت عنه، والمجتمع العربي القديم كان يعرف هذه التبعة ويأخذ صاحب العجماء بها على اعتبار أنه هو وحده مسئول عن الإهمال أو بالأحرى عن الضرر الذي تأتى عن الحيوان، فلو أن صاحب العجماء عقل الحيوان عقلاً تاماً ورعاه رعاية فيها كثير من الحذر واليقظة لما سبب إضراراً لهذا وأنزل خسائر بذاك، بل ذهبت الأمة العربية في الزمن الغابر إلى أبعد من هذا الحد، فأخرت مبدأ شهادة الحيوان أمام القضاء، فقد أورد مؤلف الأغاني قصة الشاعر (الحزين الديلي) الذي كثيراً ما كان ينصرف بمفرده إلى تعاطي الأشربة المحرمة في ظاهر مكة ولا صديق يؤاكله ويشاربه إلا حماره الذي يحمله ما يحتاج إليه من آكال لذيذة وأشربة خمرية معتقة

أحب جماعة من أهله وأصحابه أخذه بهذا الإثم وإقامة الحد الشرعي عليه وكانوا يؤبون في كل مرة بفشل مرير، ولم يكن لهم من طريقة أخرى إلا أخذ الحمار كقرينة على ارتكابه الإثم، ولما مثل الشاعر أمام القاضي وسئل عن التهمة أنكرها، فأراد القاضي أن يأخذ الحمار كقرينة على ارتكابه الإثم، وأحب أن يحده الحد الشرعي، وما أن سمع الشاعر قولته حتى بادر القاضي بقوله: إني أقبل هذا الحد - وإن لم يكن شرعياً - لكن أخوف ما أخافه أن يضحك منا أهل العراق ويتقولوا أن أهل مكة يأخذون بشهادة الحمير

والواقع أن الأخذ بمثل هذه القرينة هي بمثابة نوع من أنواع التبعة التي كانت تلازم الحيوان فيما مضى، وهي أيضاً بمثابة رجوع العربي إلى المنطق القبلي الذي كان يأخذ الحيوان بالتبعة

أما في العصر الحاضر فإن العرب لا يأخذون بهذه النظرية خلاف الأمم الأوربية التي تأخذ بها لاسيما في الأجرام الجزائية. ففي الثورة الفلسطينية عام 1936 - 1939 عمل الإنجليز بشهادة كلاب الأثر وفرضوا العقوبات الصارمة وطبقوا قانون الطوارئ الذي يقضي بالإعدام على كل من حمل سلاحاً، إلا أن قضاة العرب لم يوافقوا على ذلك إذا عرضت عليهم قضايا من هذا النوع كما جرى مع أحد القضاة الذي رفض الأخذ بشهادة الكلاب كما ورد في سياق حكمه

وجاءت الشريعة الإسلامية فهدمت ما أخذ به الجاهليون من هذه النظم، وأقرت مبدأ التبعة على صاحب الحيوان فحسب، وكذا الحال في المجتمعات المتمدينة الحديثة التي تكون قد اتصلت بالحضارة الإسلامية وتفهمت شرائعها ونظمها فأقرت ما أقرت وهدمت ما هدمته

ويخبرنا أرسطو بأنه شاهد بنفسه، في أثينا، محاكمة الحيوان المجرم في محاكم خاصة، وكثيراً ما كانت العقوبة تتناول قتل الحيوان وطرحه خارج حدود المدينة؛ ويقول أفلاطون أن حيوان النقل يؤخذ بالتبعة والعقوبة إذا أودى بحياة فرد خلال حالات خاصة كالاحتفالات الدينية والأعياد الوطنية؛ وعقوبته إما القتل أو الإحراق

وهناك نوع من العقوبات الدينية، مصدرها الكنيسة الكاثوليكية، تختلف عن بقية العقوبات اختلافاً كلياً تتناول الحيوان الوحشي دون الأليف باللعنة الدائمة والجرم الأبدي

تبعة النبات والجماد

وكما تقع العقوبة على الحيوان تقع أيضاً على النبات والجماد على حد سواء، فقبائل تقتص من الشجرة إذا أودت بحياة أفرادها وقت وقوعها والاقتصاص منها إنما يكون بتقطيعها إرباً إرباً وسحقها سحقاً ناعماً وذرها في الهواء؛ وعند سكان استراليا يحرق سلاح القاتل

ويروي التاريخ أن أحد ملوك فارس جلد البحر عقب معركة بحرية هزم فيها، وأن إمبراطور بدد ماء نهر لأنه حال دون انتصاره على أخيه

وأخبرنا ديموستين الخطيب اليوناني الكبير أنه شاهد بنفسه محاكم خاصة صلاحيتها محاكمة الجماد دون غيره، وحدث أن عائلة يونانية تسكن جزيرة رفعت الدعوى على تمثال بطل عظيم من أبطال اليونانيين لحادثة وقعت على أحد أفرادها من قطعة صغيرة منه، إلى أن فازت بالحكم على التمثال وألقت به في البحر

تلك هي التبعة والعقوبة في المجتمع البشري القديم التي أظهرت لنا حياة اجتماعية متأخرة، وبيئة حقيرة، وحضارة فقيرة وواضحت نظماً وقوانين قد لا يأخذ ببعضها أو بأجمعها المجتمع الحاضر وعادات وتقاليد قد لا يقرها أيضاً، وإنما عالجنا هذا البحث لكي توقف القارئ العربي على درجة من درجات تفكير المجتمع القديم ومظهر من مظاهر الروابط الاجتماعية فيه

رفعة الحنبلي