مجلة الرسالة/العدد 445/مدينة طرابلس الغرب

مجلة الرسالة/العدد 445/مدينة طرابلس الغرب

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 01 - 1942



للأديب مصطفى بعيو الطرابلسي

من بين المدن العديدة التي يتردد ذكرها في هذه الأيام على صفحات الجرائد (مدينة طرابلس الغرب) عاصمة الإقليم المعروف باسمها ومقر حكومة لبيا الإيطالية، وهي مدينة إغريقية في اسمها ومعناه المدن الثلاث، وهي (سبراتا وكان البربر يسمونها (زواغة) قبل أن يلقبها العرب (بصبرة)، وهي اليوم تدعى (زوارة)؛ ثم (أوا التي هي أويات في نظر البربر قبل أن يحرفها الرومان إلى اللفظ السابق عند استيلائهم على تلك البلاد، وأخيراً (ليبدس التي لم يبق منها إلا آثار متهدمة تشهد على عظمتها في سابق عهدها، وقد حلت محلها اليوم مدينة (الخمس) العامرة، وأصبح أهالي البلاد يطلقون اسم (لبدة) على تلك الأطلال الخربة

وجدير بالملاحظة أن كلمة (طرابلس) لم تكن معروفة حتى القرن الرابع (ق. م) عندما أطلقها الكتاب الرومانيون على تلك المدن الثلاث السابقة الذكر، ولكن هذه الكلمة تغير مدلولها في العصر البيزنطي، وأصبحت تطلق على (أوا) فقط دون غيرها ولما جاء العرب استعملوها على هذا النحو، إلا أنهم أضافوا إليها كلمة (الغرب) تمييزاً لهذه المدينة عن مدينة (طرابلس الشام)، وكانوا يسمونها أحياناً (أطرابلس) بزيادة الهمزة في أولها، على أن صاحب القاموس قد ضبط اسمها بفتح الطاء وضم الباء واللام وجعل الهمزة من مميزات الشامية، ولكن البكري والتيجاني وغيرهما يرون إلحاق الهمزة بمدينة (طرابلس الغرب)، وهذا ما أرجحه لأن الأهالي إلى وقتنا هذا ما زالوا ينطقونها أحياناً بهذا الشكل

ويرجع تاريخ إنشاء مدينة (أوا) إلى أوائل القرن الخامس ق. م ونظراً لحسن موقعها وصلاحية مرساها للسفن بسط الفينيقيون سيادتهم عليها حتى تتم لهم السيطرة على البحر الأبيض المتوسط؛ ثم ورثهم في هذه السيطرة خلفائهم القرطاجنيون الذين أسلموها بدورهم إلى الرومان على أثر هزيمة قرطاجنة في الحروب البونية خلال القرن الثاني ق. م. ويذكر لنا بروكويبس أحد مؤرخي الرومان أن الوندال عندما استولوا على مدينة أوا (طرابلس الحالية) هدموا أسوارها، ولكن ليس هناك شك في أن البيزنطيين قد أعادوا بناءها عند استرجاعهم لها في عصر الإمبراطور جستنيان بدليل ما نراه من أثر التج البيزنطي في بقايا الأسوار التي ما زالت إلى اليوم. ولكن هذه الأسوار لم تكن تامة الإحاطة بالمدينة من جهة البحر مما سهل على العرب فتحها على أيدي جنود عمرو بن العاص؛ ولهم في ذلك قصة ترويها كتب التاريخ تتلخص في أن عمرو بن العاص قد ضرب حصاراً على المدينة من جهة البر وأقام يتحين الفرص للاستيلاء عليها حتى وافاه ذلك عندما خرجت جماعة من جنوده للصيد، فلما شعرت بوطأة الحر توجهت إلى البحر لتخفيف ما تشعر به، وكانت المدينة تشرف على البحر مباشرة لا يفصلها عنه أي حاجز؛ فوجد الجنود طريقاً إلى المدينة على أثر جزر البحر فتسللوا إلى داخلها. وكم كانت دهشة الرومان عظيمة عندما سمعوا تهليل هؤلاء الجنود وتكبيرهم مما دفعهم إلى الاحتماء بسفنهم. وأبصر عمرو أصحابه في جوف المدينة فأقبل بجيشه واستولى عليها بعد أن سهل عليه أصحابه تلك المهمة. وقد فطن العرب إلى هذا النقص في تحصين المدينة فيما بعد مما دعا هرثمة بن أعين - وإلى المدينة من قبل الخلافة العباسية أن يعمل على إتمام هذه الأسوار من جهة البحر. وبدخول العرب لمدينة طرابلس دخلها الإسلام وانتشرت فيها اللغة العربية ولا تزال لغتها ولا يزال الإسلام دينها على رغم بعض المحاولات الفاشلة

ومما تجب ملاحظته هنا أن المؤرخين قد اختلفوا في تحديد زمن تبعية هذه المدينة للعرب؛ فبعضهم يقول إن ذلك تم في سنة 22هـ والبعض الآخر يقول إن ذلك كان في سنة 23هـ ويمكنا التوفيق بين الطرفين مع عدم أهمية هذا الخلاف لبساطة الفارق الزمني إذا اعتبرنا جزءاً من الحملة العربية على مصر قد توغل غرباً بعد فتح مصر حتى وصل مدينة طرابلس ثم تبعته بقية الحملة في سنة 23هـ. والحقيقة التي لا مراء فيها أن مدينة طرابلس نفسها لم تخضع للعرب خضوعاً تاماً حتى سنة 26هـ عندما حاول عقبة بن نافع التوغل في أفريقية وفتحها، فاتخذ منها قاعدة حربية لأعماله الجديدة وبقيت بها حامية عربية. وكان والي مصر هو في نفس الوقت حاكماً لمدينة طرابلس، ولكنها سرعان ما انفصلت عن مصر عندما عين عمرو بن العاص والي مصر ابن خالته عقبة ابن نافع بن عبد القيس الفهري والياً عليها من قبله، فكان بذلك أول ولاتها الذين لم تصلنا أسماؤهم بعد

وكانت مدينة طرابلس خلال القرن الثاني والثالث الهجريين ميداناً للقلاقل والفتن الدينية نتيجة لأعمال فرقة الأباضية إحدى فرق الخوارج التي وجدت لها أتباعاً بين قبائل البربر من هوارة وزناتة؛ فأقلقوا بذلك بال الخلافة العباسية بهجومهم المتوالي على المدينة ومحاصرتهم لها. وكذلك كانت حالة طرابلس أثناء حكم بني الأغلب مما سهل على العباس بن أحمد بن طولون والي مصر أن يغزو تلك المدينة بعد أن استولى على إقليم برقة واستطاع أن يتغلب على حاكمها محمد بن قرهب عند لبدة سنة 255هـ وحصره في مدينة طرابلس ثلاثة وأربعين يوماً تمكن من بعدها أن يفك الحصار عن نفسه

وتبعاً لقيام الخلافة الفاطمية في المغرب خضعت طرابلس لسلطانها، وتولى حكمها أفراد من بني خزرون الذين أسلموها إلى بني حفص أصحاب اليد الطولى في رخائها وتعميرها كما يحدثنا بذلك التيجاني في رحلته عندما زار المدينة سنة 1308م فيخبرنا بإقامة الحاكم في قصر بديع ربما كان القصر الحالي قد بنى على أنقاضه. ويحدثنا عن طريقة حكم المدينة بواسطة مساعدة مجلس من شيوخ المدينة يتكون من عشرة أعضاء. ولا يخفى التيجاني إعجابه بحمامات المدينة ونظافتها وشوارعها الواسعة المنسقة التي يتلاقى معظمها بزوايا منظمة، كما أعجبته آثارها ومسجده الملقب بالجامع الأعظم، ومدرستها المسماة بالمستنصرية، وأسوارها المحصنة بالأبراج والخنادق. والخلاصة أن الحياة كانت فيها كما وصفها لنا ناعمة مزدهرة. ولكن تنازع أفراد بني حفص على الحكم وانشغالهم عن الإصلاحات الضرورية جعل المدينة تأخذ في التدهور والضعف مما عرضها لهجمات أهل جنوا، إذ كان كثير من تجارها يترددون عليها، فعرفوا نقط الضعف فيها، ولم ينقذها من أيديهم إلا تلك الفدية التي قدمها لهم أبو العباس أحمد بن مكي صاحب قابس وقدرها خمسون ألف مثقال من الذهب الخالص

وما كادت المدينة تسترجع أنفاسها بعد هذا الغزو الأجنبي حتى وقعت مرة أخرى في قبضة الإسبانيين سنة 1510م الذين مكثوا فيها عشرين عاماً عاثوا فيها فساداً ولكنهم مع ذلك جددوا قصر حاكمها الذي ما زال محتفظاً ببعض شكله حتى يومنا هذا كما أصلحوا ما تهدم من أسوارها وبنوا الرصيف المعروف باسمهم في ميناء المدينة لرسو سفنهم واتخذوا منها قاعدة بحرية لمعاكسة أعمال العثمانيين في البحر الأبيض المتوسط في ذلك الوقت. ثم انتقلت بعد ذلك إلى أيدي فرسان القديس يوحنا في جزيرة مالطة الذين بقوا فيها حتى سنة 1551م بمساعدة شارل الخامس إمبراطور الدولة الرومانية المقدسة رغم ما عانوه من هجمات ثوار العرب بمساعدة سكان البلاد الداخلية. وتروى لنا كتب التاريخ قصة طريفة عن مقدمات احتلال الأسبان لمدينة طرابلس، وهي ولاشك أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة وتتلخص في أن الأسطول الإسباني التجاري قدم إلى الميناء فأتى أحد أهالي المدينة واشترى جميع سلع المراكب ودفع لأصحابها الثمن فوراً، ثم استضافهم رجل آخر في بيته بعد أن جهز لهم طعاماً فاخراً، ولما أخرجه لهم أخذ ياقوتة ثمينة وسحقها ورشها على طعامهم فبهتوا لذلك الأمر، ولما انتهوا من الطعام قدم لهم بطيخاً فطلبوا سكيناً لقطعها فلم توجد في داره تلك الآلة البسيطة الضرورية ولا عند جاره إلى أن خرجوا إلى السوق وأتوا بسكين. فلما رجع هؤلاء التجار إلى بلدهم سألهم ملكهم عن حال البلد التي قدموا منها، فقالوا: ما رأينا بلداً أكثر منها مالاً وأقل سلاحاً وأعجز أهلاً عن مدافعة عدو. وحكوا له الحاكيتين فتشجع بذلك وتأهب للاستيلاء عليها

على أن تفاقم استبداد الإسبانيين بأهالي مدينة طرابلس أجبرهم على الهجرة منها والالتجاء إلى مدينة (تاجوراء)؛ ثم انتخبوا وفداً للذهاب إلى دار الخلافة العثمانية طالبين تخليصهم من أيدي الإسبانيين فأجاب السلطان سليم الأول طلبهم وأرسل معهم مراد بك أغا أحد أغوات الحرم الذي تمكن من تخليصها من أيدي الإسبانيين في 13 أغسطس سنة 1551م بعد أن فر حاكمها إلى جزيرة مالطة. وبذلك أصبح مراد أغا حاكماً للمدينة وما زال مسجده الذي بناه في سنة 1554م في تاجوراء يحمل ذكراه إلى يومنا هذا. وعبثاً حاول الأسبان وشركاؤهم فرسان مالطة استرجاع المدينة. ولم تبق لهم طريقة ينتقمون بها من العثمانيين سوى انسلال مراكبهم إلى داخل الميناء ليلاً وإحراق السفن العثمانية

هكذا أصبحت طرابلس تحت الحكم العثماني يتولى شأنها ولاة يعينهم السلطان، ولكن نظراً لبعد المدينة عن الحكومة المركزية في الأستانة وضعف خلفاء بني عثمان بمرور الزمن عمل الولاة على الانفصال عن الحكومة المركزية خصوصاً بعد أن اختلطوا بأهل البلاد. فنرى أحمد باشا القره مانلي يعلن استقلاله في سنة 1711م مؤسساً أسرة القره مانلية التي حكمت حتى سنة 1835م. وقد خلفت لنا هذه الأسرة الكريمة عدة آثار قيمة تشهد بعظم شأنها وحكمها ولاسيما أحمد باشا القره مانلي الذي حكم حوالي أربعة وثلاثين عاماً كانت بمثابة العصر الذهبي لتاريخ هذه المدينة، إذ استطاعت بسط نفوذها على داخل البلاد حتى فزان وحدود برقة شرقاً، وعمل على حفر قنوات لجلب المياه العذبة للمدينة من العيون القريبة، فضلاً عن حفره عيناً على الساحل لتزويد البحارة بالمياه العذبة، وهذا لا يعد شيئاً بجانب مسجده الذي شيده في سنة 1738م، ومدرسته التي ما زالت عامرة بالطلبة حتى يومنا هذا تستمد نشاطها من الأوقاف المخصصة لها. وكان قصره ندوة لقناصل الدول لكسب صداقته. خصوصاً وأنه أتبع سياسة التسامح نحو المسيحيين فكثر عددهم في المدينة فضلاً عن أنه أحسن معاملة بعثات الفرنسسكان. هذا قليل من كثير يشهد بحسن أعمال مؤسس هذا البيت، ولولا ضيق المقام لأتيت على باقي أعمال أفراد هذه الأسرة التي رفعت من شأن طرابلس وجعلت دول أوربا تخطب ودها نظراً لما كان لأسطولها من سطوة في مياه البحر الأبيض المتوسط

ولولا ذلك الوباء الذي اكتسح المدينة على أثر مجاعة حلت بها سنة 1784 - 1785م والذي قضي على أربعة عشر ألف نسمة من سكانها البالغين مائتي ألف؛ ولولا تلك المنازعات العائلية من أجل تولي الحكم والتي أفسحت المجال للتدخل الأجنبي؛ ولولا دسائس قنصل فرنسا وإنجلترا لافتراس البلاد لبقيت طرابلس محتفظة باستقلالها وكيانها مدة أطول من تلك الفترة التي تمتعت بها ولكن كل هذه العوامل عجلت تداعي الكره مانلي ما ساعد تركيا على استعادة البلاد مرة ثانية يوم 28 مايو سنة 1835م. وبابتداء ذلك التاريخ تبدأ صفحة جديدة في تاريخ مدينة طرابلس الغرب حاول الأتراك خلالها إصلاح الحال ولكن الأجل لم يساعدها على تحقيق ذلك إذ سرعان ما احتلت الجيوش الإيطالية تلك المدينة في عصر يوم 5 أكتوبر سنة 1911م على أثر إعلانها الحرب على تركيا

وبابتداء هذا التاريخ أيضاً تدخل مدينة طرابلس الغرب في حياة جديدة أرجو التحدث عنها في مقال آخر مع ذكر أهم آثارها ووصف موجز لبعض إحيائها وعادات أهلها وأشهر علمائها ورجالها

مصطفى بعبو الطرابلسي

كلية الآداب - القاهرة