مجلة الرسالة/العدد 446/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 446/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 01 - 1942



نظرة جديدة

في (أرواح شاردة)

بمناسبة طبعته الثانية

للأديب حسين محمود البشبيشي

ما ظنك بالروح الشاعر إذا تفتَّح ليستوعب أسرار الوجود، وتغلغل يتأمل ألوان الجمال؟ وما ظنك بالفكر القادر إذا عقد النية على كشف منبهم الأمور، والبحث وراء بوارق المعرفة والنور؟ وما ظنك بالفن الساحر إذا تشوّف إلى الشوارد الفنية الباسمة، وتتطلع إلى مباهج الحياة الفاتنة.

. . . ذلك فيض من (أرواح شاردة)!!

وقع الكتاب في يدي صدفة، فتناولته بلهفة. . . لست أدري أكان مصدرها تجاوب الروح بيني وبين أرواحه الشاردة، أم الرغبة في الإطلاع على لون من الأدب جديد الطابع فريد المنزع.

لست أدري كل هذا؛ ولكن الذي أعلمه هو أني حسن الظن - عن حق - بصاحبه الشاعر، قوي الإيمان بروحه الساحر وشفافية وجدانه، وتألق لفظه، وعذوبة جرسه التي يخيل إلى المرء أنه ينسجها من قلبه نسجاً، أو يسكبها من روحه سكباً

. . . وقرأت الكتاب فوجدتُ روح الفنان غالبةً على روح الشاعر، وروح الشاعر طاغية على روح الكاتب. فهو في كثير من الأحايين يعرض لدراسة شاعرٍ في استقراء الكاتب المحقق؛ ثم هو بعد ذلك يحاول أن يدفع عن الشعراء كل تهمة جائرة مجرّداً لذلك قلمه ساكباً فيه عصارة قلبه. . . ونظرة واحدة إلى دفاعه عن شارل بودلير تريك صدق ما أقول فقد جاء في مقام تعليل انغماسه في الشهوة العارمة، وتلويثه للجمال الأرضي (لقد كان بودلير فناناً صادقاً طموحاً محباً للجمال وعلى العكس مما يرى الكثيرون فإنه باندفاعه المحزن في تلويث الجمال الأرضي، وردّه كل أنثى امرأة عاهرة، قد أفشى عاطفته المكرسة لعبادة الجمال المطلق). . . وهذا كلام بعثه قلبٌ شاعر يدفع عن قلبٍ شاعر! ووجدت روحَ المؤلف حائرة بين مباهج الشعر، ومفاتن النثر، ولكن ميله الشعري جعله يعرض لدراسة الشعراء أكثر من دراسة الكتاب.

أفلم يعرض لنا بول فيرلين ويسايره أصدق مسايرة، ويتابعه متابعة الشاعر يقدر عظمة الشاعر؟

أو لم يقدم لنا بودلير في فتنة شعره، ويقظة وجدانه، وتوهج شهواته؟ ثم أكثر من ذلك إن روح الشعر في نفس صاحبنا غلبت عليه فجعلته يترجم قبره شلي، وعودة الملاح لجون ما سفيلد، وأغنية القطيع، وبيت الراعي، ثم يشرق علينا بنفحة شعرية هي قصيدته في باريس.

لو أستطيع أن أقول إنه حتى فيما كتب عن ذكرياته في آخر الكتاب كان شاعراً في كثير من الأحايين.

وليس بغريب أن يختار هؤلاء الشعراء موضوعاً لبحثه، فبين نظرتهم الفنية النفسية إلى الحياة بين نظرة صلات ووشائج يدركها الناقد الفطن!

ولا يسعنا إلا أن نقول إنه في اختياره لقصائد القبرة وعودة الملاح، وبيت الراعي، كان منسجماً مع اتجاهات نفسه وأحاسيسه، ولكني أعتقد أن شعوره نحو هذه القصائد يختلف قوة وضعفاً؛ وتبعاً لذلك تتفاوت القصائد.

ولا يسعني إلا أن أرفع القبرة إلى مستوى قدرة شاعرنا نفسه التي لمسناها حية متألقة بسامة في (الجندول)، وفي قصيدته الخالدة (موت شاعر)، ولعل هذه القصيدة الأخيرة كانت أول عهدي بالملاح التائه، ثم قصيدته في ميلاد الشاعر التي نشرتها مجلة أبولو عقب وفاة شوقي.

ونعود فنذكر رنة مطلعها، وحسن اختيار بحرها، وعذوبة قافيتها وشاعرنا يجيد الاستهلال. أنظر إلى روعة المطلع:

يا أيها الروح يهفو حوله الفرح ... تحية أيُّهذا الصادح المرحُ!

عن أمة الطير هذا اللحن ما سمعتْ ... بمثله الأرض، لا روض ولا صّدّحُ

أنت الذي من سماء الروح منهُله ... خمرٌ إلهية لم تحوها قدحُ

يفيض قلبك ألحاناً يسلسلها ... فن طليق من الوجدان منسرح ولكن أطربني، وهاج خواطري، وحلق بي في جو من الخيال الباسم الوضيء قدرته على صوغ هذه المعاني السامية إذ يقول:

إنا نفكر في ماضٍ بلا أثرٍ ... ومُقبلٍ من حياة كلها غيب!

ومستحيل نُرّجي برقً ديمته ... وكل ما نرتجيه نه مختلب

وكم لنا ضحكاتُ غير صادقة ... ما لم يشب صفوها التبريح والوصب

وإن أشهى الأغاني في مسامعنا ... ما سال وهو حزين اللحن مكتئب!

وهنا وقفة يجب أن يقفها الثائرون على النغم الحزين في أغانينا؛ فهذا شلي الشاعر العالمي ينطق بلسان الفلسفة التي لا وطن لها. إن الحن الحزين هو أشهى ما تسع الإنسانية الحساسة الشفافة التي ترقب الزهر الوليد بنفس العين التي تودع الزهر الذابل أما قصيدة عودة الملاح فلعله ترجمها بدافع تجانس الميول، وتقارب الأحاسيس؛ فقد كان شاعرنا ملاحاً تائهاً! فهو كما يظهر يحب البحر، أو في طبيعته الزخارة بالوجدانات شيء من طبيعة البحر؛ وإلا فلم ترجم عودة الملاح؟ الجواب ينطق به مطلعها:

يا فرحتي للبحر أرجعُ ثانياً ... متفرِّداً بعبائه وسمائه

أقصى منايَ سفينة ممشوقة ... وبزوغ نجم أهتدي بضيائه

بعد أن بينت الدوافع إلى ترجمته لهؤلاء الشعراء ولتك القصائد أدع الكاتب نفسه يعبر عن سبب ترجمته لقصيدة (بيت الراعي) فيقول: (لأنها ذات موضوع طريف حافل، يتكلم فيه الشاعر بدقة ورقة وصراحة وعظمة عن القلب والروح والجسد وشقاء النفس الشاعرة بهذا العالم الجارح ومدنيته الجافية القاسية)

وهذا يصدق قولي في أن الشاعر اختار ما جانس أحاسيسه ولابس وجدانه.

ونتكلم عن ذكريات مرت بقلبه، وعطرت بأريجها ألفاف روحه، وتغلغلت في أحاسيسه، فخَّلدها. . .!

وإنك لتلمح في ليلته الأولى وحشة الغريب ولهفة المشتاق؛ وترى في ميدان إسدرا سحر الألحان وروح الفنان، وتحس في يوم فرساي نشوة الطرب وروعة الجمال، وتنسم من فتاة برن عبير الروح وعبق القلب. . . ثم ترى في قصيدة باريس دمعة الفنان وثورة الوجدان!

تلك هي ذكريات صاحب الجندول التي خضع فيها - كما سأبين - الروح الشاعرية، والنزعة الشرقية، والثقافة الأوربية، ثم في كثير من الأحايين لطريقة أستاذنا الزيات فكيف كان ذلك؟!

أما خضوعه للشاعرية فأمر محتوم، وما كان له أن يتخلص من قيودها الحبيبة الباسمة، بل أنها لتظهر في كثير من اللفتات الرائعة في ألفاف ذكرياته. فهو مقيد بروح الشعر وخاصة عند الحديث عن الجمال والفن بل وكل ما يتصل بالجمال والفن؛ فإن خياله ليصف الحسناء فيقول في معنى شعري ساحر: كأنها طفلة إلهية هبطت لأول مرة عالم الأرض؛ ويطيب لروحه الشاعر أن يتبعها بسجع حلو رقيق فاتن. . . ولعل شاعرنا قد تأثر قليلاً بطريقة أستاذنا الزيات في الصناعة القوية العذبة.

وهو شاعر تنساب حياته انسياب خاطرة الدافق، وتجري جريان خياله المتألق في سهولة ووضاءة وسلام، ولكن الأقدار تأبى (إلا أن تضع في طريقه حادثاً غريباً وشاغلاً عجيباً)، وفي حديثه عن فتيات باريس (وفي عيونهن من أسرار الليل الذاهب ألق، وفي شعورهن من خمر المساء الغابر عبق)، وهو يحلو له أن يعبر عن حيرة وجدانه بسجعة رنانة تحمل من الشاعرية روح الحيوية، وتحمل من الفن حلاوة الجرس، فيخيل له أنه مطارد (يلاحقه خوف أو يتأثره حتف)

وحين يقول: (وبدأت إنشادها بصوت يتماوج مرحاً، ويتفجر شباباً، ويترسل صفاء وعذوبة وسحراً، وانفعلت هي بغنائها، فاستحالت طيفاً راقصاً نابضاً باهتزازات هذه الأنعام المنطلقة في سكون الليل تودع السلام والحب والرحمة في قلب العالم!)

تلك هي ناحية الشاعرية في نثر الكاتب جلّينا عنها في إيجاز؛ أما ناحية تأثره بالأدب الغربي فظاهرة في كثير من اللفتات، فهو يجمل للضوء أنابيب زئبقية! وللأضواء العاكسة دهاليز من أشعة الشمس تمرق من خلال الغمام الأبيض، بل أنه ليغرق في الروح الغربية، حين يجعل الهواء يرفع معطف فتاته الحريري الأبيض الهفاف إلى ما فوق ذراعيها، فكأنها ملك السحاب يضرب بجناحيه الناصعين في الزرقة الصافية متقدماً رعيلاً من الغمام الأبيض!

بقيت ناحية حبه للشرق والوطن، فهو يهتاج عندما يرى جثة الرسول مرقص فيقف خطيباً في صحبه ويقول: (هذا الرسول الذي ضن البنادقة على مصر بجثته) ثم هو لا يسأم من ذكر مصر ولو عارض فتاة القلب وقطع عليها حديثها عندما قالت: وهناك بلاد غير بعيدة عن روما وأثينا. . . وعنها أخذ العالم أرفع الفنون. . . فيهتف: بل لا يزال يأخذ عنها!

وكم هزني منه هذه اللفتة الحية النابضة بالوطنية عندما قرن الصحراء والبحيرات الأفريقية والنيل المقدس ببحيرات سويسرا وإيطاليا ومساقط الماء في جبال إنسبرول. . .

ثم هو يهتاج لرؤيته الشباب الأوربي يتألق قوة وهو يسعى للقتال، وقد وقفت الفتيات ينثرن الابتسامات على جباه الشباب البسل. فيتمنى لو يقدر الله له أن يرى مثل هذا المنظر في مصر وطنه الحبيب.

ولعل أطرف ما قابلني من غيرته الوطنية دفاعه العجيب الفلسفي عن الفن المصري وخلوه من الفن العاري!! فيقول معللاً ذلك بأن الحياة في مصر سهلة، والسماء صافية، وكل شيء يفصح في غير إبهام. . . وأن هذا الصفاء والإفصاح بعثت في النفس الرغبة في التستر. . . وهكذا يخلق شاعرنا من موضع النقص في فننا موضعاً للتأمل الفلسفي. . . فتأمل!

أما قصيدة باريس الراقصة المعاني الرنانة الجرس. فحسب مطلعها روعة

سألوني عن بياني وقصيدي ... أسفا باريس قد مات نشيدي!

ولكن كيف يموت النشيد الذي يقول:

صرع النور به وانحسرت ... جبهة الشمس عن النور الشهيد

بل كيف يموت النشيد الذي يقول:

وابعثيها ثورة أخرى فما ... يعرف الأحرار معنى للجمود

وبعد هذا هو الروح الشاعر والفكر القادر والفن الباهر ففيض من أرواح شاردة.

حسين محمود البشبيشي