مجلة الرسالة/العدد 446/مع الشمس الغاربة

مجلة الرسالة/العدد 446/مع الشمس الغاربة

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 01 - 1942



للأستاذ م. دراج

واعجباً لهذا الفكر المضطرب! كلما تهيأت لأواجه موضوعاً خذلني وارتد القلم يترنح من عنف الصدمة، تاركاً وراءه خطوطاً مائلة منكسرة متعرجة - كتلك التي تجرها يد طفل عابث - هي كل ما أغنمه من أسلاب الفكر المهزوم!. . . حاولت ذلك مرة في الإسكندرية، وأخرى في دمياط، وثالثة في المحلة الكبرى، ومرة أخيرة هنا في القاهرة، ومع ذلك فشلت، وكان فشلي محزناً يدعو إلى الإشفاق. لم أدر لذلك سبباً، فأنا حين أكتب لا أحتاج إلى جو خاص، وليس ثمة ضجيج يمنعني عن الكتابة أو سكون يعينني عليها. ذلك لأني لا أغتصب الفكر شيئاً إلا إذا أحسست رغبة قوية عميقة حارة تدفعني إلى الإذعان له.

وهاأنذا أعود مرة أخرى إلى الإسكندرية لأحاول من جديد إخضاع الفكرة العصية المتمردة لعلها تلين وترضي. . . فهل من سبب لهذه الظاهرة؛ أجيبوا يا أصحاب الخبرة والتجارب؟

كنت أفكر في هذه المرحلة التاريخية التي كان من حظي أن أعيش فيها لأشاهد أعظم انفجار عالمي يوشك أن يزلزل رسوم الحياة، بما فيها من نظم وأخلاق، وعادات وأفكار، تتصل كلها لصميم الحضارة - حضارة القرن العشرين - تلك التي كلما فشلت في رسالتها، قذفت بالبشرية في جحيم باسم الحرية، ذلك الوهم المنحوس.

وكان هذا التفكير يجلو لعينيَّ غامضة، تسطع فجأة، ويتألق نورها، فأرى على وميضه بلاداً غنية التربة، تنتج من الغلال والحبوب فوق حاجتها فلا ترى مانعاً من أن تلقي بالفائض في البحر، كلما وجدت في هذا العمل الشائن ما يحفظ للسلعة سعرها العالمي المناسب. . . فهذه كميات عظيمة من الأذرة تروح (علفاً) للخيل، وتلك مقادير هائلة من ثمار (الموز) تبتلعها الأمواج، وأخرى من البن تلقى بين النيران المتأججة. ثم أشاهد أناساً يسكنون الأصقاع الشمالية ينتفضون من الجوع والبرد، يتضورون بين الدغال طلباً للخبز أو الدفء فلا يكادون يبلغونه إلا على سنان المخاطر. . . ثم أجدني قد انتقلت إلى سوق أخرى تزدحم فيها المصانع، وتتكدس الآلات والمنتجات، ويكثر التعطل والجوع والحرمان!! وتمر الأقطار أمام عيني مراً سريعاً، وكأني أشاهدها على الشاشة البيضاء.

فهذه رقاع من الأرض ضيقة الشقة قليلة الموارد صخرية التربة يتمتع أهلوها بأطايب الحضارة وملذاتها؛ وأخرى بلاد غنية تدر الذهب، وتخصب الشهد، ومع ذلك فهي فقيرة يعيش أهلوها جياعاً حفاة شبه عراة!! وثمة شعوب تابعة ومتبوعة. صور عجيبة متناقضة تنتظم سلك الحضارة، ومع ذلك يأسفون لوقوع الحرب! ويندبون حظ الحضارة الآفلة!!. . .

هذه هي الحياة كما رأيتها على وميض الفكر الواعي: خداع وطمع، وسيادة واستعباد، ترف وحرمان، ضحكات ودموع؛ وحشية عارية تستتر وراء الفكرة الخبيثة التي يسمونها بالحرية! فأنتفع من هذا كله بشيء واحد، برعت المدينة في إبداعه من حيث أخفقت في كل شيء. ذلك هو المظهر الخلاب على الجوهر الرخيص المبتذل. وكأن اللذين فتنتهم هذه المدينة نسوا أن الظاهر تعيش حيناً ثم يعروها التلف والفناء، أما الجوهر فيبقى دائماً كما هو. . .

كانت الشمس تحتضر عند حافة الأفق البعيد، لما أشرقت أفكاري بهذه الصورة الغاربة. وكنت قد أسلمت نفسي لصديقي أتبع خطواته كطفل وديع مطيع، لا أعترض ولا أستفسر عن شيء، حتى أستقر بنا المطاف على متكأ عند شاطئ البحر نشاهد هذا الصراع العنيف بين عناصر الطبيعة، وتتابع تطوراته باهتمام بالغ. فرأينا الشمس الغاربة مكفهرة الوجه، تسيل منها العبرات شعاعاً مخنوقاً يتساقط على مياه البحر، فيصبغها بلونه الأرجواني الحزين. وهناك في الجانب الآخر من الأفق، كانت طلائع الليل الزاحف تتواثب هنا وهناك ملقية ظلالها الكئيبة على الأحياء، والبحر واجم يتلقى أنفاس الشمس اللاهثة بحنان وصمت غريبين. أما الطيور فكانت جازعة، كأم روعها الخطر على وليدها، فهي تروح وتغدو مولولة صارخة تستنجد ولا مغيث! حتى إذا هجم الليل هجومه الأخير، ارتعش النور، واضطربت الشمس، ثم أسلمت نفسها للمغيب. . .

سقطت الشمس الغاربة في هوة المغيب، فأحسس برجة عنيفة تسلبني اليقظة، وتتركني إنساناً بلا وعي. كنت - في الحقيقة - جسماً ملقى على الجدار الصخري القائم عند التقاء اليابسة بالبحر، لا يحس ولا يتأثر بما حوله، فإن بدت منه التفاته إلى هنا أو هناك، فهي بلا شك نظرات لا معنى لها، كتلك التي تصدر عادة من ذوي الأفكار الشاردة. آه، لقد عرفت الآن أن هذه الرجة التي أصابتني، لم تكن إلا وثبة من أفكاري لحقت بالشمس الغاربة في دنيا المغيب.

أين يذهب هذا النور؟ ولاذا تبدو عليه دلائل الإعياء كلما غرب أو أشرق؟ هذا كانت توسوس نفسي! فتبعث آخر شعاع ينفلت من يد الظلام، وانسللت وراءه أتجسس في دنيا المغيب عن أسرار هذا الكون العجيب. سمعت همساً يدور حول جريحة تنزف الدماء منها بغزارة، وليس في وسع أحد أن ينقذها من الخطر.

هم يقولون: إنها ظالمة لنفسها، وليس ثم من يستطيع علاجها إذا كانت أظافرها هي سبب بلائها! وفجأة، رأيت لهيباً يندلع في الجو، وسحباً داكنة تنعقد في سمائه، ومياهاً باردة ترتطم بوجهي، فأصحو من غشيتي لأسمع زئير البحر الهائج، وقد تدافعت أمواجه وتلاطمت، وقذفت وجهي برشاشها المتطاير. ثم أسمع دوياً هائلاً يهز الأرض هزاً عنيفاً يعقبه طلقات سريعة متتابعة تندفع إلى السماء مزمجرة صاخبة، فأطلع بوجهي إلى حيث استقرت في كبد الظلمة فأرى خطوطاً من النور تمتد وتتطاول، ثم تتحرك في سرعة خاطفة، والأشباح تهوم في الفضاء، والريح البادرة تعصف بشدة، فأدرك في الحال من تكون تلك الجريحة التي كانوا يتهامسون عنها في دنيا المغيب! وأعلم أنها (الإنسانية) التي طعنت نفسها بسلاح الطمع وأضرمت في جسمها نار الحرب!

أما النور الذي يبدو عليه الإعياء كلما غرب أو أشرق! فهو الحرية التي يتعلل بها المجرمون في دنيا الوحشية والطغيان!

وهنا هتف صديقي قائلاً: لقد غربت الشمس، وأسدل الليل ستاره الأخير! فزدت، وانقضت الحرب بصواعقها، وما تدري متى ترفع نقمتها عن العالمين.

م. دراج