مجلة الرسالة/العدد 447/الأجنحة المتكسرة

مجلة الرسالة/العدد 447/الأجنحة المتكسرة

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 01 - 1942


للدكتور زكي مبارك

تمهيد - النفسية السورية - أحزان سريانية - مهاجرون بلا أنصار - الجميل الغادر - الأمل الضائع - أسلوب جبران - مسألة فيها نظر - الثورة على رجال الدين - جريمة جبران - صدق جبران - الإهداء -

تمهيد

كنت أعفيت نفسي من إتمام هذه الدراسات النقدية بسبب ما توجب من الإرهاق، فليس من السهل أن يقرأ المرء كتاباً في كل أسبوع ثم يكتب عنه بحثاُ يرتضيه جمهور القراء، ولكن جماعة من طلبة السنة التوجيهية كتبوا يسألون عن المغازي المطلوبة في كتاب (الأجنحة المتكسرة) للمرحوم جبران خليل جبران، كما سأل فريق عن (وحي الأربعين) للأستاذ عباس العقاد، و (فيض الخاطر) للأستاذ أحمد أمين، فرأيت أن أغتنم ما بقي من الوقت الذي يسبق الامتحان الشفوي لأتتم هذه السلسلة من الدراسات، مع الاعتراف بأنها ليست إلا توجيهات سريعة يراد بها إرشاد القراء إلى طريق الاستقصاء.

وطلبة السنة التوجيهية يذكرون أن الامتحان التحريري سيُعقد في التاسع والعشرين من هذا الشهر، فليُقبلوا عليه بلا تهيب، وليكتبوا بحرية مصحوبة بالرزانة والعقل، وليطمئنوا إلى أن المصححين، قد يرضون منهم بالقليل إن رأوا فيه بوارق تشهد بأنهم على شيء من الفهم العلمي والذوق الأدبي، كتب الله لهم التوفيق!

النفسية السورية

حديث اليوم عن (الأجنحة المتكسرة) لجبران، وقد ضاق الوقت عن مراجعة ما كُتِب عن الأدب الحديث في الديار السورية واللبنانية، وكان من السهل أن أنتفع بكتاب الأستاذ ميخائيل نعيمة عن جبران، ولكني لم أجده في مكاتب القاهرة، ولا وجدت من الفراغ ما يسمح باستعارته من أحد الزملاء، فلم يبق إلا أن أقول في جبران وكتابه كلمةً وجيزة تقرّب مراميه إلى القراء بعض التقريب.

فما تلك الأجنحة المتكسرة؟ كان الرأي عندي أن المؤلف يرمز إلى الأجنحة الفلسطينية والسورية واللبنانية، فجبران في صفحات هذا الكتاب يعبر عن الأشجان الموروثة في تلك البلاد، ثم وجدت في كتابه فقرةً تشهد بذلك، فعرفت أن حكمي على اتجاهاته النفسية لم يكن ضرباً من التخمين.

أحزان سريانية

لكل أدب من الآداب القديمة خصائص، وخصيصة الأدب السرياني هي الإسراف في البكاء، فجبران الحزين هو البقية من روح السُّريان القدماء.

وعلة الحزن السرياني أو السوري لا تحتاج إلى توضيح، فأولئك أقوام كان تاريخهم كله عراكاً في عراك، ولم تكن بلادهم إلا محترّباً يتصاول فيه الفقر والغنى، والعبودية والحرية، والخوف والأمان، بغض النظر عن احتراب العواطف والشجون

وبكاء تلك البلاد لا يمثل العجز، وإنما يمثل العتب على القضاء وقد يرتاض على الصبر الجميل في بعض الأحيان.

ومن أشهر الأغاني السورية هذا الصوت:

ماشي الحالْ، وماشي الحالْ

وما في حالْ، وماشي الحالْ

خلّيها لله، يدبِّرْها الله

وهذه الأغنية هي الصرخة الباقية من بكاء السريان، وهو بكاء ممزوج بالصفح عن كيد الزمان، أو الرجاء في عدل القضاء.

مهاجرون بلا أنصار

والتاريخ يشهد أن الهجرة كانت من المذاهب السورية في كثير من العهود، وهو مع ذلك يشهد ان السوريين كانوا في الأغلب مهاجرين بلا أنصار، فقد بنى أجدادهم الفينيقيون مدينة (مرسيليا) قبل أكثر من خمسة وعشرين قرناً، ولم تحفظ لهم مرسيليا هذا الصنيع، فأحفاد أولئك البناءين لا يعيشون اليوم في مرسيليا إلا تراجمة أو حمّالين.

ثم هاجرَ السوريون المحدَثون إلى أمريكا، ولم يتركوا قالة من قالات الخير إلا أضافوها إلى الأمريكان، فهل تأمْركوا ونسوا وطن الآباء والأجداد؟ إن نُواحهم الموصول يشهد بأنهم في أمريكا غرباء!

فمن أراد أن يعرف سرّ الحزن في الأدب السرياني القديم، ومصدر اللوعة في الأدب السوري الحديث. فليذكر أن الاغتراب والاضطهاد هما الأصل في ذلك البكاء.

ومن أجل هذا كان السوريون أحرص الناس على تأييد فكرة العروبة لأنهم يرجون أن تكون وطناً فسيح الأرجاء يغنيهم عن الاتجاه إلى الغرب؛ ومن الغرب جاء الاغتراب!

ومن أجل هذا أيضاً كان السوري ينقل وطنه إلى كل أرض ليذكره في كل وقت، عساه يرجع إليه ولو بعد حين.

ومن أجل هذا وذاك كان السوري في أغلب أحواله من رجال الأعمال، ليرحم نفسه من اجترار الأشجان. والغنى في الغربة وطن، كما قال أسلافنا الحكماء.

الجميل الغادر

هو جبل لبنان، الجبل الذي يدعو أبناءه في كل لحظة إلى امتطاء غارب المحيط ليجدوا المجد أو القوت فيما وراء البحار. وكذلك يرحل اللبناني عن الجبل والدمع في عينيه ليواجه العالم بنفس منطوية على الإباء المكبوت أو الهوى الدفين

ولو جمع ما قال المهاجرون اللبنانيون في الشوق إلى ذلك الغادر الجميل لكان تحفة رائعة من صور الوجد والحنين

السوريون المغتربون لا ينسون وطنهم أبداً. وكيف ينسونه وهم مهاجرون بلا أنصار، ولا عزاء لهم غير تمثل ما في بلادهم من أزهار ورياحين؟

الأمل الضائع

كان السوريون واللبنانيون قد رفعوا علم العروبة في الأقطار الأمريكية فأتاحوا لنا القول بأنهم بعثوا (الأندلس) من جديد، وكيف لا يكون الأمر كذلك وقد أنجبوا أدباء من أمثال نعيمة وجبران؟

ولكن الطبيعة تريد غير ما نريد

الطبيعة قضت بأن يكون لبني العمومة في الأمريكتين زوجات أمريكيات وأبناء مخضرمون يعجزون عن فهم لغة الآباء الأصلاء.

وهنا يظهر (عيب) اللغة العربية، فهي ليست لغة تفاهم بسيط ينتفع به الناس في أمور المعاش، وإنما هي لغة أدب وذوق، ولغات الآداب والأذواق لا تعيش بين الأبناء الدخلاء، وذلك هو السر في انحسار اللغة العربية عن بعض الأقطار الإسلامية، وهو أيضاً السر في أن اللغة التي يتكلمها أكثر من مائة مليون لا تنجب في كل عصر أكثر من مائة أديب.

كيف يعود الأدب العربي إلى الأمريكتين من جديد؟

أعتقد أننا خذلنا أولئك الإخوان، فلم نعاونهم على إعزاز العصبية العربية في البلاد الأمريكية ولم نقدم إليهم من المساعدات المالية مثل الذي نقدم إلى بعض الجمعيات العلمية في الممالك الأوربية.

هل سمعتم أن دار الكتب المصرية أو مكتبة الأزهر أو مكتبة الجامعة المصرية أو مكتبة الإسكندرية أو مكتبة وزارة المعارف قد اشتركت في المجلات التي تصدر باللغة العربية في المهاجر السورية كما تشترك في المؤلفات التي ينشرها المستشرقون؟

إلى أهل الغيرة على اللغة العربية نوجه هذا السؤال

أسلوب جبران

عرفنا السر في أحزن جبران، ولم يبق إلا أن ننظر في كتابه الحزين، فماذا نقول؟

نكتب أولاً كلمة عن أسلوب هذا الكاتب؛ ثم نمضي في عرض ما في كتابه من دقائق الأغراض

جبران أراد أن يكون أسلوبه زهرة لا شجرة، فأساء إلى نفسه من حيث لا يريد، وهل كان يتوهم أن النقد الأدبي سيعرف مقاتله بعد حين أو أحايين؟

أغلب الظن أن جبران كان يحب أن يعرف إخوانه في الشرق أن الحياة في أمريكا لم تنسه خصائص البلاغة العربية، وهي بلاغة ظلمها بعض أهليها فتوهموها فنوناً من الزخرف والبريق، وكذلك شاء جبران أن يكون في كل سطر من كتاباته تشبيهٌ طريف، أو لمحة فلسفية، أو رمز إلى غرض ملفوف يحار في تأويله القراء.

ولكن ما قصة الزهرة والشجرة؟

الزهرة غاية في أناقة التلوين، ولكل ورقة من أوراق الزهرة رونق أخاذ، مع أن أوراقها قد تعد بالعشرات؛ فهي سِحرٌ في سحر وفتونٌ في فتون.

ولا كذلك الشجرة، فهي أفنان مختلفات، وفيها ما يروق وما لا يروق، هي شجرة يعتدل فيها غصن وتعوجّ غصون، وتكون عشاً للبلبل كما تكون وكراً للثعبان.

الزهرة أجمل من الشجرة، ولكن الشجرة أقوى من الزهرة وأقدر على مقاومة العواصف والأعاصير، وكذلك يكون الفرق بين الأسلوب العارم والأسلوب الرقيق، كما يكون الفرق بين الطائر الجارح والطائر الغرِّيد.

ولو كان جبران حيّاً لأسمعته ما لا يحب، ولكنه اليوم في ضيافة التاريخ والتطاول عليه لا يليق.

والمهم هو تنبيه شبان اليوم إلى أن أسلوب جبران ليس أفضل الأساليب؛ فهو زهرة لا شجرة، ونحن نريد أن يكون الأسلوب من صور العنف والطغيان.

مسألة فيها نظر

جبران من أدباء العرب، ونقاد العرب قد فضحوا عمر بن أبي ربيعة حين رأوه يصور معشوقاته بصور المتهالكات على شبابه الجميل.

لا عيب في أن يقول الرجل إنه من هوى الملاح، ولكن ما لا يعاب قد يكون في بعض أحواله مما ينافي الذوق، فكيف استجاز جبران أن يجعل حبيبته صاحبة الخطوة الجريئة في التصريح بالحب، وصاحبة الفضل الأول في الإقدام على (التضحية) يوم اجتمعا لآخر مرة في المعبد الذي جمع بين صورة المسيح وصورة عشتروث؟

قد يجيب بأن جان جاك روسو قد استجاز مثل هذا الصنع ولكن غاب عنه أن روسو لم يقترف ذلك (التصريح) إلا وهو في عقل الأطفال.

جبران قال ما قال وهو في أمريكا (وأنا أزر الشرق) كما قال (ميسّيه) وهو يسخر من (هوجو) وقد يباح في تلك البلاد ما لا يباح!

الحق أن جبران أساء إلى الذوق العربي، وجنى على نفسه وعلى محبوبته جناية سيدخل بها الجحيم، ولن ألقاه هناك!

الثورة على رجال الدين

وغرة كتاب (الأجنحة المتكسرة) هي الصفحات الخاصة بالثورة على رجال الدين، وهي ثورة يحسها المسيحيون لا المسلمون؛ ذلك بأن الإسلام لا يعترف بالكهنوت ولا يقيم له أي ميزان، فالصلاة على الميت تصح من أي مخلوق متسم بالإسلام، وعقد الزواج ويُكتفي فيه بالإيجاب والقبول، والمسلم الصادق هو الذي يتقدم إلى ربه بلا وسيط.

ولا كذلك المسيحية: فهي تعطى رجال الدين طوائف كثيرة من الحقوق، وتمنحهم حرية التصرف في مصاير (المؤمنين) وكان ذلك لأن المسيحية تفترض أن الراعي في جميع أحواله غاية في الرفق والحنان.

والظاهر أن جبران قد اكتوت يداه بنيران رجال الدين، فهو يرجع إلى تجريحهم من صفحة إلى صفحة بلا رحمة ولا إشفاق.

وقد بلغ غاية الشوط فصرح بأن من حق المرأة أن تهجر بيت الزوج لتلقي حبيبها حين تشاء، بدون معاناة لوخز الضمير، وحجته أن (العَقد) الذي يمضيه (الحب) أصدق من العقد الذي يمضيه (المطران)

فكيف وصل الكاتب إلى هذا الحكم الفظيع؟

إن الإسلام لا يعترف لرجال الدين بأي خصوصية دينية، ولا يبيحهم التحكم في مصاير المؤمنين، ومع هذا يخشى المسلم أن تنتاشه ألسنة رجال الدين، لأن صوتهم هو المسموع في تقرير الشك واليقين، فكيف يكون إخواننا المسيحيون؟

الجواب عند جبران، وهو قد صرح بأن رجال الدين لا يخضعون لغير الأهواء، وإن كان من الحق أن نقرر أن هذا التعميم لا يخلو من الإسراف، فعند المسيحية رجال لا يجوز عليهم حكم جبران. وهل يصدُق الكاتب الثائر في كل ما يقول؟

ومع هذا فقد صدق هذا الكاتب بعض الصدق، لأن رجل الدين في المسيحية يدخل جميع البيوت بدون استئذان - ولاسيما في الشرق - وله يد في تعريف بعض العائلات إلى بعض؛ وقد يكون صلة الوصل في التمهيد للزواج، فما حالُ الفتاة التي لا تطيع هواه في التزوج من فلان أو فلان إذا كان من أصحاب الأغراض؟!

كان جبران يقنعني بأنه يحارب شخصية حقيقية للمطران (بولس غالب)؛ فاتصلت بالأستاذ أنطوان الجميّل تليفونيّاً لأسأله عن تلك الشخصية فأجاب بأنها شخصية خيالية، وأقول بأنها شخصية حقيقية، وسنعرف أخبارها بعد حين، وإن سترتها المعاريض) والمهم! هو أن يسجل النقد الأدبي أن كتاب (الأجنحة المتكسرة) ليس إلا ثورة على رجال الدين في لبنان، بغض النظر عما في تلك الثورة من صحة أو بطلان.

النقد الأدبي مؤرخ، وهو يسجل أعمال الناس، ومن الظلم أن يُسأل عن تلك الأعمال.

جريمة جبران

هي تأثره المكشوف بالأدب الأوربي في القرن التاسع عشر، وهو أدب جميل - ولكنه عليل - لأنه يجعل الحزن غاية الوجود.

ولكن الأدب الوجداني في القرن التاسع عشر غاية في الجمال لأنه غاية في الصدق، وهل ينسى الضمير الأدبي مآسي ميسّيه ولامرتين؟!

صدق جبران

ومع هذا فجبران صادق في بعض مناحيه الوجدانية، وهل يستطيع فتىً أن يبلغ العشرين في لبنان بلا آلام ولا آمال؟

وكيف يكون ذلك الفتى إذا طوّحت به المقادير إلى بلدٍ بعيد بعيد وهو موصول العهد بحبيب لا يرحمه التراب؟

الإهداء

أهدى جبران كتاب الأجنحة المتكسرة إلى: وقد سمت أنها إنسانة أمريكية كانت تنفق عليه لوجه الأدب الرفيع

فما السر في عطف تلك المرأة على جبران؟!

إن هذا الكاتب مغريً بوصف ما بين الإنسان والطبيعة من الصلات، وتلك حال لا يلتفت إليها الأدب الأمريكي كل الالتفات؛ فمن السهل أن نعلل إقبال تلك المرأة على جبران بأنها رأته (إنساناَ من الشرق) وكانت تعيش في بلاد تشغلها (السرعة) عن تعقب خطرات القلوب!

هو فتىً ضاقت عنه بلاده، مع أنها اتسعت لألوف الواغلين!

هو روح شرّده الشرق ليدرك سرائر الألم والحنين

هو فتىً يتحدث عن سلمى وليلى في بلاد لا تعرف غير مرجريت وسوزان هو فتىً بأن المعبد الوثني صار كنيسة ثم تحوّل إلى مسجد، ومعنى ذلك أنه يرحب بانتقال الروح من حال إلى أحوال

أما بعد فهل قلت شيئاً عن جبران؟

الشواغل لا تسمح بأن أقول أكثر مما قلت، وجهد المقلّ غير قليل!

زكي مبارك