مجلة الرسالة/العدد 448/الأزهر في عامه الجديد
مجلة الرسالة/العدد 448/الأزهر في عامه الجديد
بين الذكرى والأمل
للأستاذ عبد اللطيف محمد السبكي
فوق ما للأستاذ (الزيات) بين رجال الفكر والقلم من مكانة مرموقة؛ فإن له نزعة دينية تتمثل فيما يكتبه من حين إلى حين عن الثقافة الإسلامية وحاجة الناس إليها، وعن الأزهر وما يتصل بالأزهر من هذه الناحية. وبلاغة الزيات وروحه تقتضيان أن يقرأ له الناس إذا كتب، ويصغوا إليه إذا قال.
وقد تحدث الأستاذ في افتتاحية (الرسالة) لعامها العاشر عما يغشى الناس في هذه الآونة من ظلام: ظلام المطامع والشهوات، أو ظلام القسوة والطغيان؛ حتى عُمِّيت على الناس وجوه الرأي، وأغلقت دونهم أبواب الحيلة، واكفهرت أمامهم بوادر المستقبل.
وتعليل ذلك كله عند الأستاذ الزيات ظلمة السرائر من نور الهداية، وإقفار البصائر من روح الدين، حتى تكاثفت هذه الظلمات الباطنة؛ فكانت في الظاهر كذلك حلكاً غاشياً، وظلماً فاشياً؛ ثم كان ضجر الناس بالحياة، وسخطهم في هذا الوجود. ذلك معنى حديثه، وهو حديث حق لا ريب فيه (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً)
ولكن متى يستبين للناس وجه الرشاد من الغي فيرجوا إلى الدين فيما يتصل بهم أو يصل بينهم من أسباب، لتنجاب عن بصائرهم هذه الغشاوات، وتنكشف لأبصارهم مسالك الحياة؟! علم ذلك عند الله. . .
ولكن الأستاذ الزيات يتجه إزاء هذا السؤال نحو الأزهر، وهو يرى الأزهر في وضعه الصحيح كمحطة استقبال وإذاعة: يتلقى تعاليم الوحي من كتاب الله وسنة رسوله، ويذيع في الناس الحكمة الصادقة، والموعظة الحسنة، والقدرة الصالحة، ويمثل في سيرة أهله ما كان ماثلاً في سيرة السلف وأعمالهم للدنيا وللدين.
والنظر إلى الأزهر بعين كهذه ليس فيه إسراف ولا شطط، فقد قام الأزهر كما يقول الأستاذ - للدين وعاش بالدين - وليس يليق به أن يكون لغير هذا وإن تطاولت عليه السنون؛ ولا يليق به أن ينحدر من عليائه إلى الوضع الأدنى الذي خرطه في عداد المدارس، أو كاد.
ونحن إذ ننظر إلى الأزهر بهذه العين نقف به مع الأستاذ الزيات بين الذكرى والأمل، لترجع بنا الذكرى إلى أزهر القرن الرابع عشر، يوم كان حقاً يعيش للدين وبالدين، ولا تلويه الأحداث، ولا تستهويه المطامع فكان لقوله صولة، ولرأيه شأن وحساب.
وإذ تحولت نظم الحياة الاجتماعية، واقتضى الزمن نشاطاً في السير، ومتابعة للنهوض، فما كان ينبغي للأزهر أن يقنع بالعزلة ويتنحى عن مكان القيادة، ويقعد عن اجتذاب الجماهير إلى حوزة الدين، واشتمالهم بتعاليمه الفضفاضة.
وإن تكن هذه سيئة الزمن الماضي، فماذا صنع أزهر اليوم ليدرك الناس ما فاتهم، ويصل ما انقطع بينه وبينهم، ولا يترك الخرق يتسع، والشر يتفاقم؟
نعم بدأ يخطو الأزهر في عهده الحاضر خطوات لا بأس بها، ولكنها خطوات هينة إذا قيست بالأمانة العظمى التي يتحملها عن الأنبياء. والأمر يقتضي نشاطاً فوق هذا النشاط، ولا يتسع لتريث فوق الذي كان، وهنا مثار الأمل في الأزهر، فإلى من يتجه ذلك الأمل المنشود؟
يتجه إلى صاحب المقام الأعلى، إلى معقد الرجاء، إلى جلالة الملك فاروق، فجلالته حَريٌّ بين الملوك أن يحمل راية القرآن خفاقة على ربوع الإسلام، وأن يجعل القرآن - بتشجيعه وعطفه - منهلاً عذباً في وادي النيل، يصدر عنه الناس وإليه يردون، وهذا ما كشف اللثام عنه بين يدي جلالته شيخ الأزهر في مستهل العام الهجري، فأبان فضيلته عن أمل المسلمين في الأزهر وعن رجاء الأزهر والمسلمين في جلالة الفاروق.
ويتجه الأمل ثانياً إلى فضيلة الشيخ الأكبر وإلى من يؤازره من كبار العلماء، وما يريد المسلمون منهم إلا ما تحدث عنه الأستاذ الزيات: (أن يضعوا لثقافة الشعب أساساً من الدين، يقوى بقوة الله، ويثبت بثبوت الحق، ويدوم بدوام الدنيا، ثم يقيموا عليه من القواعد والأوضاع ما يقره العقل، ويؤيده العلم، ويتقبله العصر، وتقتضيه الحاجة)
ففي هذه الكلمات تتلخص حاجة الناس إلى الدين وتنحصر مهمة علماء الدين.
وقد نشط إلى الجهر بذلك منذ أيام شيخ متوثب، انتظم إلى جماعة كبار العلماء، فكان إحساسه يقظاً، وصوته ندياً. وإذا تجاوبت هذه الدعوى، ودخلت إلى مكتب الشيخ، وترامت إلى المسامع العلية، فبعيد أن تفتر هذه الحمية، وبعيد أن يركن الأزهر إلى تلك السياسة الشكلية التي تؤخر أكثر مما تقدم.
أقول - السياسة الشكلية - وأنا في هذا التعبير من غيرة وخشية: غيرة على عهد المراغي أن يعلق به شيء مما لا نحب، وخشية من لائمة من لا يرضيهم ذلك التعبير.
ولكنه مقام تعوزنا فيه الصراحة أكثر من المجاملة، ويقتضينا الإنصاف ألا نشوب الإخلاص بالمداهنة، وإلا نطوي صفحة الولاء على غش ودخالة.
هي مشكلة إلى حد ما، ونحن نريدها عملية محصنة: عملية في التوجيه العلمي، وتزكير الروح الأدبي والكرامة في نفوس الناشئة. نريدها عملية في الموازنة بين المتصلين بالعمل: إداريّاً كان أو عملياً. وليس بعزيز على الشيخ الأكبر أن يتحسس هذا، ويوازن ويرجح، ويحْدِث ويجدد، بل ذلك فيما نعلم من الخطوات الأولى في إقامة الإصلاح.
فلينظر مولانا الشيخ الأكبر في الأدوات التي يؤدي بها الأزهر رسالته: قولاً كانت أو كتابة. ولينظر فيمن يساهمون في الإدارة؛ فليس يكفي أن يكون الرأس وحده سليماً حتى تسلم بقية الأعصاب والعضلات!
وأكبر الظن أن ينقضي العام الجديد على خير ما بدأنا من آمال، وما رجوناه من أعمال.
عبد الللطيف محمد السبكي
المدرس في كلية الشريعة