مجلة الرسالة/العدد 449/بطولة محمد
مجلة الرسالة/العدد 449/بطولة محمد
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
لا أعرف - ولا أحسب أن غيري يعرف ما يشبه - أو يقارب - بطولة محمد ﷺ. ولست أنسى أني مسلم ولكني مسلم بالعقل قبل أن أكون مسلماً بالوراثة والنشأة. ولست أخشى أن أتهم بالتعصب لصاحب هذا الدين. على أني لا أعني بالبطولة الشجاعة في الحرب، والجرأة في الكر والفر، والإقدام على مقارعة أحلاس القتال ومنازلة الأعداء في حومات الوغى، فما كان ﷺ يعني بالاشتراك في القتال بسيف أو رمح؛ وكان يشهد المعارك ويصحب رجاله ولكنه لا ينزل إلى الحومة بنفسه ولا يخوض المعمعة مع أنصاره وإن كان يوجههم. وما كانت مزيته أنه أطعن الناس برمح، أو أسدهم ساعداً، وإنما كان نبياً وصاحب دعوة، ورسولاً بدين، ومعلماً ومرشداً وهادياً، وحسب من شاء أن يقدر بطولة محمد أن يتأمل حياته وسيرته لا في مكة وحدها بل بعد الهجرة منها إلى المدينة أيضاً وإلى آخر حياته، فقد جاء بدين ينقض كل ما قامت عليه حياة العرب في زمانه من عقائد وتقاليد وعادات وآراء؛ ولا يرضى حتى أهله، لأنه يحرمهم مزاياهم وما كانوا ينعمون به من عزة في الجاهلية؛ ولم يجد من يؤمن به وبرسالته إلا قلة لا غناء لها، ولقي من الضيم والعذاب والأذى والمطاردة والاضطهاد، ما لم نعهد في البشر إطاقته والصبر عليه؛ وحوصر في الشعب ثلاث سنين بلا أمل أو نصير؛ وقاسي من المحن أقسى ما يخطر على البال؛ ومع ذلك لم يلن ولم يضعف، ولم يكد يخرج من هذا الشَّعب حتى مضى وحده وبمفرده إلى الطائف يدعو إلى ترك الأوثان وإلى عبادة الواحد الأحد، فلم يقابل بغير الإهانة والزراية من الكبراء، والرمي بالحجارة من الصبية والجهال، حتى سال منه الدم فعاد إلى مكة لا يأساً بل مواصلاً بث دعوته وتبليغ رسالته، وظل صابراً مواظباً محتملاً ما يلقي في سبيل الله من الأذى البليغ والعنت الشديد ثلاثة عشر عاماً من يوم تلقي الوحي. ولما اعتزم الهجرة بعد أن مهد لها لم يخرج إلا بعد أن رحل عن مكة معظم أنصاره وأمن واطمأن عليهم، ووثق بنجاتهم وسلامتهم، وهذا ثبات كان خليقاً وحده أن يقنع الذين كتبوا عنه من الأجانب بأنه لا يمكن ولا يعقل أن يكون من (دجال) كما وصفه بعضه وقد كتب (واشنطون إيرفنج) عن بواعث محمد يقول:
(أكانت الثروة؟ لقد أفاد زواجه من خديجة الغنى، فظل سنوات قبل الوحي لا يبدي رغبة في زيادة ثروته. أم كان يطلب المنازل الملحوظة؟ لقد كانت منزلته عالية في قومه، وكان معروفاً بينهم بالفضل والأمانة، وكان من قريش ومن أكرم فرع فيها، وكانت سدانة الكعبة وما تفيده من العز والسلطان في أسرته منذ أجيال، وكان من حقه أن يتطلع إليها، فلما قام يحاول أن يهدم الدين الذي نشأ عليه قومه اقتلع جذور هذه المزايا جميعاً، فقد كانت ثروة أهله ومنزلتهم قائمتين على هذا الدين فهاجمه وجر على نفسه عداوة أهله وغضب مواطنيه وسخطهم جميعاً
ويمضي إيرفنج في تقصيه فيسأل: هل كان هناك في بداية سيرته النبوية ما يبعث الأمل أو يعوض هذه التضحيات؟ ويرد على ذلك فيقول: إن الأمر كان على النقيض، فقد بدأ محاذراً متوخياً الكتمان وظل سنوات غير موفق؛ وعلى قدر توسعه في بث دعوته، وإذاعة رسالته، كان يشتد ويعظم ما يلقي من العنت والسخرية والأذى والاضطهاد، واضطر بعض أهله وأنصاره أن يفروا إلى بلاد أخرى، واحتاج هو نفسه آخر الأمر أن يهاجر إلى بلد غير مكة، فلماذا كان يصر كل هذه السنوات الطويلات على (دجْل) يسلبه كل متاع الدنيا في سن لا تسمح بأن يبدأ المرء حياته مرة أخرى؟ فما قام بالدعوة إلا بعد الأربعين وقضى في مكة ثلاثة عشر عاماً، وكان تاجراً حسن الحال فهاجر منها فقيراً معدماً، لا يعرف ما كتب الله له في غيبه من النصر، ولا يبغي أكثر من أن يبني مسجداً يعبد فيه ربه، ولا يرجو إلا أن يعبد الله في سلام. ولما جاءه النصر لم يتكبر، ولم يتجبر، ولم يغتر، كما يفعل الذين ينشدون المآرب الشخصية والغايات الخاصة، فحافظ، وهو يف أوج قوته، على بساطته أيام ضعفه
وقد جاءه نصر الله بعد الهجرة، ولكن الأيام لم تجر كلها بالسعود في المدينة؛ وإذا كان قد انتصر كثيراً فقد انهزم أحياناً، فلا النصر أبطره، ولا الهزيمة أضعفت روحه أو فتت في عضده. ولعل القدرة على احتمال النصر أدل على العظمة من القدرة على احتمال الخيبة؛ ولكنه لم يكن من الهين على من احتمل مثله ثلاثة عشر عاماً من المتاعب أن يصبر على هزيمة جديدة. . . وكان عليه أن يضع للجماعة الإسلامية في المدينة النواميس والنظم في السلم والحرب. وهو فيما أعلم الوحيد الذي بلّغَ الرسالة كلها، وأتم عمله أجمعه في حياته، فأكمل الدين، وأسس الدولة، ووضع القواعد كلها، ووجه الأمة الجديدة الوجهة التي فيها الخير والصلاح والعز. وليس لهذا مثيل في التاريخ - قديمة وحديثه -. وهنا ينبغي أن نذكر أن مسافة الزمن التي تم فيها كل هذا كانت قصيرة جداً، وأن دينه كان جديداً، يخالف كل ما وجد عليه العرب. وفي هذه المدة الوجيزة لم يغير للعرب عباداتهم وحدها، بل غير نفوسهم أيضاً. ولاشك أن صرف امرئ عن عبادة حجر أو نحوه أهون جداً من صب النفس في قالب جديد. وقد خلق من هؤلاء العرب المتنافرين المتعادين المتهالكين رجالاً يعدون في طليعة أبطال العالم. وماذا كان هؤلاء جميعاً خليقين أن يكونوا لولا محمد؟ ونعني بهم أبطال التاريخ الإسلامي من مثل الخلفاء والولاة والقواد والفقهاء. . . أكان أحد يمكن أن يسمع بهم؟؟ لا أظن! ولا شك أنهم كانوا خلقاء أن يكونوا شيئاً مذكوراً بين قومهم، ولكن قومهم أجمعين لم يكونوا شيئاً. وما قيمة قوم انقسموا قبائل متعادية لا أثر لها في الحياة، ولا يعبأ بها حتى من يجاورها من الأمم؟ ومن هذه العناصر خلق محمد أمة عظيمة فتحت الدنيا، ونشرت الدين، وأهدت إلى العالم حضارة كبيرة غيرت مجرى التاريخ الإنساني كله
ولا يتسع المقام للإفاضة في هذه المعاني، ومن أجل هذا أكتفي بأن أقول إن محمداً أعظم عظيم خلقه الله. وأزبد على هذا أني كنت في صدر حياتي أستهين قول من يقول إن العرب خير الأمم وأفضلها، وأرى ذلك من الغرور، ولكني الآن صرت أعذر من يقول هذا. ولست مغري بالمفاضلة بين الأمم ولا أنا أرى داعياً لهذا، فإن كل أمة تؤدي في الحياة رسالتها على قدر طاقتها ولكن أمة تنجب محمداً، هل يلام من يقول إنها أعظم الأمم؟
إبراهيم عبد القادر المازني