مجلة الرسالة/العدد 449/روح الهجرة

مجلة الرسالة/العدد 449/روح الهجرة

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 02 - 1942



للأستاذ محمود البشبيشي

الليل ينشر على الكون وحشة ورهبة، والظلم يغمر النَّفوس رعدة ورهبة، ولكن الحقيقة المؤمنة تتطلق عزمه ورغبة. تنظر إلى أحابيل الشيطان نظرة القدرة القادرة، وتتأمل أباطيل الباطل بثقة الحكمة النافذة، وليكن ما يكون!

في بطون الوهاد وأعالي الجبال عيون تترصد، وفي خفايا المنافذ وحفايا البطاح أرصاد تترقب، وفي جوار كل جدار ووراء كل باب آذان تتسمّع، ولكن الحقيقة المؤمنة في قلب الرسول تتوثب عزمه، وتتوهج قوة. وليكن ما يكون!

الشيطان قد فعل فعله في النفوس الضالة، والأحقاد قد بلغت الغاية في القلوب الغُلْف، ولم تبق بارقة تسطع من خلال رؤى الآمال!

كل شيء في الجزيرة يحس أن شيئاً سيحدث، وأنه سيكون حدثاً عظيماً. . . كل شيء في الجزيرة يدرك أو يكاد أن أمراً ستتفتح عنه مغاليق الغيب، وأنه سيكون أمراً خطيراً. ولكن ما من شيء كان يعلم أن ظنون الكفار المتبلدة بسواد النيات ستنهار كخيال الوهم. ولكن ما من شيء كان يعلم أن أماني الرسول الكريم ستتوج بالنصر كحقيقة الواقع. . . ولقد كان ما كان

وانطلقت الحقيقة المؤمنة من قيود الباطلٍ، وانبثق النور السماوي من خلال سحب الضلال. إن محمداً قد هاجرا، وكتب للرمال أن تقبل الخطا المباركة، وللغار أن يتيه على أعظم القصور عزة وفخامة. إن محمداً قد لاذ به من كيد المشركين

أجل لقد كان ما كان. بل ما كان يجب أن يكون فأتلق في جبين الزمان نور جديد. فكان يوم الهجرة المباركة. وكان للإسلام عيداً، وأنه لعيد مجيد. فلئن اعتزَّت الأمم بأعيادها المختلفة، وخلَّدتها بأيام من عمر الزمن محدودة، والتفتت إليها من حين إلى حين تعيد إلى ذكرياتها القوة، وتجد ما تقادم من حيويتها، وتبعث فيها الروح بالاحتفال بها. . . أجل لئن اعتزت الأمم بأعيادها وحرصت كل الحرص على أن تعيد إليها القوة بالاحتفال. إن الإسلام ليحتفل بعيد الهجرة. . . لا ليعيد للهجرة حيوية ضعفت، ولا ليجدد للهجرة ذكريات تقادمت، ولا ليبعث في الهجرة روحاً خمدت، بل ليستمد القوة من عزمة الرسول صاحبها، ويقيس من أنوار أقباس الحيوية السماوية القادرة. وإن أعياد الأمم مهما اختلفت أغراضاً، وتفاوتت مقاصيدَ، لا تزيد على أن تكون رمزاً لناحية واحدة مجيدة اجتماعية أو غير اجتماعية، فردية أو غير فردية، على حين تجتمع في عيد الهجرة أعياد وأعياد

في عيد الهجرة أعياد. ومن أعياده الرائعة المتألقة الوضيئة عيد الوفاء في أروع مظاهره، والفداء في أبهى صوره، والصبر في أكمل معانيه، والجهاد في أعظم غاياته، والإيثار في أنبل مواضعه، وحب الوطن في أقوى حالاته، والثبات على المبدأ في أثبت دعائه

لنا في الهجرة مثال للوفاء يحتذي، وإنه لمثال يتألق حقاً في رفيق الرسول أبي بكر الصديق؛ فقد كانت براثن الخطر تترقب، ومخالب الشيطان تتوثب، وكل شيء في شعاب الطريق ومسالكه يستر خطراً يكاد يهجم، فالأحقاد تلهب الصدور، والصدور تضطرب بنزوة الدم وثورة الضغينة

أجل كان كل هذا ولكن الصديق كان وفياً. ولكن الصديق كان ثبتاً؛ ولكن الصديق كان قد انتضى للأمر عزائمه وتغلغلت في روحه روح الوفاء فأبي أن يكون هيابة نكساً. ووجد الوفاء في قلبه أرضاً طيبة فأينع وأثمر، فذلل له كل مستصعب. فكان خير مثال لمصابرة المكاره، ومعالجة البأساء. تحمل في سبيل الوفاء وعثاء الطريق ولم يضطرب قلبه لمخاوف الرحيل في هذا الجو الملبد بالأخطار. فياله من رجل ترك الأهل والمال والولد ورافق الرسول الكريم لغاية لا يعلمها إلا الله. مثل هذا الوفاء جدير بأن نقيم له الأعياد لنستمد منه أروع المعاني، ونهرع إليه كلما دهمتنا الأحداث ولاحت لنا الخطوب

للهجرة أعياد، ومن أعيادها عيد الفداء

وإن لنا من على كرم الله وجهه لمثلاً للفداء حياً

وما ظنك بالرجل الذي يعلم علم اليقين أن الموت يلمع في أسنة السيوف بباب مرقده، والهلاك يترصد في كل زاوية من دارٍ هو فيها سجين أو شبه سجين؟ ما ظنك برجل يحس بالخطر يتوثب ويترقب، وهو في موقف يؤرق العين ويعذب القلب؟ فالكفار بالباب قد أعلنوا حرباً مصرحة مستعلنة، والكائدون قد نصبوا الحبائل ومدوا الشباك يترقبون الرسول الكريم. . . وهيهات، فإن عليًّا هنالك، وإنه لنائم مكانه

أيها الفداء العجيب في شخص علىّ، إنك لخير مثال تتطلع إليه القلوب في مثل أيامنا العجاف

للهجرة أعياد، ومن أعيادها عيد الصبر

ومن ذا الذي صَبر صبر الرسول على المكاره، وتحمل من لأعداء والأهل مالا تتحمله النفوس البشرية؟. . . في ظلال الإرهاب سار وبليْل الأخطار أدلج؛ رأى الموت فلم يفزع، وكيف تفزع النفس المؤمنة، ومن فيضها اقتبس الإسلام قوة جهاده، واستمدت العروبة عزمتها القادرة وقوتها القاهرة؟ من ذا الذي سواه يستطيع أن يخلع علي مكاره الأيام من روحه المؤمنة روحاً تسهَّل كل صعب وتنال من كل مستحيل. . .؟

يا عجباً! لقد استطاعت القوة المؤمنة أن تفك الحبالة وتسلك إلى النفوس في جوٍ كانت تسير فيه قاله السوء كومض البروق، في جو اجتمع فيه الأشرار على باطل وتفرقوا عن كل حق. . . ومن صبر الرسول الكريم وصبر أصحابه الأبرار ما نزال نستمد العون كلما طرقنا من الحوادث أمر طروق

للهجرة أعياد، ومن أعيادها عيد الجهاد

وجهاد المؤمنين لا ينقصه الدليل ليصدق، ولا يتطرق إليه الشك فينقص؛ فلقد كانت الحقيقة المؤمنة في نفوسهم قوة، وفي قلوبهم حيوية، وفي سيوفهم قدراً عاصفاً، وفي عيونهم أملاً يعلم أنه محقق!

جاهدوا وثابروا فنالوا ما أرادوا، وبعون الله كشفوا عن القلوب غطاء الجهالة؛ فتناثرت أباطيل الظلال أمام يقينهم، وانطمست شمس الضلالة الزائفة أمام إشعاع إيمانهم، وسقطت آمال المنافقين أمام إعصار الحق، كما تتساقط أوراق الدوحة الهزيلة عندما تطيح بها العاصفة

فإلى جهاد المؤمنين في فجر الإسلام توجهوا أيها المسلمون في أقطار الأرض، واستلهموا من معانيه الحيوية معاني العزة القومية، والقوة والإباء، والصبر والجلاد

تلك بعض أعياد الهجرة، ومن أعيادها عيد الإيثار وحب الوطن والثبات على المبدأ

أما الإيثار، فينطق به الأنصار عندما نسوا الأثرة واستقبلوا المهاجرين بكرم اليد وكرم والقلب، وقاسموهم الخير والأرض، وعطفوا عليهم عطف العالم بما لا قوا، المقدر لما تحملوا، المعجب بما أظهروا وأما حب الوطن والحنين إليه، فيتألق فيما كان يضطرب بين أضلاع الرسول الكريم وهو في الغربة يناضل ويناوص ويستعد ويستجم ليرجع إلى الوطن الذي ترعرع فيه، إلى الوطن الذي غدر به وحجب القلوب عنه، فهو يحن إلى الحج، فيفاوض المشركين رحمة بالأهل، وحرصاً على الدم من أن يهدر. . . وإنه لدم غال عزيز. أفليس هو دم الأعمام وأبناء الأعمام؟

وأما الثبات على المبدأ، فيظهر ناصعاً في كل مراحل الجهاد، في صبر الرسول على الكيد، وتحمل المهاجرين لألم فراق الأهل والمال والولد

وبعد، فقد قهرت القوة المؤمنة القوة الضالة، وقهرت حقيقة الحق رياء الباطل، وارتدت السهام إلى نحور الكائدين، وانطلق النور السماوي من روح الرسول، فبدد سحب المنافقين، وطوى ظلال الشيطان

ولئن استمدت أعياد الأمم القوة بالاحتفال، إن عيد الهجرة ليجدد حيوية الأمم المسلمة. . . ولئن كانت الأعياد وليدة تاريخ الأمم، إن تاريخ الأمم الإسلامية وليد عيد الهجرة

أيها العيد، في ظلالك أعياد، وإنها لأعياد تعتز بها العروبة والإسلام. جمعت الوفاء والفداء، والصبر والجهاد والإيثار وحب الوطن، والثبات على المبدأ والعقيدة.

إن كنت في لغة الحياة وركبها ... يوماً فكن يا ابن الخلود عهودا

(المنصورة)

محمود البشبيشي