مجلة الرسالة/العدد 45/النقد

مجلة الرسالة/العدد 45/النقد

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 05 - 1934



حول الينبوع أيضاً

إلى الدكتور احمد زكي أبى شادي

أما أنا، فأني أرى اللجاجة ليست تفيد، وما كان مثلي يبغي النغرض، وما كان مثلي يهوى التسرع، وإنما صح ما توقعت ووقعت الواقعة، وإذا أنا أعود فأردد مرة أخرى، ما عرفت الدكتور وإضرابه من إخواننا المصريين، إلا أباة على النقد، يثيرون من أجله المعارك، ويتسارعون بسببه إلى الخصام والنزاع،

فأنا أغتفر للشاعر حدته في الرد، لأن الشاعر أناني بطبعه يأبى أن يسخف له الناس أثره، ويكره من يبخس شيئا من قدره، وأشكر له حسن ظنه بي، ولا أبغي تسجيل هذه الكلمة عليه، ثم أضرب صفحا عن الماضي بأجمعه، وأعيد النظر في ينبوعه من جديد، وأؤكد له أنني قرأته مرة ثانية، وأؤكد له إنني حاولت أن أفهم، وأعوذ باله أن أزعم ان نفسه قد حلت في جسمي، فلست أعتقد بالحلول. ولا أزعم أن عواطفي قد اصطبغت بلون عواطفه فهذا أمر يعرف استحالته من الوجهة (البسيكولوجية) وأسأله العفو والمغفرة إن كفرت بقوله

كن أنت نفسي واقترن بعواطفي ... تجد المعيب لدي غير معيب

أأفرط في أنانية الشاعر، إذ كيف يعقل أن يتشابه الناس تماماً والمادة وفي الروح. وما تشابهوا، لكن الشيء الممكن الذي أستطيع القيام به، هو أنني حاولت أن أوجد التجاوب الروحي بين نفسه وبين نفسي، مع أني لم أحاول أن أخلق مثل هذا التجاوب من قبل، فابن الرومي مثلا، لا يوجد أقل تجاوب روحي بين نفسه وبين نفسي، ولكنني معجب به لا لأنه يضرب على الوتر الحساس من قلبي، ولا لأنه يهيج دفين آلامي وأشجاني، بل لأني أجد في شعره فنا رائعا لا أستطيع إنكاره وبخسه. ولأضرب للدكتور مثلا آخر هو فيكتور هوجو فأنا أرى في شعره رأيا يخالف رأيي في ابن الرومي وربما كانت نفسه أقرب إلى نفسي من نفس بودلير الذي أعجب به إعجاباً شديدا.

فليس من الحتم على قارئ الشعر ألا يستسيغ إلا الشعر الذي تشابهت فيه نفسه مع نفس الشاعر، فقد يحب وقد يكره، ولكن هناك الفن الشعري، وهو الجامعة التي تؤلف بين القلوب، وتوحد بين الأفئدة، وما أظن في الناس إلا الحمقى يهزون أكتافهم إذا قرئ لهم شيء من الشعر الخالد الذي يتسم بصفات الفن الرائع، ولو كان يخالف نظرتهم وفطرتهم:

إن من عادتي يا سيدي الدكتور أن أعمد إلا الأفكار التي تكون طراز تفكيري، والمبادئ التي أستند إليها في تقديري، فأتناولها بين آونة وأخرى بالبحث والمراقبة والتشريح أبتر ضعيفها، وأنعش هزيلها. وأنشط قويها. قلت. . . ربما كان رأيي في شعر أبي شادي من القبيل الضعيف. فلأعد النظر وأؤكد للدكتور أنني كنت قاسياً على نفسي حتى يرضى.

فاللهم جنبني الشبهات، وسدد سبيلي، وحبب إليَّ الحق لأتبعه، ووجه روحي إلى النور لأدرك كنه صفحات الحياة التي تلوح لعيني كروح في ثوب صفيق من المادة. فإذا أبصرت بها واستهوتني اندفعت بكل ما في نفسي من جموح، لادرك سر تلك الروح.

الشعر مادة وروح، وشعر أبي شادي كذلك. فما هي المادة التي تتمثل في شعره؟ لا شك أنها اللغة، واللغة كما أعلم وتعلم هي الأداة المادية التي تشرح دخيلة الروح. ومع أن الدكتور قد جزم بأني لست ممن يصلحون لنقد لغة شعره وقد استحسنها من قبل أسياد كمصطفى جواد وغيره.!! فأنا أسير من حيث بدأت، فليست القضية قضية نحو وصرف وبيان وبديع، بل قضية ذوق شعري ولغة شعرية. وإذا شئت فقل قضية فنية بحتة، ويحسن بأولئك المدرسيين أن يتركوا الساحة قليلا، ويريحوا الناس من الإعراب والبناء التقدير، فهذا أمر تافه يدركه صبية المدارس، وقد أفنى الأقدمون فيه كثيرا من الوقت والجهد، وقد جاء هؤلاء في آخر القافلة

أقع بنظري على قصيدته التي أراد أني يفحمني بها، والتي أراد أن يبهر بها الناس فاقرأ:

نرى في البر الوان التناجي ... وفي البحر المشارف والعميق

أو قوله:

كأن الحسن ذاب بكل لون ... نراه وفي المياه وفي الطريق

اللهم أين كافر بالشعر إن كان هذا من الشعر، وكافر بأقوال مطران إن كان قد استحسن هذا القول مطران، وكافر بالأدب إن كان في رجال الأدب من يستسيغ هذا ويعجب به

أؤكد للدكتور أني غير موفق في انتقاء ما ينتقد. لكنني استعرض هذا وأمثاله. وقد يرى فيه مصطفى جواد أو غير مصطفى جواد منتهى الإجادة والبلاغة: أما أنا، أنا الشاك الذي بم يتكامل التجاوب الروحي بين نفسه وبين نفس أبي شادي، أنا الذي أسجل خطرات تشمئز منها نفس أبي شادي، ما أزال أرى يا للأسف في هذا الشعر وأضرابه ضعفاً شديداً. أرى فيه لغة صحفية ليست لغة فن ولا شعر، أرى الاعياه الذي ما بعده إعياء في التصوير والتعبير! وتبدو لعيني فكرتي التي بسطتها عن لغة الشرع التي أقول فيها. أنا افهم إن الشعر هو التعبير الراقي عن احساسات النفس، (وما كل إحساس يصلح أن يكون شعراً بل الإحسان العلوي أقصد).

وعلى هذا الشكل فهم العرب الشعر. فقالوا عن القرآن إذ سمعوه انه شعر.

ان في اللغة الشعرية سحراً وروعة وفنوناً وموسيقى ونغمات صوتية تراها في شعر امرئ القيس كقوله:

مكر مفر مدبر معاً ... كجلمود صخر حطه السيل من عل

واراها في شعر عنترة، أو عمرو بن كلثوم، وفي الشعر الغربي ما أكثرها في شعر (ادكار بو أو في شعر (بودلير أو في شعر (فاليري وما كل كلام مفهوم بشعر، ولا يكفي الشاعر أن يميز بين المنصوب والمرفوع، وليس يكفي أن يعرف الشاعر البحر البسيط أو الطويل أو الرجز، كل هذه قشور لابد منها ولا أهمية كبرى لها لبساطتها، إنما بيت القصيد في تلك الروعة وذلك السحر، او في توقيع الموسيقى، وفي تلاؤم تلك النغمات الصوتية، وما في شعر أبي شادي شي من هذا.

. . . لغة الجرائد يا دكتور تعبر عن كثير من الآراء الصائبة والأخيلة الرائعة، ولكنها تفعل فعلها في وقتها ثم تنطوي تحت ذيل الزمن وتموت، وما كان للشعر أن يكون مثلها، إنك لا تستطيع أن ترى في لغة الصحف روعة وسحرا إلا نادرا أو إنك لا تزعم أن فيها فناً أخاذا. أما شعرك يا دكتور فهو شعر عربي كلماته صحفي في فنه وتعبيره، كأني بك تذكر حكاية ذلك الأعرابي الذي دخل إحدى الحواضر فسمع أهلها يتكلمون فما فهم شيئا. انهم يقولون كلاما عربيا ما في ذلك شك. لكن أسلوب التعبير غير عربي، وكلامك يا دكتور في شعرك لا يصطدم مع الفاعل ونائبه والصفة والتشبيه لا نادراً، وجل من لا يسهو، عربي في ألفاظه مفهوم في عسر أو في يسر، لكن أين الفن الراقي في التعبير في مثل قولك؟

هذه الدنيا لأحلام الأديب ... هذه غايات آمال الأريب؟ أظن أن صاحب الملل والنحل لو امتد به الأجل ما قال قولته المشهورة (هذا شيء لا يعجز عنه إنسان) إلا في شعر يشابه شعرك. لا عجب يا صاحبي هذا شان البحر، فالبحر لا يقذف بالدر دائما، ولكنه يقذف بالزبد في كل حركة، والإنتاج الفني الذي هو التعبير الراقي عن احساسات النفس لا يأتي عفو الخاطر، فإذا تحدثت إلى سيدي الشاعر عن اللغة أفلا يجدر بي أن أحدثه عن روح الشعر وعن المناسبة الشعرية. وعن الظروف التي تستدعي قرض الشعر.

لا أكتمك يا دكتور أني ممن يلقون بنفسهم بينكم معشر الشعراء، في المتن أو في الهامش، لا أدري، لكني من جماعتكم على كل حال شئتم أو أبيتم، وما أكثر أمثالي بين الشعراء، يكاد أحدهم يبعد عن محراق الفلك الشعري زهاء مائة كيلومتر، ويزعم بعد ذلك أنه من كبار الشعراء. أعذرني فأنا أناني مثلك، وأنا عندما أحدثك عن أنانيتي يجدر بي أن أشرح لك شيئاً من ذات نفسي كشاعر لا كنا قد. . . الموضوعات التي تستدعيني إلى النظم كثيرة يا دكتور، ونفسي دائمة الاضطراب والجموح. دائمة الحركة والثورة، هي متمردة متقلبة، ترى في كل ساعة موضوعات للكتابة، لكنني أكبح جماحها. أحول هذا الشعور الحاد إلى اللاشعوري ليتم نضجه، فإذا فرغت منه انصرفت إلى غيره، ففعلت به ما فعلت بالأول، وأنا بين هذا وذاك أمزج بين الشعور الهادئ المتزن وبين الشعور الحاد الجامح ثم اكتب. وبعد أن أنهي عملي ادفعه واهمله، واشعر ان عبئا قد أزيح عن كاهلي، أقبره لانه لم ينضج، تمر عليه أيام كثيرة أتناوله فيها بالتبديل والتغيير والمسخ، او بالتهذيب والترتيب والتنسيق، ولعلي ما أتممت شيئاً حتى الآن، فترضى عنه نفسي، وكيف أشرح نفسي للناس، وهم اجهل من ان يفهموها على وجهها، وكيف أبرز للناس وما أنا ممن يستطيعون التعبير عن مصائبهم وآلامهم وثورتهم، حسبي أنني لم أعرض شعوري فكيف اعبر عن مشاعر الناس، انهم يطلبون رعداً وبرقاً، وهم على حق فيما يطلبون، فهناك وطن يقتسم، وهناك بلاد يحتلها العدو والغريب، وهناك شرف صار إلى الرغام، وهناك مجد قد أفل، وهناك مجد الأمس وبؤس اليوم، وتاج الاجداد، وقبر الاحفاد، وحق للشاعر أن يرعد ويبرق، وأن يدفع الغمام الساجي المدلهم ليمطر، أما أنا فأني سائر في طريقي، وأرجوا أن أصل إلى ما اصبوا إليه، سأرعد وسأبرق، وسأنفخ في الرمم وسأصيح بالموتى ولكن. . .

ليس الآن، عندما تهدأ نفسي من جنون الشباب، عندما يأخذ قلبي في النظر العام الشامل، ففي ذلك الوقت استطيع أن ارضي نفسي وأرضي غيري، أما الآن فلا. وإن الجمهور ليطلب إلى الشاعر بكاء ونواحا، ويحمد الله الذي لا يحمد على مكروه سواه ما اكثر شعراء البكاء في بلادنا، أما أنا فلم يبق في عيني دمع انضح به شهوات الناس. أني غدوت كشبح متحرك يراه الناس فيحسبون فيه القوة والجبروت، وأبصره أنا على وجه لا يرونه به. ماذا تبقى يا صاحبي، أنني أرى الناس، بل كثيرة الشعراء في واد، وأنا في واد، إنهم يتكلمون عن السماء وأنا اكلم عن الارض، أنهم يتكلمون على العالم باسره، وانا لا أتتكلم إلا عن (حديقتي). فإذا شعرت بهذا انصرفت إلى ألغازي التي حبرتها، وأوهامي التي نسجتها وصبغتها بألوان الجمال والقوة والحكمة، فتعينني في بلواي، بل كيف اقذف بها إلى الناس. وهيهات أن تلذ الناس، ما أنا طامح في رضاهم، ولا أنا خائف من شرهم، خير لي أن أعيش في حديقتي، أبذر وأقبر وأنتج واقتل، حتى لا تستطيع اليد قتلا، وحتى الضعف اليد عن حفر القبور.

أرأيت يا دكتور كيف أبعد عن الغرض الذي أسعى إليه، بل أرأيت كيف أسرف في الشطط. فقد أرهقتك وأرهقت القراء بهذر من القول لا طائل تحته، وإنما هي أقوال تلوح لذهني فاعلق بها على الرؤى التي تلوح لعيني، ما كان أجدرني يا دكتور إلا اكتب ولا أثير حفيضتك وإلا اضطر نفسي إلى الجواب، ربما كنت بعيداً كل البعد عن مذهبي في الشعر، فأنت تنحو في شعرك ناحية تسميها إنسانية عالمية، وأنا أرى أن الحياة قبل التفلسف، وعلينا أن نعمل للسير قبل الكمال، وأن نعمل للحياة قبل الجمال، وأن نعمل للحركة قبل الفن - إن صح أن هناك فناً - وأن على الشعراء واجباً نحو وطنهم وأمتهم، بل إن عليهم واجباً نحو أنفسهم، ماذا تستطيع النفس المقيدة الملجمة أن تنتج، ربما فهمت قولي يا دكتور وأولته على أني معك على مذهبك. كلا: فأنا لا أرى الشعر كتاريخ لنفس الإنسان: إنني أرى إن الشعر لا يرسم إلا الخطوط الأساسية من نفس الإنسانية جمعاء، وبقية الفنون والعلوم تلبس هذه الخطوط أثواباً فضفاضة من المادة والروح.

إنني استغفر الله يا دكتور، فما أردت سوءاً، وما كنت مغرضاً ولا ناقماً، لكنني من خدام الحقيقة. أريد أن اقبس من نورها ولو نالني من الناس ما اكره، أنا لا أريد أن أبني لنفسي ذكراً على أشلاء الناس، ولكني أبحث عن ضالتي المنشودة

على إنني شاكر لك أن أتحت لي الانطلاق من جمود مميت، ومن حيرة قتالة كنت أعيش في ظلا مهما.

أنني أتسلى لا اكثر ولا اقل، إنني أثير الغبار وسنرى وما ينجلي تحت الغبار.

حلب

(المرتيني)