مجلة الرسالة/العدد 45/في القاهرة. . .

مجلة الرسالة/العدد 45/في القاهرة. . .

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 05 - 1934



للآنسة فلك طرزى

- 1 -

مصر. .! أي شفاه تلفظ هذه الكلمة ولا تجري عليها ابتسامة وسرور؟. . أي نفس لا تغتبط لرؤية هذه الدرة الثمينة، ولا تنعم بجوها المعتدل ونسيمها العليل؟. . .

أي قلب لا تسحره هذه النسمات يرسلها الربيع في أنحائها فتنتعش الأزهار والرياحين، وتكتسي الأشجار حلتها السندسية البديعة، يداعبها النسيم فترقص اغصانها، وينبعث من حفيفها هذا الأريج العطري، وذلك العبير الذكي، فيشيع في جو القاهرة روح الحياة، ويسري في عروقها دم الشباب ونشاطه وأي إنسان لم تملك عليه القاهرة حسه بسحرها، وتفتنه بطيب هوائها وعذوبة نيلها، وأي قلب لم تستلبه هذه الغادة الحسناء بفتنتها عند إشراق شمسها في الصباح الضاحي الجميل، وعند غروبها غارقة في لجة من دماء الشفق، تقتتل في حمأتها الملائكة والشياطين.

مصر التي حملتني إليها أجنحة الخيال قبل ان تقلني عربة القطار، مصر التي سحرتني الأحاديث عنها قبل أن تأنس العين بمرآها

أجل! رأيتها! وتمتعت بها اياماً، وقضيت فيها اسبوعاً، وتحققت لي برؤياها أمنية من أحب الأماني التي خفق بها قلبي.

مصر العظيمة الجبارة، مصر الساحرة الفاتنة، تبتسم لي وأنا أطل عليها من نافذة القطار بعين الشغف والوله، هي تبتسم بأنوارها الساطعة، وتضحك بإشراقها المهيب في الصحراء القاحلة، وطلعتها الفتية الجميلة بين باسقات النخيل، والسهول المترامية الاطراف، يسقيها النيل الهادئ الوديع رحيقاً سائغاً شهيا، فترتشف منه حياة قوية فياضة، ويتضاعف من مائه نموها وازدهارها

أي عين لا تطيل النظر في ذلك النهر العظيم تستطلعه أنباء الماضي الحافل، وما تحمله هذه الأنباء من الذكريات المفرحة المؤلمة، وما تخفيه موجاته الهادئة من عبارات التقديس والتبجيل وهو يسير رويدا، حاملا أثقالا مرهقة من الأسرار الغامضة؟

هو يسير كما كان منذ آلاف السنين لا تعوق مجراه تقلبات الأجيال ولا نزعات النفوس لكنه الآن ينظر بعينيه الحزينتين المغرورقتين بالدموع إلى الانقلاب العظيم الذي وقع لبنيه، ويشعر بهذا الألم القتال يحز في قلوبهم ويدمي أفئدتهم.

لقد شاهد النيل العظيم مجد مصر القديم وأبهة الفراعنة، والآن يشاهد ذل بنيه وخضوعهم، يشاهد زمام أمورهم بين أيدي العدو، ويرى مفتاح ملكها الخالد في قبضته، بعد أن كانت تتقلب موجاته في مدارج العز، وتصطفق بين معالم الفرح والرخاء والأبهة التي أحرزها بنوه الأولون. أما الآن فهو يتقلب متهدماً بين الأسى والألم، كالشيخ ثكل أبناءه الواحد إثر الآخر، فهو صامت خاشع، يميد من ألم الحزن على ما أصابه الدهر في بنيه،. . يكتم لواعجه في غوره العميق، ويخفي دموعه الغزيرة بين طيات المياه فتزيدها اندفاعاً وانحداراً، فتبكي مصر نيلها الجبار، ويبكي النيل وطنه العزيز، وتئن مصر في موسيقى موجه الخافت، وتتوسل إلى الله أن يرفع عنها نير العبودية في أناشيده الناطقة الصامتة. .!

أي مصر!. . لقد طبعت في نفسي صورتك الخالدة، ونقش اسمك المقدس على صفحة قلبي بحروف بارزة لا تنال منها الأيام. أي مصر الحبيبة! أي مصر: يا درة الشرق الغالية، ومعبودة الجميع، لقد ملكتني وجعلت من نفسي أسيرة الأبد لحبك وهواك. .!

دمشق

فلك طرزى