مجلة الرسالة/العدد 450/القائد الشاب. . .

مجلة الرسالة/العدد 450/القائد الشاب. . .

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 02 - 1942



للأستاذ أحمد فتحي مرسي

(لقد بلغني أن قوماً يقولون في إمارة (أسامة) ولعمري لئن

قالوا في إمارته لقد قالوا في إمارة أبيه من قبله، وإن كان أبوه

لخليقاً بالأمارة وإنه لخليق لها.)

(حديث شريف)

جرى على شفاه القوم في المدينة في ضحوة ذلك اليوم من ربيع السنة الحادية عشرة للهجرة أن محمداً - - أمر بالعدة لغزو الروم وأَمرَّ على الجيش (أسامة بن زيد بن حارثة)

ووقع هذا الخبر من الناس موقعين: وقع من نفس قوم موقع العجب والدهشة، ووقع من نفس أقوام موقع التجِلَّةِ والطاعة. وكان الناس في المدينة بين هؤلاء وأولئك. . . فأما الأولون فقد عجبوا كيف يؤمَّر على جيش يضم صفوة المهاجرين والأنصار شاب حدَثٌ كأسامة لم يَعْدُ العشرين ربيعاً بعد، وكيف ينفرون للغزو وهم لم يعودوا من حجة البلاغ أو الوداع إلا من زمن قريب، ولم يستقر بهم المقام بعدُ في المدينة، حتى وقع في روع بعضهم أنهم سيحيون حياة دَعَة وهدوء، بعد أن نصر الله دينهم، ودخل الناس فيه أفواجاً، ودانت شبه الجزيرة جميعها لدعوة الرسول الجديد. فما بهم حاجة لغزو آخر بعد هذا الجهاد الواصب الطويل، وبعد أن أكمل الله لهم دينهم، وأتمَّ عليهم نعمته، ورضي لهم الإسلام ديناً

ثم إن الروم عدو لا يهون أمره، ولا تلين قناته، فقد قهر الفرس ولم يستطع العرب أن يقهروه، وهو حامي المسيحية، وإن به لشوقاً للقاء هؤلاء القوم الذين أجلو المسيحية عن أوكارها من شبه الجزيرة. . . وهم مازالوا يذكرون غزوة (مؤتة) وكيف خرج لهم الروم من مائة ألف، وكيف ذهبت هذه الغزوة بثلاثة من صفوة قواد المسلمين؛ ولولا مهارة رابعهم خالد بن الوليد في الانسحاب للحق بهم ولفتك الروم بالجيش، وإنهم ليذكرون أيضاً كيف تقاس الناس بعد خبر (مؤتة) عن لقاء الروم في تبوك، حتى قال بعض ضعاف النفوس للناس: لا تنفروا في الحر إلى تلك الأصقاع. فنزل قوله تعالى (وقالوا لا تَنْفِروا في الحرَّ قُلْ نارُ جَهَنمَ أَشَدَّ حَراَّ لَو كانوا يَفْقَهُون). . . وحتى ذهب البعض الآخر يتلمس الحجج الواهية ليأذن له النبي في البقاء كما فعل الجدُّ بن قيس حين قال له رسول الله : (هل لك العام في جلاد بني الأصفر؟) فقال: (يا رسول الله أو تأذنْ لي ولا تَفتِنيَّ فوالله لقد عرف قومي أنه ما من أحد أشدُّ عجباً بالنساء مني. وإنيَّ لأخشى إن رأيت بني الأصفر ألا اصبر) فأعرض عنه الرسول ونزلت فيه الآية (ومنهمْ منْ يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين)

فعدوَّ تلك حاله وحال المسلمين معه، كيف يكون على رأس جيشه غلام حدث كاسامة، وكيف يعقد له اللواء في جيش يضم صفوة الأنصار، وشيوخ المهاجرين الأولين كابي بكر وعمر؟

تلك قصة القوم من ضعاف الإيمان فما خبر المؤمنين؟

لقد قال المؤمنون إن هذا أمر الرسول فعليهم طاعته. ألم يقل الله تعالى: (ومن يُطع الرسول فقد أطاع الله). ألم يقل عز وجل: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوَلَّهِ ما تولّى ونصله جهنم وساءت مصيراً). ثم إن الغزو جهاد في سبيل الله، وإن المرء لفائز فيه بأحد الحسنيين: الاستشهاد أو الظهور، وما أحدهما إلا خير عند الله من الآخر. . . صحيح إن أسامة شاب لم يعدُ العشرين ربيعاً، ولكن أليس الشباب أنفذ عزماً، وأنهض همه، وأبعث للحمية في النفوس؟. . . ألم يحن الوقت بعد ليحمل الشباب لواء هذا الدين الجديد، وينهض بأمره، ويشترك في تحمل تبعاته الجسام؟ ثم أليس أسامة من خيرة شباب الإسلام: أليس أبوه زيد بن حارثة مولى رسول الله صاحب ثقته، وثاني من آمن به من الرجال بعد علي بن أبي طالب، وأول من استشهد في غزو الروم في مؤتة وبين يديه لواء الإسلام؟ أليس أسامة من استشاره النبي في حديث الإفك عن عائشة وهو صبي صغير؟ إن المسلمين ما زالوا يذكرون يوم دعاه النبي ودعا معه علي بن أبي طالب إلى منزل أبي بكر ليستشيرهما في أمر عائشة وصفوان، وقد استفاض حديث الناس وكثر القول. فأما أسامة فقد قضى أن حديث إفك وبهتان عظيم. وأما عليّ فقد قضى قائلاً: إن النساء لكثير غيرها. وأما الوحي فقد قضى بما قضى به أسامة: (ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم) أليس أسامة بعد هذا كله حقيقاً بهذه الثقة الغالية؟ إذن فليمض على بركة الله، ولينتقم لأبيه الشهيد، وليضرب للشباب مثلاً يخلد على الدهر

ودعا النبي أسامة فعقد له اللواء وأوصاه أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم في أرض فلسطين على مقربة من (مُؤتْة) حيث قتل أبوه، وأن ينزل على أعداء الله وأعدائه في عَمَايَة الصبح، وأن يمعن فيهم قتلاً، وأن يحرقهم بالنار، وأن يتم ذلك دَراكاً حتى لا تسبق إلى أعدائه أنباؤه، واستوصاه بالنساء والأطفال خيراً، وأمر بأن يخرج إلى الجرف - على مقربة من المدينة - حتى يتم جهاز الجيش. . . وخرج أسامة فضرب لواءه بالجرف، وأقام في انتظار أمر الله وأمر الرسول

وإن أسامة لفي ارتقاب أمر المسير، وإن الجيش لفي جهازه وعدته، وإن الناس لفي حديثهم عن إمرة أسامة على شيوخ الإسلام، إذ مرض الرسول عليه الصلاة والسلام مرضه الأخير بعد جهادين طويلين في سبيل الله: جهاد الروح في الرسالة، وجهاد الجسم في الغزوات والحروب. واشتد به المرض حتى لم يقو على مجالسة أصحابه. . . ولكن يشاء الله أن تبلغ همسات الناس في أسامة آذان ذلك الراقد على فراش مرضه، الذي برحت به الحمى حتى عاد يشعر كأن به منها لهباً، يشاء الله أن يبلغ أذنيه أن الناس يقولون إنه أمَّرَ على جُلَّة المهاجرين والأنصار غلاماً حدثاً. فيعز عليه ذلك ويخشى أن تقع الفتنة في الناس، فيطلب إلى أهل بيته أن يُرِيقوا عليه سبع قرب من آبار شتى حتى يذهب الماء ببعض حرارة الحمة. ثم يعصب رأسه ويتحامل على نفسه ويتساند حتى يبلغ المسجد، فيجلس على المنبر فيحمد الله ويصلي على أصحاب أحد ثم يقول:

(لقد بلغني أن قوماً في إمارة أسامة، ولعمري لئن قالوا في إمارته لقد قالوا في إمارة أبيه من قبله - وإن كان أبوه لخليق بالإمارة - وإنه لخليق لها فأنفذوا بعث أسامة) ثم يقول: (أن عبداً من عباده خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله). . . ويدرك أبو بكر والناس ما بهذه العبارة من إيماء فيتأثر الناس ويبكي أبو بكر. . .

ويثقل المرض على المريض بعد ذلك الماء الذي صُبَّ عليه وهو في لهب الحمى، وبعد ذلك الجهد الذي بذله في خطاب الناس فيأمر آبا بكر أن يصلي بالناس، ولا يلبث أياماً حتى يسلم أنفاسه الطاهرة في حجر عائشة وهو يقول هامساً: (بل الرفيق الأعلى من الجنة) ويبلغ نعي رسول الله أسامة بالجرف، فيهبط وجيشه إلى المدينة ويركز لواءه بباب عائشة. . . ثم تتعاقب الأحداث، ويلي أبو بكر الخلافة، ويعود الناس إلى حديثهم عن إمرة أسامة. . . لقد مات الرسول فما ضرهم لو عاودوا الأمر على أبي بكر لعله يلين حيث صَلُبَ النبيَّ، ويولي أمرهم رجلاً أقدم سناً

ويجتمع الأنصار ويحملون رسالتهم عمر بن الخطاب ويقولون له: (أطلب إلى خليفة المسلمين أن يولّيَ أمرنا رجلاً اقدم سناً من أسامة). ولعل عمر كان يجاريهم هذا الرأي. لعله كان يشق عليه وهو الذي قدمه أبو بكر للخلافة بعد رسول الله في اجتماع السقيفة أن يتأمَّر عليه شاب حدث لم يكن له مثل جهاده في الدين. لعل ذلك جال في ذهن عمر لأنه سارع يحمل الرسالة إلى أبي بكر

ويصل عمر بالرسالة ويبلغها أبا بكر فيغضب أبو بكر ويقول: - (ثكلتك أمك يا أبن الخطاب. . . استأمره رسول الله وتأمر أن أنزعه. . .) ثم يقوم الخليفة الشيخ ويأمر بإنفاذ الجيش، ويخرج يستنهض الناس، حتى إذا تم جهاز الجيش سار يشيعه وهو ماش وأسامة راكب. فيعز على أسامة أن يسير خليفة المسلمين - وهو إذ ذاك شيخ في الستين - وهو راكب إلى جواره فيقول له: (يا خليفة رسول الله والله لتركبن أو لأنزلن). فيرد أبو بكر: (والله لا تنزل ووالله لا اركب، وما عليَّ إلا أن أغبرَّ قدميَّ في سبيل الله ساعة فإن للغازي بكل خطوة يخطوها سبعمائة حسنة تكتب له وسبعمائة معصية ترفع عنه)

ويخرج الجيش إلى الصحراء، وهنالك يدعو له أبو بكر ويطلب إلى إسامة أن يأذن لعمر في البقاء ليشير عليه فيأذن أسامة ويسير الجيش على بركة الله ورعايته

تُرى هل يحقق أسامة ثقة النبي به؟ ترى هل يفلح حيث أخفق أبوه وثلاثة من خيرة قواد المسلمين؟ ترى هل يقهر عدواً لم يقهره أحد من أهل زمانه؟ ترى هل يقطع ألسنة المجادلين المكابرين القليلي الثقة به وبالشباب؟ ترى هل يرفع رأس شباب الإسلام، ويمهد له الاضطلاع بما يثقل من الأعباء؟

تعاقبت شهور وأيام. . .

فمن ذلك العائد إلى المدينة يتخطَّر على ظهر جواده؟ ولمن هذا الجيش المقبل وقد عقد من خلفه النقع وأثار رمال الصحراء؟ ولمن هذه الوجه المتهللة المزْهُوَّة بالنصر؟

إنه لأسامة، وإنه لجيشه. . .

لقد فاز وسلم وغنم. . .

رحمك الله يا أسامة، وطيب ثراك، وخلّد ذكراك، فقد حققت ثقة النبي في وقت ضعفت فيه الثقة بك، وقهرت عدواً للإسلام عزَّ على غيرك قهره، وضربت لشباب اليوم مثلاً من شباب الأمس

أحمد فتحي مرسي

المحامي