مجلة الرسالة/العدد 450/سيدي رسول الله

مجلة الرسالة/العدد 450/سيدي رسول الله

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 02 - 1942



الأستاذ شكري فيصل

يا سيدي الرسول:

أتراني أملك منك النجوى، وأستطيع إليك البث، وابلغ من ذلك السبيل، وأنا غائب في فيض من روعتك، ذاهل في فضاء من جلالك، فإن فيّ دنيا من قدسيتك. . . أذكر دعوتك الكريمة. . . فأنساق في جمالها المشرق. . . منذ بدأتها فتى تأنف نفسه الجهل، وتعاف بصيرته التقليد، ويحس في قراءته همسات من النور، وقبسات من الحق. . . حتى أختارك الله داعياً لا يهاب، ورسولاً لا يجبن، وقائداً لا يضعف. . . واتسقُ في ذلك التاريخ. . . يغمرني ألقه الندي، وتتولاني بهجته الطروب؛ وتطالعني فيه العزمات التي لم يفل منها عدد، ولم تقو عليها عدد، ولم يبلغ إليها هدوء أو خور. . .

إن المشاعر لتختلط عليَّ. . . وإنَّ الروعة لتملأ مني كل ثنايا النفس. . . وإني لأحس الرعدة التي تكاد تصرفني عن الحديث، وتقعد بي عنه، وتغمرني بالنشوة الحالمة، فأصفو معها وأرق. . . وأخف معها وأدق. . . وأمتزج بها امتزاج الفناء. . . حتى لا أعي مكاني من الدنيا، ولا موضعي من الغرفة، ولا جواري من الناس.

يا لجلال دعوتك، يا سيدي الرسول. . . إني لأحاول أن أحدق في مشاهدها، وأجول في ثناياها، وأقف عند تفاصيلها، فإذا هذا الجلال المهيب يحول بيني وبين أن أكون من هذه المعجزة القدسية، كما نكون من أحداث التاريخ، ووقائع الأيام، نقبل عليها بالدرس، ونمضي بها في التحليل، ونفصل منها الأجزاء، ونركب عليها النتائج، ونخرج بعد وقد أدركنا منها كل ما خالطها من مؤثرات، ومازجها من عوامل، وما انكشفت عنه من اثر. . . وإذا هذا الكمال الرهيب يطغى على كياني كله، ليسكب عليه ألواناً من الروعة: أخاذة ساحرة. . . تهتز معها المشاعر اهتزازة الانفعال اللذيذ العميق. . .

هاهنا في دعوتك. . . يا سيدي الرسول. . . عالم متسق من الحق البين، والهدى الواضح، ومن السنن القويم والخلق الكريم، ومن العزمات الأبية والرجولة القوية، ومن الخير المتدفق والفضل العميم. . . ومن الجمال الذي ينساب في ذلك كله، فيفيض عليه الرداء، ويشيع فيه البهاء، ويجعل منه الحادث الفذ أين تقف عيناي من دعوتك الكريمة يا سيدي رسول الله. . . إنهما لتتقلبان في مدى واسع الفضاء، فسيح الأرجاء، بعيد الأطراف. . . وإنهما لتزوغان وتضلان. . . وإن إحداهما لتظلم الأخرى حين تحاول أن تقف بها عند حادث من الحادثات التي يملوها ذكرك الرطب، أو في مرحلة من المراحل التي يغشاها خيالك الندى. . . وإني لأحاول أن استقر في هذه المشاهد التي تتنازعني. . . فما أسرع ما تنتابني السنون. . . وتنثال من أمامي صور كلها كريم. . . عزيز. . . نادر. . . وتنبعث في ذهني لوحات كلها قوى. . . أبي. . . جريء. . . فأحار أين أبدؤ منها، وأين أنتهي فيها، وكيف أستقر عند واحد منها. . . وأتيه بينها. . . كما يتيه الإنسان في النغم الخالد: لا يستطيع أن يفصل أجزاءه، أو يمايز بين مقاطعة، أو يدري سرَّ الخلود فيه. . . لأن الخلود قائم في كل نغماته، منساب في كل ضرباته. . .

فاغفر لي يا سيدي رسول الله. . هذه الجرأة: أن أرتفع ببصري الكليل لأدرك البصيرة المتقدة. . . أن أفتح عينيَّ الضعيفتين لأصوّبهما إلى الشمس. . . فلن أملك بعد إلا أن أغمضهما على الإكبار الذي يخالط الشغاف، والإجلال الذي يستقر في الحنايا. . . والحب الذي يطأطِي مني ما لم يطأطأ لإنسان. . .

وسأظل أسير في ركابك يا سيدي الرسول. . . خافض الرأس. . . لأن مهابتك أجل من أن تمتد إليها عيون أو ترتفع إليها نواظر. . . وسأعيش في ظلالك الرحيبة تملؤني فكرتك، وتبهرني دعوتك، ويمضي بي هديك. . . وسأهيم في هذا الهدى، وسأنطلق في أرجاء هذه الدعوة. . . نفساً سئمت كل ما يحيط بها من عوائق، وما يحدها من علائق، وما يربطها من قيود. . . وروحاً مستها أنوارك فألهبتها، وصهرتها، ونقّت جوهرها. . . فعاشت بعد أملاً واسعاً، ورجاءً عريضاً، وشوقاً محرقاً. . .

وستستغفر يا سيدي الرسول. . . لي. . . ولهؤلاء الذين ضلوا من قبل، وسيضلون من بعد. . . هؤلاء الذين فتنتهم المادة، واستهواهم العقل، وزاغت بهم المناهج في بيداء قاحلة مجدبة. . . فعرضوا الذهب على النار كما يعرضون عليها الحديد والتراب. . . فاستبان لهم الهدى، وأنكشف لهم الحق، وظهرت لهم السبيل النيرة فدخلوا جنتك الممرعة. . .

. . . إنها يا سيدي رسول الله إغفاءة الروح التي استيقظت معها المادة، وصدأ النفس الذي فاقت عليه الغريزة، وخبو الإشراق الذي سعى في ظلمته العقل، وكبر الحدس الذي نشط في خموده الذهن. . . وضلال الأهواء العاتية الذي فترت معه الأحاسيس. . فإذا رؤى الجمال، ومعاني الحق، ومثل الخير لا تنبجس في النفوس إشراقاً، ولا تنبعث في العقول إلهاباً، ولا تلقي في الروع إلقاء. . . وإنما هي في حاجة إلى المقدمات والحجج، وفي ضرورة إلى البيان والشرح!!

لشد ما أبغض أن ألقي جمال الزهرة في تشريح أجزائها ومعرفة أعضائها وتمزيق أوراقها وبتر سوقها، والهبوط بها من عرشها الزاهي. . .! إني لأفضل أن أترك هذا الأسلوب لطائفة غيري من الناس واسأل لهم منه العافية. . . فما يجب لنا أن ننشد جمال الزهرة في غير عرشها الزاهي، وتوردها الملهم، وساقها القائمة، وانحناءتها الحييَّة، وتفتحها بيد الله. . . لا بيد الإنسان!

فلْتعش سيرتك يا سيدي يا رسول الله. . . انفعالاً حلواً، وعاطفة لذيذة. . . وهيجاناً يذكر بآيات الله، ويقرب إليه، ويدنى منه. . . ولتبق هذه السيرة الكريمة فكرة ومثلاً. . . فكرة سامية نبيلة، ومثلاً عالياً كريماً. . . ولتخفق نفوسنا من حول هذه الفكرة، ولتحوم في ثنايا هذا المثل كما يحوم الحجيج حول البيت المقدس. . . في خشوع الإيمان القوي، وروعة الجلال المهيب، وإطراقة المستغرق الذاهل. . . ولتنطلق. . . وقد انعتقنا من هذه القيود، وبرئينا من هذه الأغلال، وتجردنا عن أوضار المادة وآثام العقل. . لنغتسل في أضوائك الطهور ونتمسح بهديك الرشيد، ونستقي أمواهك الألقة. . . ولنغب في دنياك البريئة عبرْ الفضاء البعيد البعيد. . . أرواحاً صافية صفاء النسيم، نقية نقاء السماء، خالصة خلوص الشعاع. . . لنلتقي في ظلال الروح الأعلى. . .

سأعب من كوثرك الخالد - يا سيدي يا رسول الله - فأنا ظمآن حرَّان. . . وسأقطف من جناتك المترعة، فأنا نهم شره، ولقد طال بي الظمأ، واشتد عليَ الجوع، وضل بي الركب في قافلة تظن الهداية وهي حيرى، وتدعي الهناءة وهي شقية، وتحسب الراحة وهي في عذاب غليظ، وتمضي على الشوك وينفر من جراحها الدم، فلا تدرك لذع الشوك وألم الدم. . . لأنها فقدت في الحياة النفسية أحفل عناصرها بالإحساس واشدها أثراً في التفكير وأقربها خطى من الخير. . . ولا تزال تزعم أنها في سند من جفاف العقل، وفي كفالة من صلابة المادة!

فاستغفر لي يا سيدي الرسول، إني إنسان لا يرى بعينيه ولكنه يحس ببصيرته. . . ولا ينطوي في عقله، ولكنه ينطوي معه في حدسه، ولا يتحجر مع المادة ولكنه يبلّها بعصارة من قلبه: يبعث فيها جانب الحياة، ويثير منها معنى الوجود، كما يبل الطبيب وجه المريض يدفع عنه غفلته، ويصرف عنه إغماءته. .

أدع لي. . . واستغفر لي. . . فما أحوجني يا سيدي يا رسول الله إلى الدعاء والاستغفار. . .!

(القاهرة)

شكري فيصل