مجلة الرسالة/العدد 450/ماضي الإسلام وحاضره
مجلة الرسالة/العدد 450/ماضي الإسلام وحاضره
للأستاذ محمد توحيد السلحدار بك
احتفلت مصر بأول السنة الهجرية، فجيَّ في الخواطر ذكر الهجرة النبوية؛ وتمثل للأذهان المثقفة ما سبقها وما وليها وتتابع بعدها من حوادث جِسام بنتائجها القريبة والبعيدة؛ واتجهت القلوب الشاعرة إلى ذلك الوطن الإسلامي المجيد الذي سطع منه نور الحقيقة الدينية فأضاء الآفاق.
وتلك ستون وثلاثمائة وألف سنة خلت بخيرها وشرها وتركت عبرها لمن يعتبر، فيرى أن الله أسعد المسلمين بدينه الكريم، وإنما هم أشقوا أنفسهم بميلهم عن صراطه المستقيم.
قام محمد بالرسالة والعرب على شفا حفرة من النار بما كان لهم من دين وثني في تأخر، وأخلاق في تدهور؛ فأنكروا عليه سعيه وائتمروا به، فهاجر إلى المدينة، ثم عاد إلى مكة المكرمة منصوراً بإذن الله؛ وأدخل الرسول في عقولهم الضالّة وأفئدتهم الشاردة عقيدة التوحيد الذي تجلّى في القرآن الشريف بمنتهى القوة وأروع الجلال، والذي هو جوهر الإسلام المتين على قواعده الخمس.
فاعتدلت أحوال العرب بقواعد الإسلام وعباداته وآدابه، وأصبح المؤمنون بفضل التوحيد أخوة في الدين، وجلَّ به شأن المسلمين. وكان الرسول ﷺ خير المحسنين إلى الإنسانية بأمانته في إبلاغ الرسالة، وبعظمِه في سيرته الدينية والأخلاقية.
وما أجلَّ قوة الإسلام الذي انتشر سريعاً واستمكن في قارتين على حين كان القتلة يغتالون الخلفاء في أسوأ الحوادث! وأعظِم بها من قوة مدت سلطان الدولة الأموية من الشرق الأقصى إلى الغرب الأنأى في أقل من قرن إن هو إلا لحظة من الدهر! وأكرِم به من دين أزهرت بحسناته المدنية الإسلامية لعهد العباسيين!
فهذا هو الرسول يؤدي الرسالة، وهذا أبو بكر أقلّ عناية بوضع الخطط الحربية منه بالدعوة وجمع القرآن، وبتوطيد الوحدة الإسلامية، وتأسيس حكومة عربية؛ وهذا عمر لا يقلَّ عدلاً عن أبي بكر، وإن زاد ميلاً إلى الفتح وأشرف من الحجاز على جملة الأعمال الحربية؛ وقد كان بقوة يده وشدة شكيمته هو الرئيس الذي تحتاج إليه أمة حديثة التكوّن، يفتْها فيض مغانمها ويظل هو هادئ النفس الأبية، يضاعف بساطة عيشه، ويفخر بثوب المرقع، ولا ينال منه التعب، وليس له من الأغراض سوى أن يزيد الإسلام نصراً على نصر؛ وهؤلاء هم الصحابة والأنصار والأبرار، ثم الخلفاء العظماء والقواد الكبار: معاوية وعبد الملك والوليد وعمر وعبد الرحمن، وأبو جعفر المنصور والرشيد والمأمون، وأسامة، وأبو عبيدة، وأبن العاص، وخالد، وعقبة، وطارق، وأبن نصير، والحجاج.
رحم الله الجميع بما خدموا الإسلام في الفتح بالعقيدة والحسام والله (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذّكر إلا أولوا الألباب).
طغي الحكم المطلق لعهد المعتصم وبعده في جماعات إسلامية مختلفة دماؤها وذكرياتها القديمة؛ تقرأ في الكتاب المجيد: (إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم، واتقوا الله لعلكم ترحمون)؛ وترى الموالي يبلغون أسمى المراتب، ويداخلها من روح الإسلام الآمر بالشورى والعدل ما يشبه شعور الديمقراطيات في أيامنا بلذة المساواة والحرية، فكان التناقض بين ذلك الطغيان وهذا الروح سبباً من أسباب قلقٍ سياسي واجتماعي مستمر في تلك الجماعات.
وجاء الانحطاط مع ضِعاف الخلفاء ذكاءً وعقلاً، فأصبحت الخلافات العباسية من عهد المعتصم متعثرة في غير الطريق الأقوم تزداد فيها القسوة ويقل التسامح، وتكثر الفتوق والمطامع والمطامح، ويتعدد الانقسام وتنفصل الولايات؛ ثم كثرت حركات الاستقلال في القرون التالية، وتضاعف عدد الأسر الحاكمة في كل صوب، فداول الله الأيام بين الدويلات حتى تضعضع الدهر بالشعوب الإسلامية، وأمست بلادها في النهاية أسواقاً للغاشمين ومستغلات ومسالك للغالبين، ومستعمرات تتبدَّل أسماء بأسماء، ولا تتغير المسميات (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير)؛ (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم).
أما ذلك الطود الأشم، العزيز بالتوحيد، الثابت على قواعد الإسلام الخمس وحِكمه الخلقية وعلى السّنة المحمدية، فهو راسخ لم تذهب به زعازع القرون، ولن تذهب.
ولقد أثبت نجاح الدعوة نجاحاً متواصلاً أن الأخلاق الإسلامية لاءمت كل العصور، ودلَّ على أن الإسلام يوائم نور العقل الإنساني. وقد أيد مبشِّرون مسيحيون أن هذا الدين القويم ينتشر ويمد رواقه في الآفاق؛ وبديهي أن هذه الشهادة هي، بالنظر إلى علة انتشاره، إقرار منهم بفضل الإسلام وسموّه من حيث هو دين، ومن حيث هو سبب للمدنية.
تلك الحقائق الواضحة ينكرها فريق من أصحاب المصالح الاستعمارية، الحريصين على نفوذهم أو سيطرتهم في البلاد الإسلامية؛ بل هو يزعم أن عالم الإسلام قوة من القصور الذاتي والقدرة على عدم المطاوعة تعارض بطبعها مدنية الغربيين؛ وإنه عالَم لا يقبل التغيير وعاجز بكيانه وأخلاقه عن التطور الصحيح النافع؛ فهو كتلة تظّل أبد الدهر غير قادرة على مساواة أمم غربية في الجَلَد والضمير، والصفات النفسية، برغم الظواهر وبعضِ التأويلات التي تخدع من لا خِبرة لهم برجال هذه الكتلة وشؤونها؛ ومواهبُ الشرق الفطرية مناحسُ، هي الخلو من المثل الأعلى ومن الفضائل القومية؛ وهي الجَوْر، والرغبة عن المشروعات التي يطول بتنفيذها الزمن؛ وهي البلادة في رخاوة وتثاقل، والجمود تتخلله أزَمات عنيفة قصيرة ليس فيها كبير طائل؛ فأحسن حال تحدث للبلاد الإسلامية هي أن تدخل، طوعاً أو كرهاً، في وصاية حكومات أجنبية تنيلها، بالتوجيه الحازم، خيرات النظام الذي تمنعها عوائقها أن تقيمه هي من تلقاء نفسها.
ألا إن الإسلام دين الفطرة واليُسْر، ولا تعقيد فيه. وأصله الاعتقاد بالله الأحد، وبالرسالة المحمدية. والقرآن هدى للمؤمنين لا عقبة في سبيل فلاحهم الاجتماعي والأخلاقي، والشرعي والفكري. وقد أصلح النبي على نوره شأنَ العرب وصَلُح به شأن أمم شتى. وكان تقييد العقول أبعَد الأشياء عن خاطر الرسول الذي أوحى إليه: (إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون) و (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب).
وليس الإسلام بذلك النظام الجامد الذي لا يراه إلا أهل النظر السطحي أو أولو الأغراض. ولقد كانت المدنية الإسلامية، قبل قرون، أزهر مدنية في الدنيا، يوم كان شارلمان فارساً خشناً بالنسبة إلى هارون الرشيد؛ وكان العالم المسيحي، لأوائل عهد الإصلاح الديني في أوربا، على حال سادت فيها العقيدة على العقل، وعمّ الرضى الأعمى بالتعاليم وبالسلطة، والعداء لحرية الفكر والعلم، والارتيابُ بهما.
كلا، ليس الإسلام في شيء من المعارضة للعلم والمدنية؛ وقد قضى العالم الإسلامي عهداً مديداً في فتور وحياة متئدة، ولكنه آخذ في الخروج من حال تخلُّفه. فمن ذا الذي يستطيع أن يحكم بأنه لن ينطلق إلى طور جديد يعيش فيه عيشة مصححة بلا معين، محتفظاً بمعيِّناته الأصلية؟؟
والحق أن للإسلام أثراً جليلاً في حياة الإنسان الدينية، ومكاناً فسيحاً في الدنيا. وله فيهما شأن عظيم سواء أكان من حيث هو دين أم من حيث هو عالَم يضم شعوباً على إيمان واحد، ومظهر أخوّتهم الدينية حجُّهم البيت في الوطن الأصلي الذي نشأ فيه دينهم: يدعوهم الإسلام فيخفّون إلى القبلةِ ويحتشدون فيها على رغم انقسامهم شيعاً ومذاهب، واختلاف نزعاتهم وتبعياتهم. فالإسلام قوة روحانية، وهو من ههنا قوة سياسية واجتماعية من الطراز الأول.
من أجل ذلك فشل طالبو محوه من الوجود ومحاربوه وجهاً لوجه؛ وأصبح في الغرب من يقول: (إن في العالم الإسلامي رجالاً لهم نزعة محمودة يعملون على التوفيق بينه وبين العالم الأوربي؛ وإن في الجانب الأوربي والمسيحي رجالاً أمثالهم يسعون سعيهم، ويدفع الجميعَ وجدانيّ واحد هو الشعور بواجب السعي في تحقيق هذا التوفيق الضروري. وإن هؤلاء الأفاضل - من الطرفين - هم وحدهم الأقدرون على تحقيق (الاتفاق) المنشود بين العالم الإسلامي والعالم الغربي المسيحي).
ويقول أيضاً إن كلمة (الاتفاق) - المطلقة المعنى الواسع العام - مستعملة عن عمد في هذا الكلام الذي لم يُرَد به سوى علاقات حسنة تسهّل الحياة فتروّج التجارة والصناعة، لأن الدين الإسلامي سلطان روحي هو من القوة وزَيْد الجدارة بالاحترام في مقام لا يمكن معه أن يُقصد هنا غير الاتفاق الودي. (ودَّتْ طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون).
وليس شك في أن العاقل يسره التفاهم بين الناس والتوفيق بين مصالحهم، وإيتاء صاحب الحق حقه لا وكس فيه ولا شطط. غير أن كلام الغربي - في هذا الصدد - يشفّ عن الحقيقة وإن ظهرت وراءه في خفاء. فعسى الساعون من رجال البلاد الإسلامية في تحقيق الاتفاق بين الطرفين أن يتبينوا هذه الحقيقة تفادياً من أن يشوب خيره شر لأوطانهم يُطيل أمْد بقائها تحت ألوان الحكم الأجنبي، وهو إسار وإن تموّهت أسماؤه الحسنى.
ذلك بعض ما يرى الناظر في ماضي الإسلام وحاضره، وما يجمعه تداعي المعاني في خاطره من حقائق عظيمة الشأن. وفي القرآن: (فذكِّر إن نفعت الذكرى، سيذكَّر من يخشى ويتجنَّبها الأشقى).
فليت المسلمين يلتفتون إلى تلك الحقائق في فاتحة هذه السنة الهجرية المباركة، إذ يبدأ فيها الإصلاح الذي يتوخاه جماعة كبار العلماء، والعمل الجليل الذي عهدوا إلى لجنتهم في القيام به، والحمد لله! (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب).
محمد توحيد السلحدار