مجلة الرسالة/العدد 453/تطور العلوم الاجتماعية

مجلة الرسالة/العدد 453/تطور العلوم الاجتماعية

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 03 - 1942



للأستاذ محمد جلال عبد الحميد

يتبين من تاريخ علم الاجتماع إنه لا يزال في دور التكوين. ولعل سبب ذلك يرجع إلى ما يشوبه من نظريات فلسفية أفسدت عليه استقامة عوده، والى عدم استقرار فروعه وتحديد غايتها واستخلاص طرقها.

فنرى تاريخ الأديان مثلا تتنازعه تيارات كثيرة؛ وعلى حسب اختلاف اتجاه تلك التيارات وقوتها تختلف طريقة البحث ونتيجته. وكثير من مؤرخي الأديان الكبرى كاليهودية والنصرانية والإسلام يرون أن للأديان منشأ واحدا لأنها جميعا تعترف بوجود قوة خالقة واحدة لهذا الكون يشعر بوجودها الإنسان حين النظر في أمر تكوينه والبحث عن آثار تلك القوة الممثلة في وجدانه. أخذ هؤلاء العلماء يردون ويفسرون جميع الظواهر الكونية والاجتماعية والنفسية إلى أصل واحد يحيط بها ويعبر عنها بأسلوب لا يأتيه الباطل ولا يتطرق إليه الشك، وهذا الأصل هو الكتب المقدسة وآثار الأنبياء. من أجل ذلك توفرت جهود المؤرخين على جمع وترتيب شتات هذه الكتب وتلك الآثار، وانكبوا على دراستها ليستخرجوا منها أسباب الحوادث والوقائع التاريخية مفسرين كل هذا حسب ما لديهم من اعتقادات راسخة وإيمان ثابت في صحة روايات ووقائع تلك الكتب والأحاديث.

وهناك فريق آخر - وهم الفلاسفة ومن إليهم - يرى أن نشأة الأديان ترجع في أصلها إلى عوامل نفسية لما فطر عليه الإنسان من حب ولما تكون فيه من غرائز، وإن هذين العاملين يتنازعان القوى الروحية للإنسان، وعلى قدر تغلب أحد هذين العاملين على الآخر تتعين طبيعة الدين وقوته. فالدين عند الأمم المحدودة المدنية مثلا هو دين غريزي، لأن أصله غريزة الخوف والتنازع على البقاء. وقد نعته (برجسن) بأنه دين خامد لخلوه من عناصر التطور والتجدد. وأما الأديان الكبيرة كاليهودية والنصرانية والإسلام والبرهمية فإنها تصدر عن عاطفة الحب التي يتميز بها الصوفي في تلك الأديان. ومن أجل ذلك اعتبر موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام أنبياء لتميزهم بحبهم الخالص للعالم كله، وتفانيهم في العمل من أجل سعادته، وقدرتهم على الإشراق والتقمص في قوة الكون ذاتها، ليمثلوها في أجلى مظاهرها وأتم معانيها من خلق وتجديد، وهذه هي الأديان (المتطورة) ولكن علماء الاجتماع لم يرضهم هذا الرأي أو ذاك، لأن العوامل النفسية والاعتقاد بوجود قوة خالقة ومدبرة لهذا الكون لا يمكن اعتبارها أساساً ومصدراً للأديان، فهناك أديان كبيرة كالبرهمية والبوذية - نشأت وانتشرت ولم تزل تعم جزءا كبيراً من العالم، على رغم إنها خالية من مثل هذا الاعتقاد. ونرى أيضاً أن هناك أدياناً متعددة عند الأمم المحدودة المدنية

- كالقبائل الأسترالية والزنجية وغيرها - لها أوضاع وأسس تشبه في كثير من ظواهرها الأديان الكبيرة، لأنها قادرة على التمييز بين الحلال والحرام وأمر القيام بعبادات منظمة؛ وهذه الأديان أيضاً لم تقم ولم تحدد بمثل ما تتقيد به النصرانية أو الإسلام من ضرورة الشعور بوجود هذه القوة الذاتية؛ وكما إنها لا تشعر الفرد بأن هناك قوة روحية كامنة في الإنسان وخارقة للعادة تدفع الزنجي أو الأسترالي إلى حب غير بني جنسه كما يعمل الصوفي في اليهودية أو النصرانية. فالزنجي أو الأسترالي يتقرب لأبناء جنسه ويفنى فيهم لأنه لا يرى سواهم حوله، فقبيلته هي كل شيء كذلك حين يقدس هذا الزنجي معبوده (أي توتمه) ويفنى فيه بحبه له، يفعل ذلك، بل وأكثر من ذلك، لأن معبوده هو رمز قبيلته، وأن الفرد والقبيلة هما وحدة لا تتجزأ. وأما الصوفي فحبه الشامل للكون وتفانيه في القوة الخافقة له، لأنه مجبر على الإحساس - دون وعي لحالته - بهذا الشعور، لأن الجماعة التي يعيش فيها تلهمه ضرورة حب غيره من عامة البشر، بل وحب الكون عامة، لأن هذه الجماعة هي خلاصة العناصر المادية والروحية للإنسانية كلها، ولأنها رمز قوة الكون، لذلك كان هم الصوفي أن يسعى ليفنى في هذه القوة ذاتها.

من أجل ذلك يقرر علماء الاجتماع أنه إذا فرض واعتبرت الجماعة البشرية مصدر الأديان مهما اختلفت عصورها وتباينت بيئاتها فقد يكون في ذلك حالة أدعى للطمأنينة وأدنى للصواب حين يعمل الإنسان لكشف حقيقة الأديان وتحليلها إلى عناصرها الأساسية، وفي هذا الاتجاه سار إميل دركيم وتلامذته بفرنسا.

وهذه وإن كانت محاولة جريئة قد تهيئ لنا مجالا أوسع للبحث والتنقيب عن أصل كثير من الظواهر الدينية ومعتقداتنا وأساس إيماننا.

ولم يكن حظ الجغرافيا البشرية أوفر من حظ علم تاريخ الأديان من حيث القدرة على استخلاص قوانينها العامة والاسترسال في تحقيقها. فكثير من الجغرافيين يرون أن البيئة الاجتماعية - بما فيها من تنوع في النشاط المادي والروحي - هي نتيجة حتمية للتأثيرات والعوامل الطبيعية للمنطقة التي تشغلها تلك البيئة الاجتماعية؛ فإذا أينعت الأرض وعم خيرها وصلح جوها شبعت الجماعة وكثر نشاطها وعم فرحها وتنوعت ظواهرها الاجتماعية وتميزت عناصرها الجنسية.

وهناك فريق آخر من العلماء يقولون إن غاية علم الجغرافيا البشرية هي دراسة العلاقة بين الإنسان وبين البيئة الجغرافية التي يسكنها وأثر كل منهما في الآخر وتحديد ما يتركه هذا الأثر في التكوين الاجتماعي. ويظهر أن هذا هو الرأي الأخير الذي استقر عليه عامة الجغرافيين والاجتماعيين.

وأما علم الأنتولوجيا فإنه لم ينج أيضاً من تلك العقبات الموضعية عند نشأته، فقد اعتبره (كترفاج) أحد فروع الزيولوجيا وجاء بعده (بروكا) وتلامذته (أرنست هامي) (وفرنو) فتوسعوا في فهم هذا العلم ووضعوا أسسه المختلفة، فضموا إليه دراسة المدنيات واللغات، وتسابقت الدول بعد ذلك في إدخال تعديلات وزيادات في مناهجه وأسسه كل منها حسب فهمها له والغاية التي ترجوها منه؛ فبعض هذه الدول كان يتخذه أداة صالحة للاستعمار، وبعضها الآخر يتناوله على أنه علم قائم بذاته له تجارية وأوضاعه؛ وغنى به كثيراً في الفترة الأخيرة في ألمانيا وإنجلترا وفرنسا وأمريكا.

وهكذا حال بقية العلوم الاجتماعية الأخرى مثل علم النفس الاجتماعي وعلم الاقتصادي الاجتماعي وغيرهما لم تكن أثبت وأدعى للطمأنينة فيما سبق من العلوم، لأن ميادين تجاربها لم تتعين إلا قليلا ولم يتنوع العمل فيها إلا يسيرا

وبرغم هذا فإن تطور علم الاجتماع وبلوغه الدرجة التي يقف عندها الآن مدين في كثير منه إلى تلك العلوم، لأنها عملت وما زالت تتعاون فيما بينها على كشف حقيقة عدد قليل من الظواهر الاجتماعية والدينية والاقتصادية. وكثيرا ما استفاد إميل دركيم من البحوث الأثنولوجية التي قام بها (سبنسر وجلن) & على قبائل استراليا؛ وذلك حينما حاول دركيم عام 1912 تفسير الظواهر الدينية لدى الأمم المحدودة المدنية. ونرى كذلك (ليفي برهل) - يرجع دائما إلى نتائج البحوث الأثنولوجية حينما يريد أن يحدد ويحلل عناصر التفكير ووسائل التعبير عنه لدى الأممالمحدودة المدنية. وتجد أيضاً (ومرجان) (ووستر مارك) (ومارسل موس) وغيرهم من الاجتماعيين لم يتمكنوا من التقدم خطوة واحدة في بحوثهم وتحقيق نتائجها دون الرجوع إلى بحوث الأثنحرافيين.

وإذا أنعمنا النظر يظهر لنا الفرق الحقيقي بين العلوم الاجتماعية من حيث فائدتها لعلم الاجتماع؛ فالأتنولوجيا هو الطريق المباشر الذي يسلكه الاجتماعي للبحث عن اصل كثير من الظواهر الاجتماعية والدينية والاقتصادية بل والمبادئ العلمية نفسها؛ لأننا لم نزل نشاهد في كثير من بقاع الأرض أمماً وقبائل تتبع في طريقة عيشتها وسائل بسيطة، وتتبع في التعبير عن تفكيرها وشعورها صوراً متناهية في البساطة إلى درجة يمكن اعتبارها إحدى صور الحياة والتفكير للأمم التي سكنت أوربا وغيرها في عصور ما قبل التاريخ. فهي صور خالية من التعقيد والتنوع اللذين تمتاز بهما حياة الأمم الراقية. وإن البحث عن أصل تلك الظواهر وكيفية نشأتها وطريقة تكوينها ثم العناية بترتيبها وتبويبها بطريقة علمية منظمة هو غاية الأثنولوجي؛ وبعمله هذا يكون ثروة علمية لا تفنى لدى العالم الاجتماعي.

وسنبحث في الكلمة القادمة عن أهمية البحوث الأثنولوجية بحوض النيل والعمل على تنظيم تلك البحوث وإدخالها ضمن التعليم العالي بمصر.

محمد جلال عبد الحميد