مجلة الرسالة/العدد 453/دروس في الحرب

مجلة الرسالة/العدد 453/دروس في الحرب

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 03 - 1942


هل تنسى؟. . .

للأستاذ عباس محمود العقاد

واحدة. اثنتان. ثلاث. . . ثمان. . .

ومضى صاحبي يعد الفتيات اللائي يعبرن بنا في الظلام واحدة بعد واحدة حتى أربى العد على العشرين، وكلهن يعبرن الطريق منفردات كأنهن رجال، وقل في الطريق من يلتفت إليهن، أو يريهن أنهن أخطأن بالخروج في هذا الليل على انفراد، أو يعجب كما عجب القائل:

ثم قالت وأحسّتْ عَجبي ... من سُراها حيث لا تسري الأسود

لا تَعجّب يا حبيبي فالسرى ... عادة الأقمار والناس هجود

قال صاحبي: لو خرج هؤلاء في ليلة كليلتنا هذه في القرن الماضي كيف كن يخرجن؟

كن يخرجن والمصباح أمامهن في يد الخصي أو الخادم إن كن من ربات الخدم والخصيان، أو كن يتسللن في استخفاء كتسلل اللصوص إن لم يكنّ من ذوات اليسار.

قلت: فإن كانت فتيات اليوم لا يحتمين بحارس ولا مصباح فما أظن العلامة كلها علامة خير! من يدريك يا صاحبي لم لا يلتفت إليهن أحد من أولئك المدلجين في الظلام ولم لا يلتفتن إلى أحد؟ لعل كل عابر من أولئك المدلجين ذاهب إلى موعد! ولعل كل عابرة من أولئك المدلجات ذاهبة إلى موعد مثله! ومن لم يكن من الرجال على موعد فلعل الذي يثنيه عن المناوشة والمغازلة علمه أن الفتاة العصرية تجرؤ الابتداء أو على الإيماء والإيحاء ولا تنتظر حتى يجيء الابتداء من الرجال. فإذا رآها معرضة أو جادة في الطريق علم أن ابتداءه بالمناوشة والمغازلة لا يفيد، وأن الأكرم له أن يمضي في سبيله حتى تبدو له إشارة من إشارات التشجيع.

ليس كله يا صاحبي بخير!

ليس كل هذا من الصيانة بل فيه كثير من الابتذال والهوان، وليست كل شجاعة المرأة خيرا بل حياؤها وجبنها أكرم لها من هذه الشجاعة في بعض الآراء.

وانتقل الحديث من عابرات الظلام إلى الظلام نفسه فقال الصديق: والله لقد ألفناه حتى استحببناه، ووالله إن الإنسان ليخرج من البيت إلى الطريق كأنه على العكس خارج من الطريق إلى البيت، لأن في الظلام معنى الاستكنان والإيواء، وفي النور معنى العموم والشيوع. فإذا تجاوز أحدنا الباب فكأنه خارج من عالم حافل بالناس والمناظر إلى عالم لا مناظر ولا ناس فيه.

قلت: ما أدري إن عشنا كيف تفاجئنا القاهرة أول ما تضاء كما تضاء في أيام السلم قبل سنوات؟ أخالنا سنحسبها ليلة عيد أو مهرجان؛ وأخالهم لا يصنعون في احتفالهم بالسلم أكثر من إضاءتهم المدن كما كانت تضاء.

قال صاحبي وكأنه خاف على ظلامه الذي ألفه واستراح إليه: أو عائدون نحن إلى تلك الأضواء المسرفة لا محالة؟ لم لا نستفيد من دروس الحرب ونقنع بهذا النصيب من النور الذي يهدينا إلى حيث نشاء؟ فإن لم يقنعنا هذا النصيب فلم لا نزيده بمقدار ما نتقي بعض الأضرار التي نحذرها الآن؟. . . لم لا نقنع بربع ذلك الضوء الذي كنا نسفكه على الأرض أو على الوجوه التي هي شر من الأرض قبل سنوات؟

قلت أداعبه: نعم. أو على الوجوه التي تعدها الآن ولا تراها!! ولو رايتها لما كنت ارتقيت بالتعداد إلى العشرين وما فوق العشرين!

وكان صاحبي جائعا فوقف عند دكان من دكاكين الشطائر وقال: بإذنك يا عضو المجمع اللغوي. . . ألا تأذن لنا في (شاطر ومشطور والطازج بينهما)؟

يريد صاحبي ما شاع على ألسنة العامة من تسمية المجمع للشطيرة أو (السندويتش) بذلك الاسم المطول الذي يدل على وليمة كاملة، لا على لقمة تتناولها الإصبعان.

قلت أداعبه أيضاً أو أنتقم منه: بل في بلغة إن أردت!!

قال: أو هذه تسمية المجمع؟ أو هو تصحيح وترجيح؟

قلت: إنك لأحرى أن تصدق هذه التسمية الصحيحة من تصديقك تلك التسمية التي لا تساغ ولو على سبيل المزاح. والبلغة أخف من الطازج بين الشاطر والمشطور.

ثم ذكر صاحبي أن اليوم من أيام النبات وليس من أيام اللحوم. فعاد إلي يرد انتقامي وسألني:

أو يعجب هذا صاحبك المعري؟. . . ما زلتم تهتفون باسم هذا الرجل حتى أوشكنا أن نقتصر على العدس والتين مثله. فلا تزيدوا بربكم من ذكره لكيلا نلتزم البيوت ولا نرى في الدنيا غير الظلام. . .!

قلت: وما بالك لا تحسبه درسا من دروس الحرب الباقية؟ وما بالك لا تحمد لنا أن ذكرنا المعري حتى أوشكنا أن نرضيه وأن نقتدي به في طعامه؟

وكانت نوبة الاعتبار والاتعاظ مالكة زمام الصديق في تلك الليلة، فأخذ في تفصيل هذا الدرس الجديد، وطفق يقول ويكرر: ولم لا؟ ولم لا؟ إننا تعودنا ونعم العادة ما تعودنا. . . فلنمض في ذلك طائعين ننسى غدا أننا مضينا فيه أيام الحرب ونحن كارهون.

وراح يقول: أو ليس هذا ضرباً من الصيام المحمود؟ أليس فيه ما في الصيام من شعور بالمساواة بين الأغنياء والفقراء؟ أليس فيه ما في الصيام من ضبط للنفس وكبح للشهوات؟ أليس فيه قصد ومنفعة؟ أليس فيه صحة وحمية؟ أليس فيه تآزر بين البيت والأمة فلا يأكل البيت إلا بمقدار ما تسمح الأمة؟

قلت: بلى، فيه هذا وفوق هذا

فظن أنني أمزح سأهزأ به فتأهب قائلا: وما فوق هذا؟

قلت: على ربعك! لست أمزح ولا أنوي أن أستهزئ بنوبة عظاتك في هذه النوبة. . . إن الأيام التي خلت من اللحوم لفيها ما ذكرت وزيادة: فيها الحمية والقصد وضبط النفس والمساواة بين الغني والفقير، وفيها أنها ستبصرنا بمنافع السمك وطالما عجبت لإهمال المصريين إياه.

فمصر يحف بها بحران عظيمان، وفيها بحيرات كبار، ويتخللها النيل وليس هو أغنى هذه الموارد بالسمك النافع، ولكنه مورد لا نستفيد منه كل ما يستفاد

وقد كانوا في مصر القديمة يستفيدون منه ويأكلون سمكه أيام الفيضان، ويملحونه ليحفظوه إلى الفيضان المقبل، لأنهم كانوا يجهلون من أساليب الصيد في البحار وتوليد الأسماك فيها ما نعلمه الآن

أما نحن فعندنا الزوارق البخارية والوسائل العصرية والمعرفة بعلوم الأحياء. فلماذا لا نستكثر من أكل السمك وهو غذاء صالح للأجسام والعقول؟

فصاح مستفهما: وللعقول؟ قلت نعم. . . وإن أناسا جادين في القول والبحث ليزعمون أن الفلسفة اليونانية مدينة للسمك بالشيء الكثير، وإن حكماء الإغريق نبغوا على الشواطئ وبين أبناء الجزر، لأنهم كانوا يستكثرون من أكل السمك وفيه (الفسفور) كما تعلم، وفي الفسفور غذاء للمخ والأعصاب، وغذاء للعقل والإدراك من هذا الطريق.

ومن فكاهات العصر الحديث ما يؤيد أولئك الباحثين الجادين فيما زعموه. . . أو لم تسمع بحوار الإنجليزي والاسكتلندي على السمك ومناصب الدولة؟

قال: لا

قلت: فاعلم أن إنجليزياً سأل رجلاً من أذكياء اسكتلندة متعجباً: ما بالكم يا هؤلاء وليست في بلادكم العاصمة ولا مراكز الدولة، تشغلون أكبر مناصبها، وتستأثرون فيها أحيانا بالوزارة والقيادة والقضاء؟

فارتد إليه الاسكتلندي مجيباً: أو لا تدري؟ إنه الدماغ، وإنه السمك. . .!

قال الإنجليزي: وما العلاقة بين الدماغ والسمك وأبناء اسكتلندة؟

فقال الاسكتلندي: إن السمك فيه الفسفور وإن المخ لا يعمل بغيره، وإنه كثير في سمك بلادنا. . .!

قال الإنجليزي: أئذا أكلت من سمك بلادكم رشحت نفسي بعد حين لمنصب من تلك المناصب الرفيعة؟

قال: بلا جدال

ونقده الإنجليزي جنيهاً وأرسل إليه الاسكتلندي سمكة وعاد بعد أيام يسأله: كيف أنت واقترابك من المناصب الرفيعة!

فهز الإنجليزي كتفيه وأجابه: كما أنا!

قال: إذن كرر التجربة

وكرر التجربة، وأعطاه الجنيه، وأكل السمكة، وعاد إليه بالسؤال مرتين وعاد إليه بالجواب عينه، فلما قال له: كرر التجربة إذا بالإنجليزي يقاطعه هذه المرة صائحا:

- أولاً يباع بالجنيه عندكم أكثر من سمكة واحدة؟!

فابتسم الاسكتلندي وربت على كتفيه وهو يقول: هذا معقول السمك قد آذن أن يظهر يا صاح!

ومن أين لنا أننا إذا طالت التجربة في مصر، قلنا لمن فهموا بعد أن كانوا لا يفهمون: هذا مفعول السمك يا هؤلاء، وهذه بركة الأيام التي لا تحمدونها الآن!

دروس من الحرب، وكم للحرب من دروس. . . فهل نذكرها؟ وهل ننساه فيضيرنا نسيانها!

ويح بني الإنسان! لو أن درساً من دروس جيل ينفع الجيل الذي بعده لما تلاحقت المصائب عليهم جيلا بعد جيل.

وويحهم مرتين! لو أن الأجيال السابقة تجرب للأجيال التي بعدها وتعيش لها لبطل عيش اللاحقين وأصبح كالنسخة المكررة من عيش السابقين

فليجربوا أو لا يجربوا، ولينسوا أو لا ينسوا، فما هم بناجين، وما هم عن تكرار التجربة بمستغنين، ولو كلفتهم السمكة أكثر من جنيه، وأبطأ مفعولها بعد قضاء الثمن مرات.

عباس محمود العقاد