مجلة الرسالة/العدد 454/بين آدم وحواء:
مجلة الرسالة/العدد 454/بين آدم وحواء:
تحت شجرة التين
للدكتور زكي مبارك
جاهد آدم نفسه في حدود ما يطيق. . . وماذا يطيق المرء وهو يجاهد النفس في أهواء تسوقها امراة؟ سينتهي أمره إلى الهزيمة، إلا أن تؤيده قوة ربانية تصرف عنه السوء وترده إلى الاعتصام بالعقل. ولحكمة يعلمها الله ضعف آدم عن مقاومة حواء، ودعاها إلى التلاقي تحت شجرة التين
وهنا يذكر شيث في كتابه أن حواء تلكأت في الاستجابة لذلك الدعاء، ولزمت مكانها تحت شجرة الطلح، كأنها تريد أن تحمله على الإلحاح فيكون البادئ بالعصيان
ولو تأمل شيث قليلاً لذكر تعليلاً غير هذا التعليل، فالرأي عندي أن حواء توهمت أن لآدم رغبة في شجرة التين، وإن تمنعه لم يكن عن صدق، وإنما كان يريد أن يحملها تبعة العصيان
والحوادث تؤيد هذا الافتراض، فما كاد آدم يخبر حواء بأنه سيسايرها فيما تريد حتى فترت رغبتها في قرب الشجرة المحرمة، وأعلنت اكتفاءها بما احل الله من طيبات الفردوس
فما معنى ذلك؟ وما مغزاه؟
معناه أن حواء تحب أن تسلك في جانب يغاير ما يسلك آدم من الجوانب، فقد أحبت حواء التين حين ثار آدم عليه، ثم زهدت فيه حين رأته من هواه، وإلا فكيف جاز أن يدعوها فلا تجيب وهي التي قهرته قهرا على أن يذعن لما تريد من قرب شجرة التين؟
وابتسم آدم حين رأى حواء تهدأ بعد ثورة وتلين بعد شماس، ثم حمد الله على انحسار الغمة وانجلاء الضيق، واخذ في الاستغفار من الذنب الذي اقترف. فقد حدثه الضمير بأنه أذنب بالفعل، وإن لم يذق الثمر الممنوع، لأن نية السوء لا تقل بشاعة عن السوء في نظر الأخلاق، وكان آدم يعرف أنه يعامل الله، والله يحاسب على النيات بأقسى مما يحاسب على الأقوال والأفعال، لأنه يحب لعباده أدب الملوك لا أدب العبيد
ثم نظر آدم فلم ير حواء، فأين ذهبت؟
فتش عنها في غياضٍ كثيرة، وسال عنها أسراباً من الطير والظباء فلم يظفر بجواب، فأ ذهبت؟ وكيف ضاعت؟ وما السبيل إلى مكانها في الجنة الفيحاء؟
أتكون غضبت من طاعة آدم وكانت تحب أن يتمرد؟
لقد خطر لآدم هذا الخاطر، فقد علمته التجارب أن حواء لا تتمتع بالصحوة الجسدية والروحية إلا في أوقات الخلاف. وهل ذاق آدم حلاوة حواء إلا في لحظات الثورة على الأوامر الربانية؟
أمر هذه المخلوقة أعجب من العجب، فهي لا تحلو ولا تطيب إلا عند النضال، وهي تفقد كل قيمتها حين تتناول شؤون الحب في طاعة مجردة من الإحساس، كالطاعة التي تصدر عن فتاة لم تبلغ سن الكيد، وكيد المرأة إثم جميل!
فكر آدم طويلا في غيبة حواء، وانزعج حين خطر له أن تكون حرمت الثورة على ما ترى وما تسمع، وأنها لذلك سكنت العزلة في جنينة مهجورة يسقيها نهير مجهول من رواضع الكوثر وهي رواضع تعد بالألوف
وعاد آدم لنفسه ليعرف حاله في غيبة حواء، فصح عنده بعد التأمل أن العبادة الصحيحة لا تكون إلا بالجهاد، ولا جهاد بدون أهواء
يجب أن يكون في الوجود حرام وحلال، لنشعر بالذاتية في قرب هذا واجتناب ذاك، وإلا صرنا خلائق تواجه الوجود بلا اكتراث، وإذا انعدم الاكتراث فقد انعدمت الأخلاق. وقد يكون العصيان عن نية افضل من الطاعة بلا إحساس، لأن المهم أن ندان حين عصي، ونثاب حين نطيع، ولا يتم ذلك بغير النية الواضحة فيما نباشر من مختلف الأعمال.
أتكون حواء ترهبت فلاذت بأحد الكهوف؟
ذلك ما خاف آدم أن يكون، فالترهب نذير الموت، وهو يكره لحواء أن تموت.
وكيف يعيش آدم إذا غفا كيد حواء؟
لقد أبدعته إبداعاً وإنشائه إنشاءً، حين تولت إضرام الجمر المكنون في قلبه الوسنان، وآدم رجل، والرجل يحفظ الجميل.
ومر حين وأحيان وأحايين وحواء لا تعود.
وشعر آدم بانعدام أسباب الثورة والهدوء فأيقن بقرب الفناء
وما حياة الرجل إذا خلت من الأحلام والحقائق والأباطيل؟ ما حياته إذا حرم التنقل من ضلال إلى هدىً، ومن هدىً إلى ضلال؟
قيمة الرجل بالجهاد، ولا جهاد بدون أهواء، وقد أمسى صدر (آدم) وهو جلمود أملس لا ينبت الأزهار ولا الأشواك ولا يثبت فوقه تراب ولا ماء
والتفت (آدم) فرأى من الخير أن ينقطع للاستغفار ليتوب الله عليه، وهل أذنب حتى يتوب؟
أن كان كل حظه من المعصية أنه رضى مسايرة (حواء)، وقد ذهبت (حواء) ولم يبق موجب للقنوت والابتهال
الموت افضل من حياة تخلو من مقارعة هوى النفس في كل يوم. والرجل الذي يواجه المعاني بقلبٍ أغلف شبيه بالرجل الذي يطالع سفر الوجود وهو معصوب العينين. وهل كان الموت فناءً إلا لأنه يصدنا عن صنع الخير واجتراح الآثام؟
وما طعم الاستغفار على لسان من لم يذنب؟ وما لون الطاعة في عين من لم يقاوم الأهواء؟
لقد مات (آدم) وهو حي، فلم يعد يدرك ما في الفردوس من سحر وفتون
كان (آدم) يجد لذة في ضرب (حواء)، فأين هي الآن ليتمتع بلطم خدها الأسيل؟!
وكانت (حواء) تجر (آدم) إلى مآزق تشعره بقوة الحيوانية، فأين هو اليوم من تلك المآزق، وأين سبيله إلى الفتك والجنون؟
لقد خلت حياته من جميع المعاني بعد غيبة (حواء)، وما كان يعرف أنها تملك من الروحانية الأثيمة ذلك الحظ العظيم
وانطلق (آدم) يراود معاهد الحب، عله يجد (حواء) مختبئة في بعض ألفاف البواسق، على نحو ما كان يقع في الأوقات السوالف، ولكنه لم يظفر بغير اليأس
أين (حواء) أين (حواء)؟
أين الصبية الجميلة التي أوحت إليه فكرة الثورة على الشرائع؟
أين الحلقة الحلوة التي زينت له طعم العصيان؟
كان آدم يشتهي جميع ما في الجنة من أطايب قبل أن تفارقه حواء، ثم أمسى وهو موقوذ الشهية بسبب الفراق، وهل تطيب الحياة لمن يعيش بلا أنيس موسوم بالصباحة والجمال؟
ذلك نعيم ذهب، وأمل ضاع، فليقتل آدم نفسه أن شاء هي امرأة مخبولة، ولكنها مشتهاة، والشهوة رزق من الأرزاق، وإن قيل في تجريحها ما قيل
كان آدم يهز الشجرات المثمرات ليطعم حواء، وهو اليوم يرضى بما يسقط من الثمر المعطوب، أن بقي له شيء من نعمة الجوع، والجوع نعمة لا يحسها غير الأصحاء
كان لآدم في الجنة تاريخ بسبب اللجاجة التي كانت تثور عن حواء من حين إلى حين، فما حياته وقد أمسى مغسول القلب والروح والوجدان؟
أيعبد الله بالاستغفار؟ ومم يستغفر وهو مقتول الأهواء؟
أيسبح لله؟ وكيف؟ أن التسبيح تنزيه وهو ممنى لا يدرك بعير القياس؟
لو عادت حواء لاستطاب آدم شجرة التين، ولكن متى تعود؟
لقد اكتفت الشقية بنا تطمئن إلى أنها مصدر ضلاله وهداه؛ وكذلك رأت أن تتركه في حيرة دامية عدداً من الأعوام العجاف؛ وبغي المرأة لا يحتاج إلى برهان
استيأس آدم فرضى بالانزواء في أحد الأدغال، وعند ذلك شعرت حواء بالشوق إلى مصاولته من جديد، والمرأة يؤذيها أن يهدأ الرجل، ولو كان في المحراب
- آدم! آدم!
- حواء؟
- نعم، حواء، إلا تراني؟
- كنت حسبت أنك ذهبت إلى غير مآب
- قبل أن نأكل معاً من شجرة التين؟ هذا مستحيل!
- وهل نعصى الله يا حواء؟
- سترى أن المعصية طيبة المذاق (؟!)
وتنبه آدم فرأى أنه مقبل على خطر جديد، فدار الحوار بأسلوب جديد
(للحديث شجون)
زكي مبارك