مجلة الرسالة/العدد 455/صلوات فكر

مجلة الرسالة/العدد 455/صلوات فكر

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 03 - 1942



في محاريب الطبيعة

للأستاذ عبد المنعم خلاف

(كتب كثير من هذه الخواطر في (الرستمية) بالعراق العزيز،

فهي مهداة إليه)

وما رأيت أرضاً يعنف فيها الشعور بالحياة كالعراق!

فهناك طلاسم مخبوءة في التراب والأعشاب للسحر وتفتح القلب للحياة والحب. . .

وهناك تاريخ البشرية الأولى يحرك في نفس الحي الحس بالزمان. . .

وهناك سحر هاروت وماروت لا يزال يجدد شباب قلب القارة العجوز: آسيا. . .

حيث يفيض الماء دم الحياة غزيراً مدراراً. . .

وحيث يفور النفط نهر اللهب غزيراً مدراراً. . .

فينبت من بينهما إنسان ذو جذوة بيضاء وأخرى حمراء! في جماجم عاتية عمرت الحياة بالنسك والفتك في حياة الهوى وحياة الضلال. . .

وهناك ملتقى الكيد وحرب الأجناس والأجيال في تلك الأرض السوادء، على هامش الصحراء الصفراء، وبين هضبة إيران وجبال كردستان تلتقي الأنواع من إنسانها وحيوانها وحشراتها. . . ففيها من كل جنس شاخص أو طلل. . . هبت على قلبي فيها ريح الشمال من صحارى القرغيز وسهوب سيبريا، وريح الجنوب، من خضم تحمل مواعينه الطيوب والأفاويه، والسحر الأسود من القارة السوداء وجزر الهند؛ وريح النار من أرض الفرس؛ وريح الموت من الهند أرض الاستغراق وفناء الأجساد وجنون الأرواح بالأسرار، وانسلاخ القوى وتجسيم الخيال!

إنها طلعة جبارة من طلعات الطبيعة تطلق أشباحاً ترقص في الأوهام والظنون. . .

فلا عجب إذا وعيت بعد هذا كله من أسرار الحياة ما جعل فكري دائم الصلاة!

11 - أبجد

أبداً أكرر دروس الطفولة فأتهجى أسماء الأشياء حتى لا أنسى. . .

أبداً أحترم الطبيعة البدائية كما يحترم الأطفال كبار القوم. . .

أبداً أسير إلى الأمام وعيني إلى الوراء، حتى لا أضيع طريق العودة إلى أحضان أمي. . .

لي ذهن سحري يزوي لي الأيام الماضية ويحضرها لأعيش فيها فترات ثم يردها إلى مكانها من التاريخ. . .

أسير وفي يدي مهدي الذي ولدت فيه، حتى أصل إلى اللحد الموعود لأراهما معاً يتقابلان. . .

أحتفظ دائماً بوجهي أمي وأبي حين رأيتهما لأول مرة بين الشباب والكهولة من عمرهما. . . ولن أنسى هاتين الصورتين حتى أرى وجه الموت. . . فأقابل بين الثلاثة؟

ولدت في غيبوبة. . . فهل أموت في غيبوبة؟

12 - حماية الطفولة

الطفولة هي موضع عناية الله. . . ألا ترونه يضم كل جنين أو صغير ناشئ بحنان ويشق له بيده طريق الحياة!

فمواضع يده اليقظة الرفيقة هي البراعم المتفتحة والمناطق النامية تلففها بأقمطة وأربطة، وترصد حولها حراساً من الأشواك والمرارة والمواد قاتلة المكروبات والحشرات

إنها تستكثر من البويضات وجراثيم الحياة وتخرجه بالملايين التي تعجز قوى الإفناء عن إتلافها جميعاً لتسلم الحياة وتدوم الأنواع.

إنها تحب ذلك العالم الجميل البريء الذي لم يقبح ولم يتدنس ولم تحتله بعد قوى الشر.

إنهم يدخلون باسمين للنور والطعام واللعب يسألون عن كل شيء

الشمس لهم المرعى والليل، ولهم السعي والعمل والحب في منطقة الخديعة من قلوب الأمهات والأباء

حملان وجراء وأشبال وأفراخ وبراعم وأطفال. أولئك هم الأصدقاء السائرون معاً في وكبةٍ من مواكب الحياة. . .

13 - الدوام

هل رأيت الدنيا تخلو يوماً من أشيائها؟ أبداً ترى عصافير متحدة في الشكل والصوت تطفر على الأشجار والأعالي. . .

وأبداً وترى هذه الدار مأهولة بالشمس والقمر والنجوم. . . نجوم السماء ونجوم الأرض. . .

الأرض دائماً تقرع بالأقدام، والصبح دائماً معه صوت الطير. . .

أبداً فيك يا دنيا شباب متوجون بالطرة السوداء والغرة المشرقة، والشفاه الباسمة. . .

أبداً يلعب الأطفال في أمكنة اللعب ويتصايحون عرابيد مهاراً في الملاعب. . .

أزور دائماً أمكنة طفولتي فأجدها عامرة بالأطفال الذين احتلوا مكاني أنا ورفاق صباي. . .

أتراني أرى دوام هذا الكون العظيم. . . هذا الضياء الغامر الفياض، هذا الليل الرائع الجبار. . . هذه الرياح العاتية الجارفة الزخارة. . . هذا العباب الهدار الرجاف الرجراج. . . هذه الصحراء الطامسة الفاغرة. . . هذه الجبال الراسية الشامخة. . . هذه السماء الرحبة البعيدة المدى. . . ثم أرى ذاتي إزاء هذه العوالم ضئيلاً ضعيفاً فانياً ثم لا أصرخ في وجهها صرخة تدوي بها هبوات الرياح، وتتلقفها الجبال، وتذهب أصداؤها في الأعماق والأغوار. . . صرخة تتمثل فيها كل معاني إحساسي بفنائي وضعفي وضياعي بينها من غير سند ولا عاصم أعتز به وأطول وأصول؟!

لماذا تبقين وأنا أذهب؟ وتتجددين وأنا أبلى؟ وتبصرين هذا الجمال الدائم وأنا أعمى وأطمس؟ وتسمعين أصوات هذه الحياة العجيبة وضجتها وأنا أصم؟

لماذا تتوجين دائماً بلآلئ الصباح وذهب الضحى ورصائع النجوم، وتتجملين بأصباغ فاتنة من وهج الظهيرة وطفل الأصيل وشفق المساء، وتتعطرين بأنفاس الأزهار. . . وأنا أجرد من حلي وغرتي وطرتي، وتنصل أصباغي، وتتفكك أعضائي، وتحبس روحي عن هذا الوجود. . . حتى أنتهي إلى أن أنظر الكون من محجري جمجمة يسكنها الفراغ والظلام، وتسكن هي في أعماق حفرة ضيقة تضحك لظلامها بفكين مجرودين مقبوحين حتى تمسها يد البلى فتتركها رفاتاً سحيقاً بعد أن تمل الظلام ويملها؟!

لماذا تمنحين ما أحرم وأنت عديمة القلوب والعيون، وأنا ذو القلب الراقص دائماً على خفق الأدواح وصفق الرياح، الجائع دائماً إلى الأحاسيس والمعاني المعلنة والباطنة، وذو العين الرائدة الباحثة عن الحركات والألوان وسمات الوجوه وأشكال الأجسام! لماذا يا عدالة السماوات والأرض؟ أفي الحق ذلك؟

كلا! فليست العدالة هي التي قسمت هذا وقالت به. . . وإنما هي العقول السطحية اليائسة القاصرة قالت به. . .

ولكن عدالة الأكوان ومنطق القلوب - أوعية الحياة - هما يقولان ببقاء هذه النفس لهذا الكون ونقلها إلى جمال أكمل وأسمى وأدوم، وعالم من القدرة والتسلط أكثر هولاً وفناً وأعظم، وعالم من الانطلاق والتحرر أرحب وأنعم!

والموت الموعد!

14 - تهافت الغايات إلا غاية واحدة

وإني لأهتف حين تهب على قلبي نسمات خفية تثير فيه حساسيته بالدوام والخلود واللانهائية. . . ثم أرى أمامي كل غايات الحياة الأرضية متهافتةً أمام العقل لا تقنع عشاق الخلود والآملين فيه:

هل لي يا سيد الوجود شيء في ملكوتك الجميل الخالد يبقى وأحوزه لنفسي بعد فنائي ورحيلي من هنا؟

أم أنا ذاهب من كل هذا الجمال ومعاني الآمال كتبنةٍ ذهبت مع الريح، أو ورقة أحرقت في موقد، أو حشرة عمياء صغيرة سحقت تحت قدم. . .؟

وهل يكون نصيبي من ملكوتك هذا الرحب الواسع الغني بمعاني الحياة مكاناً مبهماً في جوف الظلمات وأطواء العدم وسكون الجمود، حيث لا إحساس بهذه الحياة ولا بما وراءها. . . وحيث لا أمكنة لأشياء إذ لا أشياء إلا تلك الصورة المطموسة التي ينقلها الخيال الإنساني من عالمها هنا إلى هناك، حين عجز أن يتخيل الفراغ والعماء؟!

إنني يا سيدي لا أصدق، لأن ضميري قطعة من ضمير الوجود كله. . .!

وكيف أصدق أن ما في عيني من الصور، وما في سمعي من النغم، وما في قلبي من أحاسيس، وما في فكري من قضايا الكون والفساد وأحلام الكمال، تذهب هكذا كأن لم تكن!

إنهم أطفال أولئك الذي يقصر خيالهم عن إدراك المدى الحيوي الباقي للإنسان وراء هذه الحياة الدنيا، كما يقصر خيال الطفولة عن إدراك عالم الرجولة وبلوغ الأشد في دنيا الأجسام. . .

فكل غايات الحياة الأرضية متهافتة فانية أمام العقل، لا عمر لها إلا خطفات زمنية، ولا وزن لها تجاه الأبد الكبير. . . والهادفون إليها فانون، إلا إذا دارت حول غاية واحدة: هي الله والبقاء معه. . .

عبد المنعم خلاف