مجلة الرسالة/العدد 455/ ابن خرداذبه

مجلة الرسالة/العدد 455/ ابن خرداذبه

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 03 - 1942


2 - ابن خرداذبه

للأستاذ كوركيس عواد

يؤخذ مما ورد في بعض المراجع - أن ابن خرداذبه هذا - كان وزيراً، فقد ذكر البشاري المقدسي في عرض كلامه على (سد ذي القرنين) ما هذا نصه:

(قرأت في كتاب ابن خرداذبه وغيره في قصة هذا السد على نسق واحد، والفظ والإسناد لابن خرداذبه، لأنه كان وزير الخليفة، وأقدر على ودائع علوم خزانة أمير المؤمنين. . .)

ويؤسفنا أنه لم يشر إلى اسم ذلك الخليفة الذي وزر له، والمرجح عندنا أنه كان (المعتمد)

وقد بحثنا فيما بين أيدينا من تواريخ الدولة العباسية، والمصنفات الباحثة في أخبار الوزراء خاصة؛ فلم نجد بين هاتيك المدونات من ذكر أن ابن خرداذبه كان وزيراً لخليفة من الخلفاء. والذي نذهب إليه أنه كان وزيراً بالاسم فقط، وهذا أمر معروف عند متتبعي أحوال الإدارة في تلك الأزمنة التي كثرت فيها الوظائف، واصطنعت فيها الألقاب!

ومهما يكن من أمر، ففي العبارة التي نقلناها عن البشاري، خير دليل على عظم منزلة ابن خرداذبه عند الخليفة، وعلى اعتماد ذاك الخليفة عليه في أمور خزانته الحافلة

وقد ذكر ابن خرداذبه نفسه بنفسه، في أوائل كتابه (المسالك والممالك)، ولمح إلي مكانه من الخليفة بقوله:

(هذا كتاب فيه صفة الأرض، وبنية الخلق عليها، وقبلة أهل كل بلد والممالك والمسالك إلى نواحي الأرض، تأليف أبي القاسم عبيد الله بن عبد الله بن خرداذبه، مولي أمير المؤمنين)

والظاهر أن (أمير المؤمنين) هذا، قد كان المعتمد أيضاً، على ما عرف من صلة وثيقة بينه وبين هذا الخليفة

ولعبيد الله ابن خرداذبه أخبار تفرقت في شعر بعض معاصريه فيها ما يسير إلى أصله (الفارسي)، وما يشيد بذكر عائلته العريقة في المجد، وما يدل على سمو منزلته في الدولة

روى أبو بكر الصولي في كلامه على الشاعر أبي الطيب محمد ابن عبد الله بن أحمد بن يوسف أنه قال: (وكتبت إلى ابن خرداذبه، وقد دام المطر (بسر من رأى) وتأخرت عنه:

لعمري لئن سرّ الحيا في مواطن ... لقد ساَءني أن عاقني عن لقائكا

وقد كنتُ مشغوفاً بذاك أريده ... فحالَ قضاءُ الله من دون ذلك فَصِفْ لي فَدَتْك النفس أمراً يسرني ... وأحمد فيه الله من حسن حالكا

وحال أَحينا أَحَسنَ الله صنعه ... وحال فَتاك منعماً في كتابكا

فهذا الشاعر، على ما يبدو من الأبيات المتقدمة، قد كان صديقاً حميما لابن خرداذبه. ونظيره في هذه الصداقة كان البحتري الشاعر المشهور المتوفى سنة 284 هـ؛ فقد وقفنا في ديوان شعره على قطع له فيه. من ذلك ما قاله في عبدون بن مخلد وقد كتب بها إلى ابن خرداذبه:

أبلغْ لديكُ عبيد الله مألكة ... وما بدَارِ عُبيْدِ الله من بُعدِ

أضحتْ بقطر بّل والدَّيْرُ حَلَّتُه ... ومَا يُجَاوِرُ بيتَ النارِ ذا العُمُدِ

لم تدر ما بي وما قد كان بَعدَك من ... نفاستي لك في عبدون أو حسدي

أغَرُّ، أَحسَبُ نُعْمَاهُ الجليلةَ من ... ذخائري لِصرُوفِ الدهرِ أو عُدَدِي

إذا مضى اليوم لا نلقاه فيه مضى ... سرورنا وترَّقبنا مجىء غدِ

إن فات في السبت أن نزدار سيدنا ... فلا تَفُتْنا لشيءٍ زَوْرَةَ الأحد

وفي القطعة التالية، يوجه البحتري الكلام إلى ابن خرداذبه بعد أن خلع عليهما عبدون بن مخلد. وفي هذه إشارة صريحة إلى ما كان من صلة بين عبدون وابن خرداذبه. قال البحتري:

يا أبا القاسم استَجَدَّ لنا عبدو ... نُ حالاً تمامُها في ضمانِهْ

جمعتنا مَوَدَّة واجتمعنا ... بعدُ في برّه وفي إحسانهْ

قد لبسْنَا ثيابَهُ وتَسايَرْ ... نا بتقريظه على حُمْلانه

وأجزل فائدة من ذلك، ما قاله البحتري في مدح عبيد الله ابن خرداذبه، وذكر صداقته، وتهنئته بخروجه من علة كان فيها ودونك ذلك:

إن ترْجُ طوْلَ عبيْدِ الله لا تخبِ ... أو ترْم في غرضٍ من سيبه تُصب

لم تلقَ مثلَ مَساعيه التي اتصلتْ ... وما تقيَّلَ منها عن أَبٍ فأًبِ

رأْيٌ صليبٌ على الأيَّام يُتْبعُهُ ... ظرفٌ متى يَعترض في عيشِنا يطِب

ذاكَ أَخٌ أَفتديهِ إنْ يُحِسَّ أَذىً ... بالنفسِ مما توقَّاهُ وبالنَّشبِ

(إذ كان من فارسٍ في بيت سؤددها ... وكنت من طيئٍ في البيت والحسب فَلم يَضِرْنا تَنائي المنصبين وقد ... رُحنا نسِيبَيْن في خلُقٍ وفي أًدًبِ

إذا تشاكلتِ الأخلاقُ واقتربتْ ... دنتْ مسافةُ بين العُجم والعربِ)

اسلم ولا زلتَ في سترٍ من النُّوَبِ ... وعِشْ حميداً على الأيام والحُقُبِ

ولْيهْنِكَ البُرْءُ مما كنتَ تَألمُهُ ... والأجرُ في عقْبِ ذاك الشكوِ والوَصبِ

أَوْحشتَ، مذْ غبتَ قوماً كنتَ أُنسَهمُ ... إذا شَهِدْتهمُ فاشهَدْ ولا تغِبِ

إلاّ تكنْ مَلِكاً تُثْنَى تحيَّتهُ ... فإنَّك ابنُ مُلوكٍ سادةٍ نُجُبِ

وإن قصدْتَ ابتغاَء البُرْءِ من سَقمٍ ... فقد أَرقتَ دَماً يَشْفي من الكلَبِ

وغني عن القول أن ابن خرداذبه، وهو الفارسي الأصل، كان يعرف اللغة الفارسية، ولا ندري ما إذا كانت له كتابات أو تآليف بهذه اللغة. وإنما وجدناه في كتابه المسالك والممالك يستشهد في موطنين بشعر فارسي

أما سنة وفاته، فلسنا على ثابت منها. وقد وجدنا الحاج خليفة يقول إن ابن خرداذبة توفى في حدود سنة 300 للهجرة، ولعل هذا صحيح، غير أننا لم نقف في كتاب قديم على ما يدعم هذا القول

وقد قلنا إن ابن خرداذبة نادم المعتمد وخُصَّ به. ومعروف أن المعتمد ولد سنة 229، وبويع له بالخلافة سنة 256، وتوفي سنة 279هـ، فيكون ابن خرداذبة قد بلغ أوج عزه خلال هذه الفترة المنحصرة بين 256و279 للهجرة.

وذكرنا ما كان من صداقة بينه وبين البحتري المتوفى سنة 284هـ. إلا أن المراجع التي بأيدينا لا تعيننا على معرفة ما إذا كان ابن خرداذبة قد توفي قبل البحتري أو بعده.

وما قلناه في عبيد الله، نقوله في سائر بني خرداذبة، فإننا نجهل سني وفياتهم، فضلاً عن أن علمنا بسائر أخبارهم وشؤونهم ما زال مقتضباً يسيراً. وحسبك أن تعلم أن الترجمة الوحيدة لعبيد الله ابن خرداذبة، هي التي كتبها ابن النديم في فهرسته، وهي أقل من خمسة أسطر!

5 - مؤلفات ابن خرداذبة

سبقت الإشارة إلى بعض تصانيف ابن خرداذبة، التي خلدت اسمه على كر العصور. وهذه المؤلفات قد تزيد على العشرة، ذكر ابن النديم ثمانية منها، ضاع أغلبها فيما ضاع من تراث الأقدمين. وإليك الآن أسماءها وما نعلمه من أمرها:

1 - كتاب أدب السماع.

2 - كتاب جمهرة أنساب الفرس والنوافل.

3 - كتاب المسالك والممالك: ضمنه إحصاء جباية المملكة العباسية في أواسط المائة الثالثة للهجرة. وهو من خيرة المراجع القديمة في معرفة الطرق والمسالك، وتعيين المسافة بالفراسخ أو بالأميال بين مكان ومكان، على ما كان معروفاً عند القوم في ذلك الزمان. ولا مراء، إن ابن خرداذبة كان الرجل الثقة في مثل هذه البيانات، لأنه تولى أعمال البريد. ومن المعلوم أنه (لا غنىً بصاحب هذا الديوان أن يكون معه منه ما لا يحتاج في الرجوع فيه إلى غيره، وما إن سأله عنه الخليفة وقت الحاجة إلى شخوصه وإنفاذ جيش يهمه أمره، وغير ذلك مما تدعو الضرورة إلى علم الطرق بسببه، وجد عتيداً عنده ومضبوطاً قبله، ولم يحتج إلى تكلف عمله والمسألة عنه)

ويبدو لنا واضحاً أن ابن خرداذبة لم يؤلف هذا الكتاب إلا بطلب من شخص كبير لم يصرح باسمه ولعله أحد الأمراء. قال في أول كتابه، وفيه ما يوضح غرضه من هذا السفر ما إليك نصه بالحرف الواحد:

(أطال الله تعالى بقاءك يا ابن السادة الأخيار والأئمة الأبرار منار الدين وخيرة الله من الخلق أجمعين، وأدام الله لك السعادة، وكثر لك الزيادة من جميع الخيرات، ووفقك لسبيل الصالحات، وجعلك ممن ارتضى أفعاله وزين أحواله. فهمت الذي سألت، أفهمك الله جميع الخيرات وأسعدك إلى الممات، وأفلح في الدارين سهمك، ووفر فيهما قسمك، من رسم إيضاح مسالك الأرض وممالكها، وصفتها وبعدها وقربها وعامرها وغامرها، والمسير بين ذلك منها من مفاوزها وأقاصيها ورسوم طرقها وطقوسها على ما رسمه المتقدمون منها. فوجدت (بطليموس) قد أبان الحدود وأوضح الحجة في صفتها بلغة أعجمية، فنقلها عن لغته باللغة الصحيحة لتقف عليها، وقد رسمت، رسم لك فوز الحق في جميع مأمولك ومطالبك، ما رجوت أن يكون محيطاً بمطلوبك وآتياً على إرادتك كالمشاهد لما نأى والخبر بما قرب، وصنعته كتاباً افتتحته بالحمد لله ذي العزة المنيعة والنعمة السابغة، الذي أنشأ الخلق على ما أراد، وبين سبيل الحق للعباد، لم تشركه في خلقه الآراء المتوهمة ولا ظنون الرؤيات، تعالى الله عما يشركون، وصلى الله على محمد نبيه، وعلى الأخيار من عترته وسلم كثيراً) أهـ

والمعروف في وقتنا أن لهذا الكتاب ثلاث نسخ خطية، اثنين منهما في خزانة أكسفرد وفيهما خروم

وكان المستشرق باربيه دي مينار أول من نشر هذا الكتاب ونقله إلى الفرنسية (المجلة الآسيوية الفرنسية، السلسلة 6، المجلد 5، سنة 1865، ص 227 وما بعدها ثم عني بتجديد طبعه العلامة دي غويه فنشره مترجماً إلى الفرنسية أيضاً (الخزانة الجغرافية العربية، ج 6، ليدن 1889 في 183 صفحة للمتن، و144 للترجمة. ويليه في المجلد نفسه نبذ من (كتاب الخراج وصنعة الكتابة) لقدامة بن جعفر الكاتب البغدادي، المتوفي سنة 310 أو 320هـ، صفحة 184 - 266) وجديرة بالعناية تلك التحقيقات الثمينة والتعليقات الدقيقة والفهارس المتقنة التي تحلى بها هذا الكتاب. وقد اشتملت المقدمة التي كتبها الناشر دي غويه بالفرنسية على فوائد جزيلة، جاءت في 23 صفحة. وصفوة القول أن هذه الطبعة نفيسة، فيها ما يحمل القارئ على الاطمئنان إلى سلامتها من الشوائب

وقد نشر دي غويه أيضاً، قطعة من هذا الكتاب في مجموع بلداني له، كما نشر بلاشر قطعاً أخرى منه في مجموع بلداني له

ومن الدراسات الثمينة التي حظي بها هذا السفر، ما كتبه الرحالة المستشرق موزيل في كتابه (الفرات الأوسط) فقد عمد إلى المسافات والأبعاد التي ذكرها ابن خرداذبه في الطريق من بغداد إلى الرقة، وانتقد ما اعتورها من أوهام. وجدير بمن يطالع المسالك والممالك أن رجع إلى ما كتبه موزيل في هذا الشأن لتتم به الفائدة.

(يتبع - بغداد)

كوركيس عواد