مجلة الرسالة/العدد 456/الأدب والعلم

مجلة الرسالة/العدد 456/الأدب والعلم

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 03 - 1942



للأستاذ محمد محمد المدني

كتب إليّ صديق من زملائي على عهد الدراسة كتاباً يقول فيه: -

(إني مواظب على قراءة الرسالة بشغف واهتمام، ولست تكتب على صفحاتها مقالاً إلا قرأته لك، وتنسمت فيه روحك، وثارت به في نفسي ذكريات محببة عن أيامنا الجميلة التي كنا نختلف فيها إلى دروس الأدب والبلاغة يلقيها المرصفيُّ وعيَّارة والبطراوي والإسكندري وغيرهم، ونتجاذب فيها أطراف المحاورة، وأهداب المذاكرة، ونتساقى كئوس الشعر والنثر كأنها رحيق مختوم. وقد أذكر زميلنا الذي كان مولعاً - في كتاباته الإنشائية - برواية أشعار المتنسكين والمتزهدين، وأننا كنا نغرب في الضحك إذا سمعنا أستاذ الإنشاءَ يقرأ طرفاً مما كتب، ويحاسبه على أفكاره العتيقة. وما لهذا كتبت إليك، ولكني أريد أن أتحدث إليك في أمر كثيراً ما هممت بأن أحدثك فيه:

أنت تعرف رأيي في أسلوبك الكتابي وبحوثك العلمية، وتعرف حبي لك وشديد غيرتي عليك، فهل لي أن أسألك: لماذا تنحو في اختيار موضوعاتك هذه النواحي الأزهرية فتتحدث عن الفقه وأصول التشريع ودراسات الأزهر وأسلوبه في التفكير وما ينبغي له من علو ورفعة شأن، ولا نراك تتحدث عن الأدب والشعر وهما في هذا العصر أنشودة الشُّداة، وأغرودة الحداة، وثقافة المثقفين؟ لو كنت أعلم أنك تخرجت في علوم الشريعة لقلت: رجل مشغوف بما درس، معنيٌ بإشباع نهمه العلمي منه، ولكنك تخرجت في دراستك تخرج الأديب، ونلت شهادة التخصص في علوم البلاغة والأدب، فكيف تجحد حقهما عليك وتنسى فضلهما في تهذيبك وتثقيفك؟ وهل تتحبب إلى الأدب طالباً، وتتنكر له أستاذاً، فتقطع به صلتك، وتزوي عنه وجهك وتنصرف إلى غيره مما ليس منه ولا يمتُّ إليه؟

ما هذا الذي أُغرمت به، وملك عليك نفسك، واستبد بقلمك؟ وأيُّ فرق بينك وبين الزميل المتنسك الذي ألحدْتُ إليه صدر هذا الكتاب؟ ولم إذن كنت تسخر منه، وتُغرب في الضحك عليه؟

لا يا صديقي، ما لهذا يريدك أصدقاؤك، وما لهذا أردت نفسك، وما لهذا أعدتك (شعبة البلاغة والأدب) في تخصص الأزهر. لا تكفر بالأدب ولا تنأ بجانبك عنه، واستغفر لذنبك ودع الفقه والجدال فيه، ودع الأزهر والحديث عنه، والتحرق له والبكاء عليه، فما ذلك بمغن عنك فتيلاً. وسوف يبقى الفقه كما هو، وسوف يبقى الأزهر كما هو، وسوف تضيع صيحاتك وصيحات غيرك في شأنهما هباء كما ضاعت من قبلُ صيحات وصيحات! عد إلى أحضان الأدب يا صديقي وأسمعنا شدوك عند رياضه وغياضه، وطر إلى آفاقه، وحلّق بخيالك في سمائه، فربما غنيت على قيثارته ألحاناً يرويها عنك الزمان. . .)

هذا كتاب صديقي إليّ، أثبته كما هو لأنه وإن كان كتاباً خاصاً يتحدث عن شأن له ناحية من العموم، ويمثل رأياً ينزع إليه جمهرة من شباب المتأدبين في هذا العصر فهم به مولعون

ولست أرى أني أغاضب الأدب وأجافيه - كما يتصور هذا الصديق - حين أكتب في موضوعات علمية، أو حين أعالج مشكلة من المشكلات الخاصة أو العامة، فإن الأدب ليس محصوراً في دائرة العاطفة والخيال وما يتصل بهما، ولكنه أوسع من ذلك دائرة وأبعد أثراً. وقد أتي على الناس حين من الدهر وهم يظنون الأدب حلية تراد للزينة وتستكمل بها مظاهر الترف، فكانت قصور الملوك والأمراء وذوي اليسار كما تضم الندمان والسقاة والجواري والغلمان، تضم الشعراء والكتاب والقصاص والرواة، قصاراهم أن يكونوا أداة لهو وتسلية تَشرح بهم الصدور وتُنسى الهموم. فلما ترفع الأدباء والشعراء عن تلك المنزلة قصدوا إلى الأدب والشعر بالتكريم فصانوهما عن التبذل في خدمة الأمراء والثراة إلا قليلاً، فأصبح الشاعر يقول ليرضي ذوقه الأدبي، وأصبح الكاتب يكتب ليصف شعوره هو قبل أن يصف شعور الآخرين؛ وبذلك استقل الأدب، ونال الأدباء والشعراء حريتهم، وانطقوا يهيمون في جوهم الصافي، وينعمون بأحلامهم اللذيذة؛ لا يحبون أن يكدرها عليهم مكدر، ولا أن يفسدها عليهم مفسد؛ ولكنهم كانوا من ذلك في شبه غيبوبة عن الحياة العملية المثمرة، لا ينفذون إلى صميمها، ولا يُعنَوْن إلا بحواشيها وأطرافها، ورضوا بالفقر حليفاً، وبالبؤس صاحباً؛ وخيلوا للناس أن الأدب والفقر صنوان، ورضيعا لبان! وأن الأدباء والشعراء هم وراث (أبي الشمقمق) في كل زمان!

أما في هذا العصر، فقد تغيرت المثُل، واستبدل الأدباء بنهجهم في الحياة نهجاً سواه: أصبح الأديب هو الذي ينفذ بقلمه وذوقه إلى دقائق العلوم، ومعضلات الفِكَر والآراء. هو الذي يجلو الغوامض، ويفتح المغاليق، وييسر المعاسير. ذلك اليومَ هو صميم الأدب، وقصارى الأديب، وذلك هو الوضع الصحيح الذي ينبغي أن تقوم عليه العلاقة بين الأدب والعلم!

من ظن أن الأدب في هذا الزمان إنما هو أنشودة تنشد، أو أغرودة تغرد، أو خيال يسبح في جوه الهائمون، أو وصف لزهرة مشرقة، أو طائر صداح، أو عاشق ولهان، أو قلب خفاق، أو عين باكية، أو ثغر بسام، أو جمال فتان، أو قد ممشوق، فقد ظن عجزاً!

إن ذلك من الأدب حقاً، ولا يستطيع أن ينكر ذلك منكر، ولكنه اليوم ليس المثل الأعلى للأدباء، وإنما هو لون من ألوان غذائهم الروحي يتشَهَّوْنه الفينةَ بعد الفينة، وهو بعد ذلك أقرب ثمرات الأدب إلى يد الأديب وأيسرها منالاً. أما العلوم والمعارف؛ أما مشكلات الحياة وقضايا العقول؛ أما سهر الليالي ومجافاة الجنوب للمضاجع في سبيل التحصيل والتزود من زاد البصائر، فتلك هي الحَلْبة لمن أراد السباق!!

أعيذك بالله - يا صديقي - أن تستخف بأمر الفقه والأصول وأسرار التشريع، أو يثقل عليك القول في إصلاح الأزهر وتقويم ميله، أو يداخلك اليأس حين ترى الداء مستشرياً والطبيب حائراً

إن الشرق الإسلامي قد استفاق من سباته العميق، وإنه يريد أن ينهض وأن يستعيد مجده السالف يوم كان مصدر النور والمعرفة، بل يوم كان مصدر الهداية ومنبت الخير، ولو تأملنا بوادر هذه النهضة وتأملنا إلى جوانبها بوادر الانهيار، بل عوامل الدمار التي تعمل عملها السريع في إهلاك أعداء الشرق وخصوم الإسلام لكان لنا أن نؤمل دورة الفلك، وأن نأخذ في تكميل أنفسنا، وتصحيح أخطائنا، والرجوع إلى قوميتنا استعداداً لما ينتظرنا. وهذه الشريعة الإسلامية هي الشريعة التي نلنا بفضلها أسباب السماء في الماضي، ولم يجد أعداؤنا منفذاً إلينا ونحن متمسكون بها؛ وفقه هذه الشريعة هو فقه الحياة والعمل، هو فقه العدل والرحمة، هو فقه الحضارة والمدنية في أبهى صور الحضارة والمدنية؛ فإذا تكلم في شأنه المتكلمون، ودعا له الكتاب، وعرض الأدباء العاملون بعض صوره على الناس، وخلصوه مما أضيف إليه واختلط به، كل بمقدار ما يستطيع، فإنهم لا يقومون في ذلك بواجب ديني فحسب، وإنما يقومون مع ذلك بواجب قومي وطني لا مناص لأهل العلم والأدب جميعاً من التعاون على حمل أعبائه. ومثل ذلك يقال عن الأزهر: ينبغي أن يلتفت إليه أدباؤنا، وأن يكتب في شأنه كتابنا، لأنه (جامعة الشرق)، ووارث ثقافته، وعنوان مجده، ومعقد آماله!

إنك - يا صديقي - تقول لي في كتابك: (سوف تضيع صيحاتك وصيحات غيرك في شأنهما هباءً كما ضاعت من قبل صيحات وصيحات). وأحب أن أقول لك إنه لم يضع شيء أبداً، وإن الذين صاحوا من قبل قد أثروا بصيحاتهم آثاراً بعيدة المدى في العلم والتفكير والإصلاح. ويمكنك أن ترجع إلى عهد الأستاذ الإمام محمد عبده، لتوازن بين عقلية الأزهر الماضية وعقليته الحاضرة في العقائد والفقه وأحكام المعاملات والأحوال الشخصية، فتلمس الفرق بينهما، وتدرك أن صيحات هذا المصلح الديني لم تذهب هباء

ولقد كان الأستاذ الإمام محمد عبده أديباً رائع البيان، وكان له ذوق ممتاز في فهم الشعر والنثر ظهر أثره في تفسيره لما فسر من القرآن، فهل منعه ذلك أن يؤلف في علم الكلام، وأن يفتي في الفقه، وأن يشرع شَبَاة قلمه لتأييد دعوته الإصلاحية الكبرى؟

بل لقد كان الإمام الشافعي رضي الله عنه أديباً عاش في البادية ونزل في هذيل، يقيم معها ما أقامت، ويرحل معها إذا رحلت، ويتعلم كلامها، ويحذق لغتها، ويروي أشعارها، حتى بلغ من ذلك شأواً بعيداً، ولكنه لم يجعل هذا غرضاً، وإنما اتخذه وسيلة إلى علم أكبر، وفضل أظهر، ووقرت في نفسه كلمة الزبيدي الذي لقيه في طريقه، فتحدث إليه فوجده فصيح اللسان، عبقري الذكاء، فقال له: أيها الفتى! يعز عليّ ألا يكون مع هذه الفصاحة وهذا الذكاء فقه تسود به أهل زمانك! وقد أراد الله ذلك، فإذا الشافعي رجل من الرجال العالميين، وإذا اسمه مسجل في سجل الخالدين!

أما بعد، فيا صديقي العزيز: لا تَلْحَني ولكن أَعِنيَّ

محمد محمد المدني

المدرس بكلية الشريعة