مجلة الرسالة/العدد 456/القصص

مجلة الرسالة/العدد 456/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 03 - 1942



من قصص الرأي

عبادة. . .

للأستاذ محمد عنان

كل شيء كان يتعذب. . . الطيور في ظل الأغصان فاغرة أفواهها تلهث، والبهائم في مرابطها تتألم في استكانة وصمت، والزبد يتناثر من أشداقها في لهثات مطردة متقطعة، وأوراق الأشجار متراخية في ركود وإعياء، والحقل متمدد تحت لهب يوليو العنيف يتلوى ويرسل من جوفه أبخرة حارة تشارك السماء في لعنتها على قطيع القرويين الهزيل الجائع الذي كان يروي هذه الأرض بعصير حياته

كانت أبالسة الجحيم تملأ الحقل، والشمس في كبد السماء تصلي الأرض بكل ما فيها من قوة وما في عناصرها من آلام، والهواء يهب ساخناً كاوياً يشوي الحياة ويخنقها، ويدفع العرق غزيراً على الوجوه القروية الكالحة العابسة، والأبدان الفاترة الضامرة، ويطفئ من جذوة نشاط الحركة التي كانت تنتج ما كلفوا القيام به من عمل. وكانوا يجاهدون ويغالبون في صبر وجلد كحيوانات أضناها الجوع تحبو على بطونها إلى طعام بعيد

تحدثوا حتى فرغ كل ما في جعبتهم من حديث. . . اخترعوا حتى نضب خيالهم الجاف. وارتفعت عقيرة إحدى الفتيات بالغناء. . . ردده البعض وآثر الآخرون الوجوم. واشتد ضغط الحياة فتبدد الصوت. . . وانتشر على البوتقة الرهيبة صمت مروع كان فيه احتكاك العمال بالشجيرات هو الصوت الوحيد لعجلة العمل الغشوم وهي تدور في أبشع صورها وتحول في همجية وقسوة خبزاً جافاً إلى ذهب

واخترق الصمت الحزين صوت رفيع يصيح ولا نبرات له. ماء. . . ماء. . . إن حلقي يلتهب. وجاءت إحدى العاملات بالماء من أقرب المصارف آسنا ساخناً، فتجرعوه في نهم وعادوا يعملون كآلات في جمود ورباطة جأش

السماء والأرض، والهواء والماء، والطبيعة والإنسان، كل هذه الأشياء القوية الكبيرة تتآمر على هذا القطيع الهزيل المريض. إنها البربرية وسط هالة من نور! قالت هذا فتاة في العشرين، لها لون القمح قبيل الحصاد، ورقة زهر القطن في الصباح الباكر، ورشاقة عود الذرة الناضج، وعذوبة ظل التوت في اليوم القائظ. . . ترتدي ملابس الركوب وتمتطي خيرة خيول القرية، وعلى رأسها قبعة واسعة تخفي قليلاً تاجاً ثميناً من الشعر الفاحم. تتأمل في إشفاق زمرة من الشباب والنساء والأطفال ينقون لطع دودة القطن في ركن قريب من أركان الحقل المترامي

كان يبدو عليها أنها ترى الحقل لأول مرة، لأنها ذعرت وهمت أن تناديهم بأن يكفوا عند ما سمعت بكاء خافتاً مجهداً لرضيع بالقرب منها في ظل مظلة من العشب كان في قفص من سعف النخيل مفروش بالقش يحرك يديه وساقيه في عصبية ويبكي.

اندفعت من فوق جوادها في جزع وقفزت في لهفة القناة التي كانت تفصلها عنه تدفعها في ثورة وجموح أسمى عواطف البشر

كان إنساناً ضئيلاً، باهتاً ضامراً، محتقناً في لون الأرض، تفوح من ملابسه الممزقة القذرة رائحة كريهة عفنة، وتغطي الأوساخ وجهه وشعره وأطرافه. وكان يبدو أنه بكى كثيراً حتى أنهكه البكاء

انحنت على الفراش في حنو بالغ كأم وحملته بين ساعديها ونفسها تذوب رفقاً وشفقة

همت بالغريزة أن تعطيه ثديها ولكنها تذكرت فانحنت عليه وقبلته.

ورأتها الأم فأسرعت خوفاً من أن يكون في وجوده ما يؤذي. وحارت الدموع في عينيها وهي تعدو توجساً من وقوع هم جديد. ولكن نظرة الفتاة الوديعة، ونومة الطفل الهادئة بين أحضانها رفعت قليلاً كابوس الشر الجاثم على صدرها

فاقتربت متهملة وقالت وهي تنحني مادة ذراعاً تأخذ بها الطفل والأخرى على ثديها محاولة في جهد أن تبتسم:

- العفو يا سيدتي! لسنا في هذا المقام

وتنبهت الفتاة إلى الأم وما هي عليه من إعياء فقاطعتها وهي تحتضنه وتبعده عكس اتجاهها:

- لا. لا. . . دعيه لي الآن. . . اجلسي. استريحي. لا ترضعيه. اتركيه لي. . . إن لبنك الآن في تسمم فقاطعتها القروية في سذاجة وشفتاها الجافتان تنفرجان عن شبح ابتسامة تائهة:

- إنها طفلة. و. . . صمتت عند ما رأت صورة الهلع التي ارتسمت على وجه الفتاة وهي تعاود بسرعة النظر إلى الوجه الصغير الغارق في الأقذار والدموع

- آه. طفلة!. . . ما أقسى هذا؟ أهكذا تربي الأمهات؟ واستطردت هامسة وهي تمسح على جبين الطفلة بمنديلها الصغير وتزداد بها تعلقاً والتصاقاً:

لماذا أحضرتِها في هذا المكان؟ إنه يقتل فيها الإحساس بالعطف الأموي. إنه يصرع أنوثتها ويحولها إلى خانقة أطفال. ثم رفعت رأسها وسألتها في إشفاق وتأنيب:

- لماذا لم تتركيها في المنزل وتظلي في رعايتها؟

فأجابت القروية المشدوهة:

- كيف! والخبز يا سيدتي؟

- وزوجك؟ أليس لك زوج؟

- ولكن أجره لا يكفينا

فقالت الفتاة في حيرة:

- لكن. . .! يجب أن تفعلي شيئاً. . . أي شيء. . . ليكن مثلاً. . . كم يبلغ إيرادك؟

فخفضت المرأة رأسها في حزن. . . أحست بمزيج عجيب من السرور والألم يضطرب في قلبها القاتم، فقد كانت هذه هي المرة الأولى التي تسمع فيها حديثاً يتعلق بحياتها إذا كان لها حياة بالمعنى المفهوم. . . واستيقظت أفكارها الراقدة المظلمة الراسبة في قرارها الحزين. . . وأخذت تصف للفتاة آلامها في نبرة خافتة محرومة من كل صفات الأنوثة والحيوية

أخبرتها أن القرية فئتان: عمال. . . وملاك. وأنها من الفئة الأولى التي تحيا تحت أقدام الأبقار وأطفالها يموتون جوعاً، وأن أجر زوجها يتراوح بين القرشين والثلاثة يومياً، وأنه يعمل ثلثي العام فقط ويقضي الباقي متعطلاً، وأن لها عدا الرضيعة طفلة في الخامسة ذهب الصديد ببصرها، وطفلاً في السابعة مريضاً لا يكف عنه المرض؛ استعرض في عمره الصغير آلام عدة أمراض لا يزال يعاني الآن بعضها؛ ومات لها عدا ذلك ثلاثة أطفال. ولد الأول ميتاً، وقضى الآخران في سن الرضاع. . . وقصت عليها بعض ما تعانيه في سبيل التوفيق بين مطالب هذه الأسرة الكبيرة القابلة للتضخم وبين الأجر الذي تناله مقابل المجهود المزدوج. . . هذا عدا ما يصيبها من ألوان القسوة وضروب المعاملة السيئة من زوجها. إنها تدرك السبب. وتعرف أنه يثأر لشقائه منها. كما تفرج هي عن نفسها أحياناً بالدموع وأخرى بضرب أولادها. إن حياتها سلسلة طويلة ثقيلة شقية متشابهة الحلقات؛ وإن الرضيعة في قفصها المنكود أسعد حالاً منها؛ فأمامها وقت تستطيع أن تموت فيه طفلة. ثم غلبها التأثر فقالت والدموع تنهمر من مآقيها:

- ما أشد قسوة العيش يا سيدتي! على الأقل بالنسبة إلينا نحن الأمهات العاملات

أنصتت الفتاة إليها في ذهول وصمت. وعندما فاضت عينا القروية بالدموع أحست بجرح ساخن عميق يصيب كرامتها كامرأة. . . وكالنائمة. . . - وأوضاع الحياة تتمرغ أمام عينيها - نفحتها في خجل كل ما معها وعادت تسير بجوادها خبباً وكل ما حولها يتقلب ويلف في رأسها ويدور

وروعت القروية. كان مبلغاً جسيماً جداً باعتباره منحة؛ وأخذت تحدق في الفضة التي تغمر قبضتها في بلاهة وشك حتى أنها لم تجب زميلاتها في التو عندما سألنها في فضول وهن يمددن أعناقهم من بين الشجيرات. بل كشفت عن رأسها وصدرها في انفعال وعصبية ورفعت يديها ووجهها إلى السماء، وفي صوت حار متهدج يمتزج بعبارات تنبعث من مكان عميق في قلبها، عبرات لم تسقط من عينيها من قبل، أخذت تدعو للفتاة بطول العمر والستر وبلوغ المآرب وكل ما يملأ قلبها من أماني الخير

وسرى خبر المنحة في أنحاء الحقل سريان روح الربيع في العود الجاف، فأفاق من جموده قليلاً قليلاً، ونهض ينشد الابتسام في هذا النسيم الرقيق المليء بالحنان والعطف، ويصغي في شغف إلى موسيقى الحادث فتطربه، ويلعب كل على هذا الوتر الرقيق الرفيق ما في أمانيه وأحلامه من ألحان قصصية فطرية أضافت إلى الحقيقة سطوراً شعرية فاتنة

وحار سؤال على الأفواه: من تكون هذه المحسنة الصغيرة الجميلة؟

ولم تدم الحيرة طويلاً بفضل (معوّض الجمال)، وكان يتنقل بين الحقل والقرية ينقل محصول القمح إلى الجرن

أخبرهم وهو يتعالى على ظهر ناقته الضامرة أنها ابنة صديق لحامد بك مثري القرية وسيدها الأول. . . كان هذا الصديق في يوم ما مأموراً للمركز، وهو اليوم أحد كبار موظفي الداخلية، وأنها جاءت بناء على إرشاد طبيبها، وستقضي بينهم وقتاً قد يكون طويلاً. . . و. . . والكثير مما أثبتت الأيام أنه كان من نسج خياله، والنتيجة اللازمة لقلة العرض وإلحاح الطلب

ومن هذا اليوم تعودوا أن يروها عند ما يجب أن تظهر الملائكة في أقسى ساعات العمل، وفي حالات المرض والجوع والعرى التي كانت ترزح القرية تحت أعبائها الثقال، وأصبح من المألوف لديهم أن يروها بينهم في القيلولة، عندما يشتد ضغط الحياة وتتخلى عنهم السماء، تلهو معهم بالعمل وتغني وسطهم وهي تضحك، وتنثر بحيويتها الفطرية زهور الربيع على أطلال خريفهم الكئيب الدائم، وتملأ الحياة من حولهم مرحاً وابتساماً

وكثيراً ما كانت تشاهد في أزقة القرية بين الأطفال تداعبهم في لطف، وتمتحن ذكائهم في براعة، وتثير فيهم حب النظافة بالانتقاد الخفيف والمنافسة الهادئة. أو بين القرويات في دورهن تساعدهن في بساطة وألفة على تنظيم أثاثهن عندما كن يقمن بذلك أثناء زيارتها لهن

وقد كانت تجلس وسط رهط منهن تحدثهن حديثاً عادياً شاملاً وأسنانها البيضاء تسطع من بين شفتيها الخلابتين في ابتسامة مشرقة، وهن من حولها يصغين في انتباه والسرور والإعجاب يملأهن

وكان حنوها البالغ على المرضى من الأسباب القوية التي كانت تقضي سريعاً على اليأس والكآبة والمرض حتى أنه عرف عنها أنها لا تزور مريضاً حتى يشفى

ثم هي تغدق عطفها في سخاء وغزارة منزهين عن الغرض، وشعور صادر عن إحساس عميق صادق تدفعه في حرارة رغبة روحية صافية لا تشوبها ذرة مادية. ومع أن قسوة الحياة وجمود البيئة جعلت من هذه المخلوقات التعسة حيوانات ضارية فإن القلب الكبير وجد له صدى مضاعفاً في القلوب المجدبة. . . وقام هذا القطيع الكبير المنهك يستظل بحنانها، ويستمتع إلى جوارها بالنور والدفء، ويستمرئ طعم الحياة الحلو الذي فقد مجرد الإحساس بوجودها. . . وقام كل يبحث بين طيات هذه النفس الواسعة عن معنى الخلجات الغامضة التي كانت تملأ نفسه ولا يستطيع إدراكها أو التعبير عنها. . . هذه الرغبة في عبادة الأكمل التي جعلت من الإنسان حيواناً راقياً. . .

غمرت القرية روح عجيبة غيرت من كل شيء فيها. . . وملأت هذه المخلوقة الصغيرة كل هذا الفراغ المترامي. . . حتى تكونت لهم أخلاق خاصة بها، فخفت الألفاظ البذيئة التي كانوا يتنادرون بها عادة فيما بينهم، وأصبحوا يعدون كل كلمة تفوه بها حجة لا تقبل الجدل وبنداً يضاف إلى بنود دستورهم الأخلاقي الجديد

قالت يوماً لقروية رأت ما عليها طفلها من الإهمال: إن الفقر ليس معناه القذارة، وإن النظافة أقل أسباب الصحة نفقات، وهي من ضروب الاقتصاد التي يجب أن تلازم الفقر. . . فتضاعفت كمية الصابون الواردة إلى القرية بشكل لم يسبق له نظير في تاريخها

وحدث أن هاج ثور من ثيران العمدة وأخذ يغدو ويروح بين الأزقة الضيقة وينطح كل ما يصادفه بقرنيه الشرستين، واتفق وجودها في الشرفة ورأت في جزع حياة المارة المعرضة للخطر. فدفع هذا الجزع قروياً شابا كان مشهوراً بين زملائه بالاستكانة والضعف الجسماني إلى المغامرة بحياته. . . ويقول الذين رأوا الحادث إن الشاب امتلأ فجأة بنور كضوء القمر، والتمعت عيناه كنجمتين وانقض على الثور الهائج معرضاً حياته لموت محقق، وقبض على قرنيه وضغطهما في قوة هائلة جعلت الثور يتراجع ويسقط على قائمتيه؛ ثم ربطه في حبل وقاده إلى مربطه بين الدهشة والضجيج. ومما هو جدير بالذكر أن الفتاة قدمت إليه بهذه المناسبة قطعة فضية ظل يحتفظ بها كوسام برغم الظروف العسيرة التي مرت به

وكان هذا الحادث سبباً في زواجه من فتاة كان يحبها وكانت ترفضه.

وأشد من ذلك غرابة أن قوة الشاب البدنية أخذت من هذا اليوم تزداد، ومظهره أخذ يبدو أكثر نظافة وأناقة. وأنا وإن كنت لا أستطيع تفسير هذه الظاهرة تحليلياً إلا أني لا أشك مطلقاً في أن هذا الحادث كان سبباً لها

تحققت إذن كل خيالات القرية الجائعة في هذا الملاك الشهي واندفعت بكل رغبتها في الخلاص وأملها في التخلص تقيد الشموع وتشعل المباخر في معبد أقامته من الأماني قرباناً للمعبودة السمراء

لقد ارتفعت وارتفعت حتى وصلت إلى مصاف الأنبياء أو فوق مكانة البشر وكان الحقل يظل عابساً أو كالعابس حتى تمر به كنسمة الحياة في وادي الموت فينقلب عبوسه إلى طرب ووجومه إلى ابتسام وخموله إلى جذوة من النشاط والحركة والمرح

وفي صباح خريفي رأوها كالعادة قادمة في الطريق الضيقة الملتوية التي تصل الحقل بالقرية. تسير كالجدول الرقراق بجوادها الأبيض، يتبعها على جواد آخر شاب نظيف ممتلئ يطفح صحة وبشراً

حدثهم بالروح الطيبة التي اعتادوها فاطمأنوا إليه وازداد تعلقهم وتقديرهم واحترامهم لها عند ما ساعدها في أدب جم (وهو لا يقل نظافة عن وكيل النيابة) على الترجل. وقابلوهما والإشراق والابتسام يملأ وجوههم. ووقفوا في خشوع يعبرون بوجوه صامتة تختلج عن مقدار ما يملأ قلوبهم من الإخلاص والحب؛ وظلت هذه الزيارة تملأ كنسيم العصر حديثهم طول اليوم

وفي المساء عند ما لفظ الحقل بقاياهم دفع الإعجاب الشديد قرويا في سن الحلم إلى أن يلقي نظرة على الفتاة من وراء سياج حديقة المنزل وكان في طريقه

ولم يكد يفعل حتى سمر في مكانه واتسعت حدقتاه وشحب، وأخذ يرتعد كالمحموم ويدعو زملاءه في إشارات مجنونة وينصحهم بالصمت والحذر بوضع سبابته الحائرة على فمه المرتعش؛ وكل من كان يأخذ مكاناً إلى جواره كانت تعتريه نفس الحالة. ولم تمض مدة حتى تكونت جمهرة ترتعد وراء السياج

كانت المعبودة السمراء تتمرغ بين ذراعي الشاب الذي رأوه معها في الصباح يغمر وجهها وتغمر وجهه بقبلات حارة فائرة، ويلتصق بها وتزداد به التصاقاً حتى تكاد تفنى فيه، وبقايا الغروب تلقى عليهما لوناً حيوانياً ساخناً يضيء وجه الفتاة الملتهب ووجنتيها المتقدتين، ويشعل الرغبة العنيفة المنبعثة من عينيها الغارقتين في الأحلام، ويسدل ستاراً كثيفاً على الوداعة الملائكية التي اعتادوها

ولما همت تسير مع الشاب متحاملة بكل جسدها على ذراعه عرت القوم جنة وذهبوا إلى القرية عدواً

وانطلق الخيال الخصب من عقاله، وملأت الإشاعات بشكل مضاعف مجالس السمر، على المصاطب، وفي موارد المياه والمخابز. وملأ الحنق والغضب قلوب القرويين وباتت القرية ترعد من الألم وتعصف بها قوة عاتية، غاضبة، حائرة!

وفي الصباح عند ما قدمت عليهم عرتهم رعدة قوية - على رغم أنهم كانوا ينتظرون هذا القدوم بصبر نافد - وتصبب العرق البارد على أجسامهم في غزارة، وتسارعت دقات قلوبهم وهم يخفون رؤوسهم بين الشجيرات ويراقبونها من وراء الأوراق بأنفاس مكتومة ونظرات مرتبكة. وأخذت تنطلق بين الفينة والفينة أصوات كالفحيح بعبارات ساخطة مبهمة في يأس كالبكاء

ولما حيتهم والدهشة تعقد لسانها أجابها البعض بأصوات مختنقة وهم يغالون في الاختفاء، وصمت أكثرهم شجاعة إمعاناً في الازدراء والاحتقار!

وبعد أن توارت وسط هذه العاصفة الصامتة وقف الشاب الذي قهر الثور وهو يكاد يسقط وقد تهدلت تقاطيعه وعادت إليه في الاثنتى عشرة ساعة الماضية هيئته الذليلة وسيماه الممزق، وصاح منهوكا والدموع تملأ عينيه، والعرق يغطي وجهه المغبر. . . إنه خطيبها. . . أقسم أن زينب الخادمة قالت لي ذلك. . . إنه حلال! حلال! وهي ستتزوجه. إنه زوجها. أقسم بالطلاق أنه زوجها!

وعصر قلبه ألم كبير لم يقدر على مقاومته. ولكن ما قاله برغم تناقضه وجد مرتعاً في النفوس الظامئة المصابة؛ فقد تحدث في الوقت المناسب أثناء تعادل القوى النفسية المتدافعة. وكاد القوم يثوبون ويعدون خلفها يعفرون تحت أقدامها بالتراب وجوههم؛ بل فكر البعض في جعل التقبيل قبل الغروب سنة يجب أن تسنها شبيبة القرية، ولكن زميلاً وقف يهدر وانفجر بصوت قوي كله حقد والشر يتطاير من حوله. . . ليكن خطيبها، زوجها. . . أبوها. . . إنها كانت تأكله! إن عينيها حرقتاني وأنا وراء السياج! لقد كانت تخدعنا هذه الـ. . . وهم أن ينعتها بأحط النعوت، ولكن الكلمات ماتت على شفتيه، وعاد إلى عمله وهو يكاد يضرب نفسه!

وعاد الحقل إلى صمته الحزين الأبدي!

(أبو حمص)

محمد عنان