مجلة الرسالة/العدد 457/ ابن خرداذبة

مجلة الرسالة/العدد 457/ ابن خرداذبة

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 04 - 1942


4 - ابن خُرْدَاذبه

للأستاذ كوركيس عواد

(تتمة)

6 - الخصومة بين ابن خرداذبة وأبي الفرج الأصفهاني

(ا) تمهيد

كان الأستاذ كامل كيلاني قد أحسن غاية الإحسان بنشره بحوثاً طلّية في وصف بعض (الخصومات) أو (المناظرات) الأدبية القديمة التي دارت رحاها بين طائفة من أكابر العلماء، وكان لها شأن في توجيه الرأي الأدبي في تلك الأزمنة الغابرة.

وما من شك في أن هاتيك الخصومات تمثل لنا لوناً من ألوان الثقافة، وتكشف عن منحي من مناحي المجتمع، كما أنها توضح لنا بأجلى بيان ما كان يضطرم أحياناً في نفوس بعض الأدباء من حبٍ للتنافس، وميلٍ إلى الظهور والتصدُّر، وانسياقٍ لعوامل الحقد والضغينة؛ وتفصح لنا عما كانت تنطوي عليه أخلاق بعضهم من كبرٍ أو مكابرة، وعنتٍ أو دهاء. . . ومهما يكن من أمر، فإن تلك الخصومات صفحة أدبية رائعة الجمال، إذ شحذ مسطِّروها أذهانهم لإحراز الفوْز، وأفرغوا ما في وسعهم من الأدلة والبينات التي كانت تتجاوب أصداؤها بينهم، وتتدافع تدافع السيل العرم، لتنال مكانها من الظفر!

ولقد وقفنا على شيء يقرب من ذلك، تشب بين اثنين من أشهر الكتبة الأقدمين، وهما ابن خرداذبة وأبو الفرج الأصفهاني.

وإذا تكلمنا على الأول منهما بما مرَّ بك تفصيله، فلنقل كلمةً وجيزة نمهد بها موقفه من الخصومة، فنقول:

(ب) أبو الفرج الأصفهاني

إن شهرة أبي الفرج البعيدة، تغنى عن التعريف به. وكتابه العظيم الموسوم بـ (الأغاني) الذي سلخ في جمعه وتأليفه على ما قال خمسين سنة، لمن أعظم الكنوز الأدبية قيمة، وأحفلها مادة! وكفاه من سمو المنزلة ومزيد الاعتبار أن الصاحب بن عباد - وهو من هو - (كان في أسفاره وتنقلاته يستصحب حمل ثلاثين جملاً من كتب الأدب ليطالعها، فلم وصل إليه كتاب الأغاني لم يكن بعد ذلك يستصحب سواء لاستغنائه به عنها!)

وكان الصاحب هذا يقول: (لقد اشتملت خزانتي على مائتين وستة آلاف مجلد، ما منها ما هو سميري غيره (أي غير كتاب الأغاني) ولا راقني منها سواه. . .)

وكان عضد الدولة (لا يفارقه في سفره ولا حضره، ولقد كان جليسه الذي يأنس به، وخدنه الذي يرتاح إليه)

ولأبي الفرج كتب عديدة أخرى ذكرها مترجموه ورواة أخباره. ضاع اغلبها، ففاتنا بضياعها من الخسارة بما لا يمكن التعويض عنه.

ولسنا في مقام التبسط فيذكر ترجمته، فذاك أمر معروف مشهور، وإنما اكتفينا بالتنويه بكتابة الأغاني، لما له من الخطر في الخصومة التي أشرنا إليها. أما من أراد الوقوف على أخبار أبي الفرج، فعليه بها مفصلة في (تصدير) المجلد الأول من الأغاني المطبوع في دار الكتب المصرية. ففيها كل الغناء.

وما لا بد من النص عليه، هو أن أبا الفرج توفي في أواسط المائة الرابعة للهجرة (أي في سنة 356 للهجرة)، وهي المائة التي ازدهر فيها الأدب العربي، واستقام أمره، واتسعت مادته

(ج) الخصومة

والخصومة التي سنذكرها، تختلف عن كثير من الخصومات لأنها جرت بين شخصين باعد بينهما الزمن! فقد ذكرنا من قبل أن ابن خرداذبة نادم المعتمد الخليفة العباسي، وخص به، وكانت وفاة المعتمد في سنة 279 هـ. فيكون ابن خرداذبة من أبناء المائة الثالثة للهجرة، ولعله تعداها فعاش بعض السنين من المائة الرابعة

أما أبو الفرج الأصفهاني، فقد وُلِدَ سنة 284 ومات سنة 356 للهجرة. فهل يكون قد أدرك في أوائل شبابه شيخوخة ابن خرداذبة؟ وهل يكون قد حصل بينه وبينه تنافر وتباغض أدى بابي الفرج إلى أن يقف موقفه المريب إزاء زميله على ما سنوضحه؟

فإذا طالعت كتاب (الأغاني) لأبي الفرج، ألفيته يذكر ابن خرداذبة في مواطن عديدة منه، ويستشهد بأقواله ولكنه لا يذكره إلا ليثلبه، ويحيط من قدره، ويجرده من كل حسنة سواء أكان لذلك كله موجب أم لم يكن! وهو لا يروي قولاً من أقواله إلا ليردّ عليه ويضعّفه ويتعمد تزييفه! فهو على ما يبدو ظاهر التحامل. على أننا لا ندري ما مبلغ الصحة في ما حكاه عن ابن خرداذبة، ولا الدواعي الحقيقية التي حماته على أن يشدّد النكير على صاحبه، لأن مؤلفات ابن خرداذبة التي ندد بها وانتقد أقوالاً منها ضاعت بأجمعها! ولهذا، نُرَ أنا في هذه الخصومة سنصغي - على الرغم منّا - إلى شهادة جانب واحد! وللتاريخ أن يحكم على صحة هذه الشهادة، ولعل الأيام تكشف لنا مصنفات ابن خرداذبة، فنعود نستمع إلى أقوالها، وقد ينجلي الأمر إذ ذاك وتتضح الحقيقة!

واليك أقوال أبي الفرج في خصمه، استخلصناها من أماكن مختلفة من كتاب الأغاني:

قال في (5: 3 من طبعة الساسي، أو 5: 156 من طبعة دار الكتب المصرية) ما هذا بحرفه:

(وذكر ابن خرداذبة، وهو قليل التحصيل لما يقوله ويضمنه كتبه، أن سبب نسبته (أي نسبة إبراهيم الموصلي) إلى الموصل، إذا سكر كثيراً ما يغني على سبيل الوَلَع:

أناجت من طرق مَوْصل ... أحمل قلل خَمْريَا

من شارب الملوك فلا ... بُدَّ مِن سُكْرِيَا

وما سمعت بهذه الحكاية إلا عنه؛ وإنما ذكرتها على غثاثتها لشهرتها عند الناس، وأنها عندهم كالصحيح من الرواية في نسبة إبراهيم إلى الموصل، فذكرته دالاّ على عواره) أهـ.

وقال في (1: 18 س، أو 1: 36 د):

(وذكر ابن خرداذبة أنه (الكلام على مبعد المغنى) غَنَّى في أول دولة بني أمية وأدرك دولة بني العباس وقد أصابه الفالج وارتعش وبطل، فكان إذا غنى يُضحك منه ويُهزأ به. وابن خرداذبة قليل التصحيح لما يرويه ويضمنه كتبه. والصحيح أن معبداً مات في أيام الوليد بن يزيد بدمشق وهو عنده. وقد قيل: إنه أصابه الفالج قبل موته وارتعش وبطل صوته. فأما إدراكه دولة بني العباس فلم يروه أحد سوى ابن خرداذبة، ولا قاله ولا رواه عن أحد وإنما جاء مجازفة) أهـ.

ونظير ذلك قوله في (6: 15 س، أو 6: 173 د):

(وذكر ابن خرداذبة، أنه (يقصد يحي المكيَّ) مولى خُزاعة. وليس قوله مما يحصل، لأنه لا يعتمد فيه على رواية ولا دراية)! ومثله قوله (13: 154 س):

(ويزعم ابن خرداذبة، أن الصنعة فيه (في بيتين من الشعر أوردهما الأصفهاني) ليزيد وليس كما ذكر، وإنما أراد أن يوالي بين الخلفاء في الصنعة، فذكره على غير تحصيل، والصحيح، أنه لمعبد. . .)

وشبيه به ما رواه في (10: 115 س):

(وذكر ابن خرداذبة، وهو ممن لا يحصل قوله ولا يعتمد عليه، أنه (أي عَلَّوية المغنى) من أهل يثرب، مولى بني أمية)

أو ما قاله في (8: 156 س، أو 9: 276 د):

(وممن دونت صنعته من خلفاء بين العباس، الواثق بالله، ولم نعلمه حُكى ذلك عن أحد منهم قبله، إلا ما قدمناه سوء العهدة فيه عن ابن خرداذبة، فإنه حكى أن للسفاح والمنصور وسائرهم غناء، وأتى فيها بأشياء غثة، لا يحسن لمحصل ذكرها)!

ومما يتصل بها المعنى، ما حكاه أبو الفرح في (8: 144 س أو 9: 250 د):

(قال مؤلف هذا الكتاب: المنسوب إلى الخلفاء من الأغاني والملصق بهم منها، لا أصل لجله ولا حقيقة لأكثره، لاسيما ما حكاه ابن خرداذبة، فإنه بدأ بعمر بن الخطاب رضي الله عنه، فذكر أنه في هذا البيت:

كأنَّ راكبها غصنٌ بمَرْوَحَة

ثم والى بين جماعة من الخلفاء واحداً بعد واحد، حتى كأن ذلك عنده ميراث من مواريث الخلافة أو ركن من أركان الإمامة لا بد منه ولا معدلَ عنه، يخبط (يعني ابن خرداذبة) خبطَ العشواء ويجمع جمع حاطب الليل. . .!)

أو ما سطره في (13: 110 س):

(وذكر ابن خرداذبة، أن المهدي اشتراها (اشترى الجارية بصبص) وهو ولي العهد، سراً من أبيه، بسبعة عشر ألف دينار، فولدت منه عُلَيّة بنت المهدي. وذكرغير ابن خرداذبة، أنه غلط في هذا، وإن الذي صح، أن المهدي اشترى بهذه الجملة جارية غيرها وولدت عُلَيَّة. . .)

فهذه، على ما رأيتَ، آراء صريحة، طعن فيها أبو الفرج بصاحبه، وضعَّف مرويّاته.

وليس بوسعنا أن نبدي فيها رأيا للسبب الذي قدمناه في محل آخر من هذا المقال. ونضيف الآن إلى ذلك، أن عشرات الكتب في الغناء والمنادمة والشراب وما اتصل بهذه الموضوعات من قريب أو بعيد، مما صنفه اقدم الكتبة كإسحق الموصلي، ويحيى بن أبي منصور الموصلي، وعبد الله بن هارون، ويونس الكاتب، وعمر بن بانة، وحسن ابن موسى النصيبي، وأبي حشيشة الطنبوريَّ، وجحظة، وأبي أيوب المديني، وغيرهم، كل تلك الأسفار قد ضاعت وامحي أثرها، ولم يبق لنا منها سوى أسمائها الجميلة

التي حفظها لنا ابن النديم وغيره في تصانيفهم

هذا، وقد ذكر أبو الفرج زميله في أماكن أخرى من أغانيه، ونقل عنه أخباراً ومرويات لا فائدة من إيرادها هنا.

غير انه في بعض نقوله كان يمر به دون ما تجريح، ذلك إذا راعى جانب الهدوء والاعتدال في القول، وإلا، فلا أَقل من أن يتوج ما ينقله عنه بعبارة (وزعم ابن خرداذبة)، ولا يخفى على اللبيب، ما تنطوي عليه لفظة (زعم)!

فهل كان أبو الفرج في مواقفه النقدية يعتمد الإساءة إلى أقرانه ومعاصريه ممن ألف في موضوع الأغاني وما إليها؟ أم إنه كان على حق فيما فند وزيّف، وقد وقفنا على رأي له في كتاب من هذا القبيل، ننقله إلى القارئ، لما فيه من مغزى أدبي، قال:

(وذكره جحظة (الكلام هنا على أحمد النَّصْبِيّ المغنىّ الطنبوري) في كتاب الطنبوريين، فأتى من ذكره بشيء ليس من جنس أخباره ولا زمانه، وثلبه فيما ذكره، وكان مذهُبهُ - عفا الله عنه - في هذا الكتاب، أن يَثْلِبَ جميع من ذكره من أهل صناعته بأقبح ما قَدَر عليه، وكان يجب عليه ضد هذا، لأن من انتسب إلى صناعة، ثم ذكر متقدمي أهلها، كان الأجمل به أن يذكر محاسن أخبارهم وظريف قصصهم ومليح ما عرفه منهم، لا أن يثلبهم بما لا يعلم وما يعلم. فكان فيما قرأت عليه من هذا الكتاب أخبار احمد النصبي، وبه صدَّر كتابه فقال:

وحسب القارئ أن يسأل لماذا حمل أبو الفرج على جحظة في موقفه من احمد النَّصبي؛ وندد به لأنه ثلب مَن تقدمه، وهو نفسه لم يطبق هذا المبدأ في موقفه من ابن خرداذبة على ما مر بنا 7 - ختام البحث

رأى القارئ في تضاعيف هذا المقال أن ابن خرداذبة كان إلى جانب مركزه الاجتماعي مؤلفاً في ميادين الكتابة المختلفة، فقد صنف في التاريخ والبلدان والأنواء والأنساب والموسيقى والمنادمة والشراب وغير ذلك. . . وان الكتبة انقسموا بشأنه فريقين: له وعليه. فأفراد الفريق الأول وعلى رأسهم المسعودي مدحوه، وقرضوا كتبه؛ والفريق الثاني، وعلى رأسهم الأصفهاني حملوا عليه حملة شعواء فأوسعوه نقداً وتجريحاً

ومن العسير علينا أن نبدي رأياً أو نقول قولاً في هذا الموقف الذي ينقض أوله أخره، ونحن في وقت نتلمس فيه تأليف ابن خرداذبة التي دارت عليها رحى الخصومة، فلا نجد منها شيئاً ما، كما أننا لا نجد اغلب الكتب التي تناظرها في البحث لنتحقق صحة ما قيل فيها، وقد يتاح حينذاك الحكم لها أو عليها!

(بغداد)

كوركيس عواد