مجلة الرسالة/العدد 458/خسرو وشيرين

مجلة الرسالة/العدد 458/خُسرو وشيرين

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 04 - 1942



في التصوير الإسلامي

للدكتور محمد مصطفى

خسرو الثاني، بن هرمزد الرابع، بن خسرو أنو شروان العادل، المعروف عند مؤرخي العرب باسم كسرى برويز، أي كسرى المظفر؛ وهو آخر ملوك الدولة الساسانية الكبار، ملك إيران ثمانياً وثلاثين سنة (590 - 628م)، فكان عهده من أطول العهود، مليء بالحوادث العظيمة، والقصص الممتعة، ذات الأثر البليغ في الأدبيين الإيراني والتركي وفي الفن الإسلامي

تولى خسرو برويز عرش إيران والبلاد في حالة ثورة واضطراب عظيم، فقد كان أبوه هرمزد عسوفاً شديد البطش، وكان من آثار سياسته أن ثار به القائد الشهير بهرام جوبين، الذي هزم الترك سنة 588م وقتل ملكهم ساوه شاه وأسر ابنه بعد أن غنم ما يفوق الوصف، فأوغر بذلك صدر هرمزد بالغيرة منه والحقد عليه. ورأى هرمزد في انهزام بهرم جوبين أمام الروم في موقعة عند اللاذقية سنة 589م، فرصة ليحط مقدار القائد العظيم فأمر بإحضار قميص من الشعر، وسراويل أحمر، ومعجر أصفر، ووعاء فيه قطن، ومغزل إلى غيرهما مما يصلح للنساء، وأمر بعض أصحابه أن يحملها إلى بهرام فأقحمه الثورة. وثار الناس بهرمزد ودخلوا عليه القصر ونكسوه من العرش، وكحلوا عينيه وحبسوه، ثم قتلوه بعد ذلك، وأنهى الخبر بذلك إلى خسرو وبرويز، فطار بجناح الركض، وجاء من أرمينيا حيث كان قد فر إليها لما أوقع بهرام جوبين بينه وبين أبيه، فتغير رأي أبيه عليه وأراد أن يقتله. ولكن خسرو برويز لم يفلح في مصالحة بهرام جوبين، وفر ثانية ولجأ إلى موريس إمبراطور الروم يطلب معونته، فزوَّده بجيش استطلاع به أن يقهر بهرام جوبين ويضطره أن يفر فيلجأ إلى خاقان الترك حيث قتل فيها بعد. وكانت لإمبراطور الروم بنت متحلية بالخلال الحميدة والخصال المرضية تسمى (مريم)، وكانت جميلة كالشمس إذا انكشف عنها السحاب، فرأى أن يزوجها من خسرو ليتم بذلك ربط صلات المودة بين البلدين، وقد تزوج خسرو من (مريم)، فولدت له ابنه (شِيروُيَه)

وبلغ خسرو برويز من سعة السلطان مبلغاً عظيماً، فاستولى على مصر والشام وسائر ما كان يملكه الروم في آسيا الصغرى، حتى عسكرت جنوده على شاطئ البسفور في مقابلة القسطنطينية، ولكن بسطة السلطان هذه انقبضت في آخر أيامه، واستطاع (هرقل) إمبراطور الروم أن يهزم جيوش خسرو بعد حرب طاحنة دامت أعواماً طويلة، فثار الناس به وقبضوا عليه وحبسوه وولوا ابنه (شيرويه) العرش باسم (قباذ الثاني)، فأمر بقتل أبيه (خسرو) وعقد الصلح مع الروم

أما (شيرين)، فقد اختلف الرواة في أصلها، فقال بعضهم - ومنهم الشاعر نظامي - إنها بنت ملك الأرمن، أحبها خسرو حين فَّرمن أبيه هرمزد؛ وقال آخرون أنها إيرانية كانت في خدمة أحد الأشراف، وكان خسرو في صباه يتردد على دار هذا الشريف فأحب شيرين وأعطاها خاتماً، فلما علم رب الدار بهذا الحب، أمر أحد خدامه أن يغرقها، وقد استطاعت شيرين أن تؤثر في هذا الخادم، فألقاها في مكان من نهر الفرات قليل الغور، فنجت من الغرق ولجأت إلى أحد الأديرة. ولما تولى خسرو العرش، سار ذات يوم إلى ناحية هذا الدير، فأرسلت إليه شيرين الخاتم مع أحد عساكره، فذكرها وأخذها إلى قصره في المدائن، فعاشت معه وأخلصت له. وبعد مقتل خسرو رآها ابنه شيرويه، فكانت في نظره ذات وجه كالنهار الشامس، وشعر كالليل الدامس. . . فلما رآها كادت تزهق روحه شغفاً بها. . . فتناولت شيرين السم لتضع حداً لهذا الحب وتبقى على إخلاصها لخسرو

وكان لشيرين عاشق ثالث اسمه (فَرْهاد): كان مثَّالاً إيرانيًّا بارعاً في فنه، اشتهر في عصر خسرو برويز بنحت التماثيل والزخارف. ويقال إنه هو الذي نحت الصور الخالدة لخسرو في (طاق بستان)، وسيأتي ذكر ذلك فيما بعد

وقد نظم الشاعر نظامي الكنجوي قصة (خسرو وشيرين)، وجعلها إحدى منظوماته الخمس، ثم اقتدى به كثير من شعراء الإيرانية والتركية، فنظمها بالإيرانية خسرو الدهلوى، وبالتركية شيخي وعطائي وآهي وغيرهم. ووجد الفنانون في حوادث هذه القصة ومواقفها مادة ليس لها من نهاية يستلهمون منها في رسم صور لا حصر لها، فصوروها في جميع مراحل التصوير الإسلامي وفي مختلف عصوره. وشاء القدر بذلك أن يخلد لأبطال هذه القصة صفحات في كتب التاريخ والأدب والفن

يقول الشاعر نظامي الكنجوي أن خسرو برويز ولد في طالع حسن عند بزوغ فجر أحد الأيام، فكان مولده كشروق الشمس في الأفق من بين الظلمات، تجلب معها النور والخير والبركات والقوة والشباب؛ وإذ مضى عام على ولادة ذلك الطفل وحلت ليلة القدر، قام واقفاً على قدميه، وبدأ لسانه يثرثر بما وعاه من كلمات، فعهد والده بتربيته إلى (بُزُر جُمِيد) الحكيم، وفي رعايته نما ذلك الطفل إلى أن صار شاباً كامل التربية تام التهذيب، وأميراً شجاعاً وبطلاً صنديداً؛ وامتلأ قلب (هرمزد) بالسرور والشكر لله جلت قدرته، الذي وهبه هذا الوريث الشهم السامي الأخلاق، واعتزم أن يحكم المملكة التي سيرثها مثل هذا الابن بعدالة أكثر من ذي قبل، ورسم بعقاب أيما رجل تعدى على أملاك آخر، وقطع أذن وذنب أيما فرس دخل أرضاً مزروعة فأضرّ بها، وصلب من سرق شيئاً

وذات يوم جلس هرمزد في مجلس العدل يحكم بين الناس فدخل إليه بعض القرويين بمظلمة، يشكون من ولده الأمير خسرو أنه حل الليلة الماضية في بيت أحدهم عند مروره بقريتهم أثناء رجوعه من إحدى رحلات الصيد العديدة، التي اعتاد الأمير الشاب أن يقوم بها. ولم ينته الأمر عند هذا الحد، بل إن خسرو أمضى ليلته بأكملها في ذلك البيت، ومعه جماعة من أقرانه وأصحابه يتناولون الجام من المدام بعد الجام، وهم يستمعون إلى نغمات مطرب الأمير، وقد اندفع هو في الغناء فاندفعوا هم في الشرب وأكثروا حتى ثملوا. وما كان هذا كل ما اقترفه الأمير من ذنوب، بل إن فرساً من مراكبه الخاصة جفل من مربطه وانطلق يلهو في حقل رجل فقير فداس شيئاً من الزرع وأضر به. ثم إن أحد أصحاب الأمير رأى عناقيد من الحصرم متهدلة من بعض الكروم في حديقة، فأمر غلاماً من عبيد الأمير بأن يقطع منها عدة ويحملها إليه ففعل. فثار الملك من سخطه على سلوك ابنه الأمير وأمر بالفرس فأعطى لصاحب الحقل الفقير؛ وبالغلام فوهب لمالك حديقة الكروم؛ وبأسلحة الأمير وشاراته، فمنحت لسكان البيت حيث قضى ليلته. وكاد الملك أن يخرق ابنه لولا شفاعة بعض أكابر المملكة، فعفا عنه بعد أن اعترف الأمير بسوء فعلته وفي (الشكل 1) نرى الأمير الشاب خسرو برويز وهو راكع أمام والده الملك هرمزد الجالس على العرش يسلمه أسلحته عقاباً له لمخالفته ما رسم به والده، ووقف على الجانبين بعض كبار المملكة يستعطفون الملك هرمزد ليعفو عن ولده خسرو. وسحن الأشخاص هنا اصطلاحية. وهذه الصورة في مخطوط للمنظومات الخمس للشاعر نظامي الكنجوي. كتبه درويش عبد الله الأصفهاني في سنة 868 هجرية (1463م). والظاهر من الصور التوضيحية التي به أنه قد اشترك في تصويرها غير واحد من الفنانين. ولهذا المخطوط ميزة كبيرة وهي انسجام الصور مع المتن. وهو الآن محفوظ في مجموعة شستر بيتي بلندن

بعد ذلك بمدة قصيرة رأى خسرو في منامه جدَّه العظيم أنو شروان، وقد وقف أمامه في عظمة وجلال، وأخبره أنه سيكافأ بقبوله جزاء فعلته دون تذمر، ولتخليه عن مطربه وفرسه وغلامه وأسلحته، وأنه سيحصل في نظير ذلك على مطرب بارع في فنه، له صوت عذب حنون، سيكون اسمه (باربُد). وعلى جواد أسرع من فكر الإنسان، سيكون اسمه (شَبْديز). وعلى امرأة لا تضاهي في الحسن والجمال سيكون اسمها (شيرين) وأخيراً على العز والمجد بجلوسه على عرش إيران

وبعد هذه الرؤيا بمدة قصيرة جاء لزيارة خسرو صديقه الحميم (شابور)، وقد كان مصوراً بارعاً، يجيد الرسم والتصوير، ولا يضارعه أحد في هذا الفن، وكان إلى جانب ذلك رحالة بكل قلبه وقالبه، مولعاً بالأسفار، مشغوفاً بالرحلات إلى البلاد البعيدة والغريبة. وفي سياق حديثه مع خسرو، أخبره أنه قدم مرة إلى بلاد جميلة تسمى (أرمينيا) تحكمها ملكة عظيمة اسمها (مهين بانو) مشهورة بين ملوك الدول المسيحية. وأن وريثة هذه الملكة العظيمة هي ابنة أخيها الأميرة (شيرين) وأن هذه الأميرة ذات جمال فريد لا مثيل له، وسحر ملائكي وفتنة تأخذ بمجامع الألباب. وقد اعتادت هذه الفاتنة أن تجوب نواحي المملكة على رأس (قطيع) من ثلاثمائة عذراء، تنافس كل منهن الأخرى في جمال النفس ورشاقة القوام؛ ليس لهن من همّ سوى التفكير في أماكن جديدة بعيدة، يقضين فيها أوقات طويلة في المرح والنزهة والصيد والقنص. وأخبره أيضاً أن الملكة (مهين بانو) تملك فرساً لونه أسود كلون الليل الدامس اسمه (شبديز). وقد عجب خسرو لاتفاق الأسماء فيما رواه له صديقه شابور مع ما حفظه عن جده أنو شروان من أسماء عند ما ظهر له في الحلم، وأخذ يستزيد شابور من أخبار شيرين حتى تأجج قلبه من نيران الهوى، وهام بها هياماً شديداً لمجرد سماع أخبارها؛ وكانت نتيجة ذلك أنه أمر صديقه (شابور) بالسفر في التو واللحظة إلى أرمينيا، وأن يسعى هنالك في ربط الصلة بينه وبين (حبيبته) شيرين

وصل شابور إلى أحد أديرة أرمينيا، حيث علم أن شيرين قادمة بعد قليل مع صويحباتها العذارى، وأنهن سيهبطن للراحة في روضة مجاورة. ووجد شابور في ذلك فرصة مناسبة ليستلفت نظر شيرين إليه، فرسم صورة لخسرو وعلقها على شجرة في مكان ظاهر من تلك الروضة، ثم اختبأ منتظراً ما سوف يحدث. وأقبلت شيرين إلى الروضة ومعها صويحباتها، ورأت الصورة فأعجبت بها، وكأن الشخص الذي تصوره قد أثر في نفسها تأثيراً شديداً فأمسكت بها بين يديها، واسترسلت في البكاء وهي تقبلها. وعند ما تبين صويحباتها شدة انفعالها، عملن على إبعاد الصورة عنها، ومزقنها خفية، , وأفلحن في إقناعها بمغادرة هذه الروضة لأنها مسكونة بالجان، وكانت الصورة سوى عمل من أعمالهم

وفي (الشكل2) جلست الأميرة شيرين في روضة على سجادة تتناول صورة خسرو من إحدى الفتيات، وقد جلس إلى جواريها أربع موسيقيات: الأولى منهن إلى اليمين هي مطربتها الشهيرة (نيكيسا) وفي يدها الجنك، ثم ضاربة للدف، فثالثة تغني وتصفق، ورابعة تعزف على المزمار. وقد وقف حولهما بعض صويحباتها وجواريها وأحد الحراس. وهذه الصورة في مخطوط للمنظومات الخمس للشاعر نظامي، مؤرخ سنة 900هـ (1494م) كتب للأمير ميرزا أحمد علي فارسي أحد أمراء السلطان حسين بيقرا، واشترك في تصوير الصور التوضيحية التي به بعض مشاهير المصورين في ذلك العصر. وهذه الصورة من تصوير الفنان (ميرك خراساني)، وهو إلى جانب ذلك خطاط مشهور. ويقال إنه أحد أساتذة المصور الشهير (بهزاد) وهذا المخطوط محفوظ في المتحف البريطاني

غادرت شيرين ومن معها الروضة الأولى ونزلن في روضة ثانية، وكان شابور قد رأى وسمع من مخبأه هناك كل ما حدث وقيل، فسبقهن إلى الروضة الثانية ووضع صورة أخرى في مكان ظاهر منها. وقد حدث هنا ما حدث في الروضة الأولى وغادرتها شيرين وفتياتها إلى ثالثة، حيث كان شابور أيضاً قد سبقهن وعلق صورة ثالثة، وكانت شيرين قد غلبها حب خسرو لمجرد رؤية صورته، كما غلبه حبها لمجرد سماع أخبارها - والحب كما يقولون يعلم الحيلة والدهاء - فاحتفظت بالصورة هذه المرة، وأرسلت صويحباتها يبحثن عن صور أخرى في الرياض المجاورة، وهي في الحقيقة تود أن تخلو إلى نفسها. ورأى شابور أن الفرصة قد حانت، فخرج من مخبأه وتقدم إليها متنكراً في زي راهب، وبعد أن جعلها تأمر بانسحاب أتباعها، أخبرها أنه مصور هذه الصور وأنها تمثل شخص الأمير خسرو برويز، وأن هذا الأمير قد تملك فؤاده حبها، وأرسل معه إليها خاتماً كدليل لمحبته لها. وهنا صارحته شيرين بحبها لخسرو، وتوسلت إليه أن يرشدها إلى الطريق نحو المدائن، عاصمة إيران. وبعد أن وصف لها شابور الطريق، انسحب ورجع من حيث أتى.

وفي (شكل 3) نرى أن الأميرة شيرين قد جلست في روضة على العرش وجلس أمامها شابور وفي يده صورة خسرو، وأمام العرش فسقية بها ماء تسبح فيه أوزة، ووقف خلف (شيرين) بعض العذارى من صويحباتها، وحول شابور نرى الأتباع والخدم، منهم الجالس والواقف، وبعضهم يقوم بواجباته من تقديم الطعام والشراب. ولم ينس المصور أن يرسم صورة البستاني وفي يده جاروف يعمل في الأرض. والرجال يلبسون عمائم تخرج منها عصا كانت الزي المتبع في لباس الرأس في عصر الدولة الصفوية. ونرى أن سحن الأشخاص في هذه الصورة تمتاز بما بها من حياة وظهور التأثيرات المختلفة عليها من اهتمام وتفكير وسرور وحزن إلى غير ذلك مما امتازت به صور هذا العصر. وهذه الصورة من تصوير (ميرزا علي) أحد تلاميذ المصور بهزاد، ومن مشاهير الفنانين في عصر الشاه طهماسب، وقد اعتاد هذا المصور أن يصور رجاله وهم ملتحين. وبالرغم من براعة (ميرزا علي) في تصوير هذه الصورة، فإنه فاته أن يمثل مقابلة شابور لشيرين وهما منفردان كما أراد ذلك الشاعر نظامي. وهذه الصورة في مخطوط لنظامي كتب للشاه طهماسب ومؤرخ سنة 946 - 950 هجرية (1539 - 43م)، واشترك في تصوير الصور التوضيحية التي به خمسة من كبار فناني ذلك العصر. وهو محفوظ في المتحف البريطاني.

بعد انسحاب شابور من الروضة، رجعت شيرين ومن معها إلى القصر، وصعدت في ذات الليلة إلى عمتها مهين بانو، وأخذت تحدثها عن رحلاتها للنزهة والصيد، وفي سياق كلامها أبدت رغبتها في الخروج صباح اليوم التالي في رحلة طويلة للصيد، وهي لذلك ترجو عمتها إعارتها الفرس الأسود شبديز، وقد أجابتها عمتها إلى ذلك. وفي الصباح الباكر تمنطقت شيرين بأسلحتها، وركبت الفرس الأسود، وخرجت مع فتياتها لصيد الغزلان. وكانت هذه فرصة لها كي تعدو بجوادها السريع خلف غزال وتغيب معه عن الأنظار، وعبثاً حاول صويحباتها اللحاق بها أو البحث عنها، فرجعن إلى مهين بانو وأخبرنها بالأمر، فحزنت حزناً شديداً لاختفائها

وبعد أن ركبت شيرين سبعة أيام متوالية، شعرت بالتعب يدب في جسمها، فترجلت ونامت بعد أن استودعت نفسها الله عز وجل ولكنها سرعان ما صحت من نومها على صهيل جوادها، وتبينت أسداً يقترب من ناحيتها، فأخذت سهماً وأطلقته على الأسد فقتلته. ثم تابعت السير حتى وصلت إلى روضة في وسطها بركة جميلة من الماء، فاعتزمت الاستحمام بها لشدة ما نالها من التعب وما كساها من الغبار. وعلى ذلك ربطت شبديز إلى شجرة، وتجردت من ملابسها وأسلحتها وعلقتها إلى جواره، ثم تمنطقت بقماش أزرق حول وسطها ونزلت في الماء تستحم

وإذ هي تستحم قدم شاب إلى هذه الروضة، ورأى شبديز مربوطاً إلى الشجرة، فاقترب منه معجباً به، وعند ذلك رأى الملابس والأسلحة معلقة إلى جواره، وأخيراً رأى شيرين وهي جالسة في بركة الماء تعبث فيه وتداعبه، كأنها حورية جلست لتسحر من يرتاد ذلك المكان، فشخص إليها خسرو - وكان هو ذلك الشاب القادم - وقد ألهاه جمالها الفاتن عن كل ما عداه. وشعرت شيرين بوجود غريب قريباً منها، فالتفتت إلى الخلف. ولما رأت خسرو ارتبكت، فانسحب هو في حياء وانطلاق يعدو بجواده بعيداً عنها، وخرجت هي من الماء وارتدت ملابسها وامتطت شبديز فانطلق بها يسابق البرق. وهكذا التقى الحبيبان لأول مرة دون أن يعرف أحدهما الآخر، ثم افترقا وقلب كل منهما يحدثه أنه رأى حبيبه

وفي (الشكل 4) نرى شيرين وهي جالسة في بركة الماء، وإلى جوارها وقف (شبديز) جوادها الأسود الأصيل، وعلى ظهره غطاء جميل، وهو يصهل كأنه ينبهها لوجود (خسرو) الواقف بجواده على مقربة، وقد وضع سبابته في فمه لشدة ما اعتراه من تأثر عند رؤيته شيرين بجمالها الفاتن، وقد صار وضع السبابة في الفم من التقاليد التي اتبعها الفنانون في تصويرهم خسرو عند رؤيته لشيرين، كما نرى ذلك في صور كثيرة لهما، وهذه الصورة من تصوير (سلطان محمد) أحد مشاهير مصوري عصر الشاه طهماسب، وهي مخطوط نظامي السابق ذكره المكتوب لهذا الشاه

وقد صور المصور (رضا عباسي) في القرن العاشر الهجري صورة شيرين واقفة وهي تخرج من الماء شبه عارية، وهذه الصورة محفوظة في مكتبة الدولة ببرلين

(له بقية)

محمد مصطفى

أمين مساعد دار الآثار العربية